لن نكون أمام معالجة شاملة قريبة للأزمة السوريّة، لكنّنا سنشهد حتمًا انطلاقة مجموعة من التسويات بين الأطراف الخارجيّة المعنية في سوريا.
علي نور الدين
من المبكر الحديث اليوم عن نهاية حاسمة للأزمة السوريّة، التي بدأت بثورة شعبيّة عارمة عام 2011 ضد نظام الأسد، وتحوّلت تدريجيًا إلى حرب أهليّة انتهت بتقاسم مناطق النفوذ، بين النظام والأطراف الإقليميّة والمليشيات المختلفة.
فحتّى اللحظة، مازالت الميليشيات المحسوبة على تركيا، وبعض الفصائل الإسلاميّة، تسيطر على مناطق واسعة من محافظات إدلب وحلب والرقّة والحسكة شمال سوريا. كما مازالت قوّات سوريا الديموقراطيّة، ذات الصبغة الكرديّة، تسيطر على شمال شرقي سوريا، على امتداد منطقة توازي ربع مساحة سوريا الإجماليّة.
وحتّى في المناطق المحسوبة على النظام شكلًا، مازالت الميليشيات الحليفة لنظام الأسد، وخصوصًا تلك المحسوبة على إيران، تحتفظ بسيطرتها على العديد من المناطق التي استعادتها من قوّات المعارضة. وفي الكثير من الأحيان، ترسّخ حضور هذه الميليشيات محليًا، إلى حد بناء شبكة من المصالح الاقتصاديّة العميقة، ما يعقّد مهمّة سحبها لاحقًا.
وعلى النحو عينه، تحافظ روسيا على تأثيرها الكبير على بعض أذرع النظام العسكريّة والأمنيّة، كما تحتفظ بنشاط أمني واسع النطاق عبر مجموعة “فاغنر“، التي تعمل كشركة عسكريّة روسيّة خاصّة تقدّم خدمات مدفوعة الأجر.
وفوق ذلك، تمتلك روسيا سطوة عسكريّة إضافيّة، عبر العديد من الميليشيات المحليّة التي قاتلت سابقًا في صفوف المعارضة، قبل أن تعقد مصالحات مع النظام، بوساطات من الضبّاط الروس. وحتّى اللحظة، مازالت روسيا تراهن على هذه الميليشات لمنافسة حليفتها إيران في حضورها الأمني، داخل سوريا.
لكل هذه الأسباب، يبدو من الواضح أن التشرذم الذي تعيشه سوريا اليوم يجعلها بمنأى عن أي حل سياسي قريب شامل ومتكامل. بل وعلى العكس تمامًا، ستحتاج البلاد إلى المرور بسلسلة طويلة من المساومات المعقّدة والمتشابكة، والتي ستتم حتمًا على وقع تبادل المصالح بين الأطراف الإقليميّة المؤثّرة في المشهد السوري. ومن الأكيد أن هذه المساومات سترتبط في جزء منها بالمعالجات المطلوبة لحل أزمة النازحين، المتعلقة بدورها بالأوضاع الداخليّة في العديد من الدول المجاورة. وجميع هذه الإشكاليّات، قد تحتاج إلى سنوات طويلة من التفاوض والأخذ والرد، قبل معالجتها.
ورغم كل ذلك، يمكن القول إنّ الملف السوري شهد مؤخّرًا بعض التطوّرات والمستجدات، التي تشير إلى أنّ العمل على العديد من التسويات الإقليميّة قد بدأ بالفعل، وفي الملف السوري بالذات، وإن كان إنضاج هذه التسويات سيستغرق بعض الوقت.
بمعنى أوضح، لن نكون أمام معالجة شاملة وفوريّة قريبة للأزمة السوريّة، لكنّنا سنشهد حتمًا انطلاقة مجموعة من الصفقات بين الأطراف الخارجيّة المؤثّرة في الأزمة السوريّة. وهذه الصفقات، ستمهّد تدريجيًا لتسوية الكثير من الملفّات العالقة في الشأن السوري.
فمن مؤشّرات التسويات الإقليميّة مثلًا، اتجاه العديد من الدول العربيّة إلى تطبيع علاقاتها مع النظام السوري، بعدما قامت المملكة العربيّة السعوديّة بتطبيع هذه العلاقة فعليًا مع دمشق. ومن هذه الزاوية أيضًا، يمكن قراءة عودة سوريا إلى الجامعة العربيّة، ما يمهّد لفك عزلتها الإقليميّة، واستعادة علاقاتها العربيّة. مع الإشارة إلى أنّ العديد من الدول العربيّة كانت قد عملت على مدى السنوات الماضية على تطبيع علاقتها بالنظام السوري، كحال الإمارات العربيّة المتحدة والأردن مثلًا.
وإلى جانب استعادة سوريا بناء علاقاتها العربيّة تدريجيًا، فقد عادت تركيا مؤخرًا إلى تزخيم مشاوراتها المباشرة مع دمشق، بوساطات إيرانيّة وروسيّة، تمهيدًا لتطبيع العلاقة بين البلدين وعقد صفقات تعالج الملفّات العالقة بينهما. وهذا المسار الشائك، يُفترض أن يسير بخطى أسرع، بعد انتهاء الانتخابات الرئاسيّة التركيّة.
في كل هذا المشهد، يبدو من الواضح أن جميع الدول التي دعمت الثورة السوريّة بهدف إسقاط النظام في البداية، باستثناء قطر، عادت لترتّب أوراقها وتخفض من سقف طموحاتها. كما عادت هذه الدول لتفتح قنوات اتصالها مع النظام السوري، سعيًا لعقد تفاهمات ومساومات حول النقاط الخلافيّة معه، في قطار من التسويات المتتالية.
وجميع هذه التسويات المتعلّقة بسوريا، باتت تسهلها جملة من التطورات الإقليميّة الأخرى، كاستعادة التواصل المباشر بين الرياض وطهران، وتقاطع المصالح الروسيّة السعوديّة في العديد من الملفّات الاقتصاديّة والسياسيّة.
ومع انطلاق قطار التسويات هذا، يصبح من الضروري السؤال: ما هي المكاسب التي تمكّنت كل قوّة إقليميّة من تحقيقها في الأزمة السوريّة حتّى الآن؟ وكيف تسعى هذه الأطراف إلى التمسّك بمكتسباتها؟ وما هي الطموحات التي سيسعى كل طرف إلى تحقيقها في مرحلة التسويات؟ وفي الوقت الراهن، ما هي التحديّات والخسائر التي تكبّدها كلّ من الأطراف الإقليميّة التي انخرطت في هذا الصراع، وكيف سيسعى كلّ طرف الى التعامل معها؟
تركيا: هواجس الأكراد واللاجئين ومكاسب منطقة النفوذ
بالنسبة لتركيا، تمثّل منطقة النفوذ التي تسيطر عليها في الشمال السوري أبرز مكتسباتها، حيث تزيد مساحة هذه المنطقة عن ال8835 كلم2، وتضم مئات البلدات والقرى. ومن المعلوم أنّ تركيا تعتمد على ميليشيات وإدارات محليّة لإدارة هذه المناطق، بينما سعت لربط هذه المنطقة اقتصاديًا وتجاريًا بالداخل التركي بأشكال مختلفة. كما حرصت تركيا على إنشاء نقاط مراقبة عسكريّة في تلك المناطق، بهدف ضمان هيمنتها المطلقة عليها، والإشراف على عمل الميليشيات المحليّة هناك.
تدرك تركيا أنّ هذه السيطرة العسكريّة ستبقى موضع تحفّظ من جانب النظام السوري، الذي يصر في جميع محادثاته مع المسؤولين الأتراك على ربط هذه المناطق إداريًا وأمنيًا بالدولة السوريّة.
وفي الوقت نفسه، تدرك تركيا أيضًا أنّ الاحتفاظ بالوجود العسكري في هذه المنطقة على المدى الطويل قد يكون هدفًا صعب المنال، إذا دخلت سوريا لاحقًا في مرحلة التسويات الإقليميّة، بالنظر إلى تعارض هذا الوجود مع أبسط بديهيّات الأعراف الدوليّة.
لهذا السبب، من المرجّح أن تضطر تركيا في المستقبل للوصول إلى تسوية تعيد هذه المنطقة إلى السيادة السوريّة، ولو شكليًّا عبر مصالحات تعترف بموجبها المليشيات المسيطرة هناك، بالنظام السوري، مع بقاء الميليشيات واحتفاظ تركيا بسطوتها على تلك المناطق بعد المصالحات. وهذا السيناريو، هو تحديدًا ما قامت به روسيا في الجنوب السوري، مع العديد من فصائل المعارضة التي عقدت مصالحات مع النظام السوري بوساطة روسيّة، وأنهت تمرّدها، مقابل إبقاء ولائها كميليشيات محليّة للضباط الروس.
ورغم أنّ هذه التسوية ستضمن استمرار نفوذ تركيا في الشمال السوري، إلا أنّها ستُعتبر عمليًا تنازلًا من جانب تركيا عن جزء من مكاسب حربها في سوريا. وهذا التنازل، لن يتم من دون تنازلات أخرى بالمقابل، من جانب النظام السوري. وهنا تحديدًا تظهر الخسائر والتحديات التي تعاني منها تركيا، والتي ترغب بالتعامل معها في إطار التسويات المقبلة، عبر الحصول على التزامات معيّنة من جانب النظام السوري.
التحديان الماثلان أمام تركيا هما أولًا ملف اللاجئين، الذي بات يضغط على النظام التركي شعبيًا في الداخل. وثانيًا، ملف قوّات سوريا الديمقراطيّة، ذات الأغلبيّة الكرديّة، والتي تسيطر على مناطق سوريّة واسعة محاذية للحدود مع تركيا.
وكما هو معلوم، لا ترى تركيا في قوّات سوريا الديمقراطيّة إلا امتدادًا لتجربة حزب العمّال الكردستاني، المصنّف كجماعة إرهابيّة من قبلها. كما ترى تركيا في النشاط العسكري الكردي في سوريا، المحاذي حدودها الجنوبيّة، خطرًا يمكن أن يثير طموحات خاصة لدى أكراد تركيا. وهذان التحديان، يمثّلان أبرز مشاكل تركيا في الأزمة السوريّة، والتي يرغب النظام التركي بمعالجتها.
لذلك، وفي مقابل انسحابها من سوريا، والتنازل عن مكسب حضورها العسكري المباشر هناك، تطلب تركيا بشكل صريح أن تصل إلى تفاهمات مع سوريا حول ملف اللاجئين الموجودين في تركيا. وهذه المعالجات، يمكن أن تكون –بحسب المفاوضين الأتراك- على شكل معالجات أمنيّة وسياسيّة تفضي إلى عودة اللاجئين بشكل طوعي وآمن إلى مناطقهم. كما تطلب تركيا في الوقت عينه تصفية وجود قوّات سوريا الديموقراطيّة في الشمال السوري، وبموجب ترتيبات تنهي الإدارة المدنيّة التي تفرضها هذه القوّات هناك.
دول الخليج: أولويّات متباينة
من الواضح حتّى اللحظة أنّ أولويّات دول الخليج تقوم على حسابات متباينة إلى حد بعيد. المملكة العربيّة السعوديّة، لعبت في بدايات النزاع المسلّح دورًا أساسيًا في تمويل وتنظيم تنظيمات المعارضة السوريّة المُقاتلة، بعدما وضعت نصب عينيها إسقاط نظام الأسد كهدف رئيسٍ ونهائي.
لكن كما بات واضحًا، وضعت المملكة اليوم كل هذه الطموحات جانبًا، بعدما فشلت أخيرًا في الاحتفاظ بأي مساحة نفوذ في الداخل السوري، من خلال التنظيمات المسلّحة التي كانت تتأثّر بقرار الرياض السياسي. ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن السعوديّة، وبخلاف تركيا، لم تخرج بمكاسب وازنة تستطيع التفاوض عليها.
في المقابل، تمتلك الرياض اليوم هواجس وخسائر ترغب بالتعامل معها في هذا الملف، وخصوصًا من جهة الخطر الأمني الذي ينطلق باتجاهها من الأراضي السوريّة. فالمملكة تعتقد منذ سنوات أن خصومتها مع دمشق دفعت النظام السوري إلى تسهيل عمليّات تهريب المخدرات، وتحديدًا الكابتاغون، من سوريا إلى الأراضي السعوديّة. وطوال الفترة الماضية، عملت السعوديّة جاهدة لمكافحة هذه الظاهرة، نظرًا لوجود مساحات صحراويّة واسعة النطاق على حدودها الشماليّة تسهّل تلك العمليات.
اليوم، تشير المصادر التي تواكب المفاوضات السوريّة السعوديّة إلى أن المملكة عرضت على النظام السوري عقد صفقة تستهدف إعادة دمج سوريا بمحيطها العربي، لقاء تعهّد النظام السوري بمكافحة إنتاج وتصدير الكابتاغون على أراضيه، مقابل تلقّي سوريا رزمة من التعويضات والمساعدات الماليّة.
ومن المفترض أن تشمل هذه الصفقة مجموعة من الحوافز التي سيتلقاها النظام السوري، من قبيل فتح الأسواق التجاريّة العربيّة أمام الصادرات السوريّة بشكل أكبر، وتسهيل العمليّات التجاريّة مع دمشق. أمّا على المدى الأبعد، فمن الأكيد أنّ المملكة ستتطلّع إلى لعب دور اسثتماري في سوريا، ضمن عمليّة إعادة الإعمار، إلا أنّ هذه المسألة ستبقى عالقة بانتظار حلحلة إشكاليّة العقوبات المفروضة على نظام الأسد.
على المقلب الآخر، تبدو قطر أكثر تحفّظًا في اتخاذ خطوات التطبيع مع النظام السوري، ربما بفضل امتلاكها بعض المكاسب وأوراق الضغط التي يمكن استعمالها قبل تسوية الخلاف مع دمشق، وتحديدًا من خلال النفوذ القطري الاقتصادي والسياسي في مناطق شمال سوريا، التي تسيطر عليها تركيا.
وحتّى اللحظة، لم تحدد الدوحة بشكل واضح شروطها للقبول بتطبيع علاقتها بالنظام السوري. إلا أنّ الحسابات القطريّة قد ترتبط بحسابات حليفها أردوغان، وبمستقبل التسوية السياسيّة مع المعارضة في شمال سوريا، وهذا ما يدفع الدوحة إلى التريّث قبل فتح الأوراق الآن وتطبيع العلاقة مع دمشق.
في المقابل، سبقت الإمارات جيرانها الخليجيين في التطبيع مع نظام الأسد منذ 2018، حيث تخلّت منذ ذلك الوقت عن رهانات إسقاط النظام. ومنذ تطبيع العلاقة بين الطرفين، باتت الإمارات تنتظر بشكل واضح معالجة مسألة العقوبات الأميركيّة، للدخول في صفقات استثماريّة في قطاع الطاقة في سوريا، وخصوصًا بعد أن وقّعت الدولتان اتفاقيّات لتعزيز التعاون الاقتصادي بينهما عام 2021. وتجدر الإشارة إلى أنّ الإمارات تمثّل الشريك التجاري الأوّل لسوريا عربيًا، والثالث عالميًا، حيث تستحوذ الإمارات وحدها على نحو 14% من تجارة سوريا الخارجيّة.
سائر الأطراف الإقليميّة: هواجس ومكاسب
إيران، تمثّل الطرف الأقوى في المعادلة السوريّة، من بين جميع الأطراف الإقليميّة. فبالإضافة إلى انتصار حليفها بشّار الأسد، واحتفاظه بالسلطة، تمكنت الميليشيات الإيرانيّة من الحصول على مكاسب استثماريّة وتجاريّة في العديد من القطاعات الاقتصاديّة السوريّة، بينما تحافظ الميليشيات الموالية لإيران على سيطرتها في العديد من مناطق سوريا.
وفي الوقت عينه، مازال حزب الله، الميليشيا الحليفة لإيران في لبنان، يسيطر على مناطق واسعة في غرب وجنوب سوريا. ومن الأكيد أنّ الحزب سيستعمل هذه المكتسبات كمساحات للعمل الأمني والعسكري ضد إسرائيل، من داخل سوريا، ضمن إستراتيجيّة توسيع الجبهات التي يعتمدها في مواجهة إسرائيل منذ سنوات. وبعكس تركيا، يبدو أنّ إيران لن تضطر للتفريط بأي من هذه الأرباح والمكتسبات خلال السنوات المقبلة. بل من الأكيد أن إيران ستحاول استثمار كل هذه المكاسب والبناء عليها، عبر تكريس حضورها في سوريا عسكريًا واقتصاديًا، بالتنسيق مع النظام نفسه.
أمّا الأردن، فيبدو أنّه لم يتمكّن من حصد أي مكاسب سياسيّة في الملف السوري، رغم انخراطه في دعم العمليّات العسكريّة في بدايات النزاع المسلّح. في المقابل، وتمامًا كحال تركيا، تواجه الأردن قضية اللاجئين الموجودين على أراضيها. لكنها –وبعكس تركيا- لا تملك أي أوراق لتفاوض النظام السوري على أساسها، من أجل معالجة هذه المسألة. مع الإشارة إلى أنّ الأردن طبّع أساسًا علاقته مع النظام السوري منذ العام 2018، وفتح أبواب التنسيق معه، من دون التفاوض مسبقًا على موضوع اللاجئين.
خلاصة الأمر، ستحتاج سوريا إلى سنوات طويلة قبل أن تنجز مسار التسويات الإقليميّة، القادرة على إنهاء الأزمة بجوانبها العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة. لكن حتّى ذلك الوقت، فإنّ خارطة المطالب والمصالح والتحديات التي يملكها كل طرف باتت واضحة للجميع، كما صار بالإمكان توقّع المساومات التي ستسعى كل قوّة إقليميّة الى تحقيقها في سوريا.
أمّا السؤال الأهم، فهو عن قدرة سوريا على تحقيق ازدهار واستقرار اقتصادي على المدى الطويل، حتّى لو تمكنت القوى الإقليميّة من معالجة خلافاتها داخل سوريا.