فشلت محاولة الانقلاب العسكري في تركيا يوم الجمعة الماضي الموافق الخامس عشر من يوليو، إلا أنّ مستقبل الديمقراطية في البلاد، وبقاءها كدولة قومية، لا يزال قاتماً.
غالباً ما تضج ليلة الجمعة في اسطنبول بالحركة، خصوصاً في فصل الصيف، حيث تكتظ الشوراع بحركة المرور وتعج الحانات والأماكن العامة بالناس. يعتبر مشهد المدرعات أمراً طبيعياً على الطرقات التركية، نظراً للمكانة البارزة للجيش في الحياة التركية والوضع الأمني الهش الذي شهدته البلاد منذ العام الماضي.
ولكن عندما أغلق جسر البوفسور الشهير، الذي كان مضاءً بألوان العلم الفرنسي تضامناً مع أحداث نيس، بالدبابات العسكرية الخضراء في الساعة السابعة والنصف مساءً، شعر المارة أن أمراً ما يحصل. كما تم أيضاً، في نفس الوقت، إغلاق جسر السلطان محمد الفاتح، وهو جسرٌ آخر يربط بين القسم الأوروبي والآسيوي في اسطنبول. كما ظهرت طائرات عسكرية تحلق في سماء كلٍ من اسطنبول والعاصمة أنقرة. وبعد نصف ساعة من ذلك، أصدر رئيس الوزراء بن علي يلدرم بياناً صرّح فيه أنّ حكومته تتعرض لإنقلاب.
هاجمت المقاتلات والجنود الإنقلابيون مقر قيادة الجيش في أنقرة، واحتجز رئيس هيئة الأركان، كما أغلقت قواتٌ إنقلابية أخرى مكاتب الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية. واقتحم جنودٌ مسلحون مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية، تي آر تي، وأجبرت مذيعة القناة على قراءة البيان العسكري الإنقلابي.
من يقف وراء الانقلاب؟ بقي هذا السؤال بلا إجابة. فقد كان من النادر رؤية إحدى المدنيات تقرأ بياناً إنقلابياً، وبخاصة أنّ المجموعة المتهمة تُطلق على نفسها اسم “مجلس السلام،” الذي يبدو وكأنه محاكاة ساخرة لـ”المجلس العسكري” الذي يُنشأ عادةً بعد الإنقلاب. وقد أشارت التكهنات الأولية من قِبل المحللين إلى الصراع التقليدي بين الجنرالات العلمانيين والإسلاميين.
ومن ثم، وخلال النقل المباشر للأحداث على القناة التركية المعارضة، سي أن أن التركية، وفي حوالي الساعة 9.30 مساءً، رفعت مذيعة الأخبار هاتفها المحمول “آي فون” أمام الكاميرا: كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتحدث مباشرة عبر تطبيق “فايس تايم” من مكانٍ مجهول. ودعا الشعب، والقلق بادٍ على وجهه، إلى النزول إلى الشوارع والتصدي لسيطرة فصيل المتمردين من الجيش، كما تعهد بالوصول إلى العاصمة بأقرب وقتٍ ممكن. ومن الجدير بالذكر أن تاريخ القوات المسلحة التركية، النسخة المعدلة عن الجيش العثماني، يعود إلى عام 1920. وخلافاً للجيش العثماني، الذي كان يُعرف بجيش محمد، حامي الإمبراطورية والإسلام أينما انتشرا، إلا أنّ الجيش التركي كان قومياً ووسطياً، وقبل كل شيء، علمانياً، فالجيش مكلفٌ بالدفاع عن الجمهورية التركية العلمانية.
وعلى صعيدٍ آخر، فقد كان معظم رؤساء تركيا من الضباط السابقين. وعلى الرغم من إدخال الإنتخابات في مرحلةٍ مبكرة، إلا أن تركيا ظلت ديمقراطية غير مكتملة تديرها النخبة العسكرية من وراء الكواليس. وخلال القرن الماضي، كلما خرجت العملية السياسية عن مسارها، وكلما اختلف الجنرالات على بعض السياسات، نظموا انقلاباً عسكرياً. فقد عرقلت أربعة إنقلابات عسكرية السياسة التركية في ذلك الوقت، إذ كان من المفترض أن تكون محاولة الإنقلاب في الخامس عشر من يوليو، الإنقلاب الخامس في تاريخ البلاد.
هزت الإنفجارات والعيارات النارية كلاً من اسطنبول وأنقرة، وهاجمت طائرات الهليكوبتر مدينة مرمريس الساحلية، التي تبعد 700 كيلومتر جنوب اسطنبول، حيث كان الرئيس أردوغان يقضي إجازته. في حين اقتحمت قوات أخرى مطار اتاتورك باسطنبول، الذي كان لا يزال يتعافى من أسوء هجومٍ إرهابي تعرض له قبل أسبوعين، كما حوصر مبنى البرلمان في أنقرة. توقف بث قناة تي آر تي، وسادت الريبة وخصوصاً بعد انتشار شائعاتٍ حول هروب أردوغان من البلاد.
في خضم هذا كله، أصدر وزير العدل بياناً يتهم فيه “الكيان الموازي” بالوقوف وراء هذه المؤامرة. كان يُشير إلى تنظيم عدو أردوغان اللدود، الزعيم الإسلامي فتح الله غولن، وهو في السبعينات من العمر ويعيش في منفى إختياري في ولاية بنسلفانيا، في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1999. زعيمٌ روحي له احترامه، دعا إلى إعادة أسلمة تركيا ويمتلك شبكة من الشركات والمدارس التي تنشر تعاليمه. وقد كان قادراً على اختراق المؤسسات المختلفة في تركيا، بما في ذلك الجيش والشرطة، وبالتالي لُقب تنظيمه بالكيان الموازي. ساعد أردوغان بالوصول إلى السلطة، ولكن اختلف الطرفان فيما بعد.
اعتبر خطاب أردوغان عبر تطبيق فايس تايم، من قِبل العديدين، سبب احتفاظه بعرشه. فقد اقتحم الجنود الإنقلابيون قتاة سي إن إن التركية بعد بث الخطاب بوقتٍ قصير وقاموا بإغلاقها، الذي كان على ما يبدو رداً على بث القناة للخطاب.
ولكن، كان الوقت قد فات. فقد وجدت كلمات أردوغان آذاناً صاغية لدى المسؤولين في حكومته وكذلك بين قوات الأمن والجيش: لا يزال داخل البلاد. كما تردد صداها أيضاً بين صفوف مؤيديه. وقف العديد من قادة الجيش السابقين والحاليين مع أردوغان، واشتدت الاشتباكات بين الانقلابيين وأولئك الذين بقوا مخلصين للمؤسسات الديمقراطية: تم الإبلاغ عن اندلاع معارك برية وجوية، وسقوط العديد من الضحايا أيضاً.
وقبل وقتٍ قصيرٍ من منتصف تلك الليلة، ألقى رئيس الوزراء يلدريم خطاباً في البرلمان، متهماً، مرة أخرى، غولن بالوقوف وراء الإنقلاب. وبعد بضع دقائق، أُعلن هبوط طائرة أردوغان في اسطنبول. وبحلول ذلك الوقت، كان مئات الآلاف من الأتراك يجوبون شوارع تركيا، يطوقون الدبابات والمدرعات مما جعل من الصعب على قوات الإنقلابيين المناورة. أجبرت الحشود الهاتفة قوات جيش الإنقلابيين على الإنسحاب من المطار، حيث ظهر أردوغان أمام العامة. أصبح المطار، الذي يحميه عشرات الآلاف من أنصاره، ملاذه طوال تلك الليلة.
ومنذ البداية، أعلنت أحزاب المعارضة رفضها للإنقلاب، في حين استغرق المجتمع الدولي وقتاً لإدانة الأحداث. بدأ المتمردون بالاستسلام في أعقاب النتائج على الأرض وأفرج عن رئيس هيئة الأركان. كما تعرض مقر المخابرات في أنقرة إلى هجومٍ بائسٍ من إحدى طائرات الهليكوبتر في ساعة مبكرة من صباح يوم السبت، ولكن بحلول ذلك الوقت، كان الإنقلاب قد أوشك على نهايته بالفعل.
واصلت بعض الجيوب مقاومتها يوم السبت، ولكن كان أردوغان قد عاد إلى مساره الصحيح. فقد قام إلى جانب مجموعة من أعضاء حكومته وحزبه بالظهور في الأماكن العامة للتنديد بغولن وشد أزر مؤيديه، بينما جرت عملية تطهير للشخصيات المشتبه بتأييدها للإنقلاب، والتي شملت الآلاف من ضباط الجيش والجنود ورجال الشرطة والقضاة، وما إلى ذلك. واعتقل الفريق أول أكين أوزتورك، قائد سلاح الجو التركي السابق، يوم السبت واتهم بقيادة الإنقلاب. كان أردوغان يُحيّد الجيش، ويعمل على إضاعفه أيضاً.
فعلى ما يبدو أن مدبري الإنقلاب لم يحظوا بالتأييد الكافي داخل الجيش، ومن المؤكد أنهم يفتقرون إلى الدعم السياسي والشعبي. فلم تتضح فوراً دوافعهم لخوض غمار هذه المخاطرة، إلا أنه ما بات جلياً منحهم الرئيس أردوغان تفويضاً مطلقاً لتوسيع صلاحياته. فقبضته السلطوية ستشتد بعد هذه الأحداث، وتدل الأعداد الكبيرة للأشخاص الذين ألقيّ القبض عليهم أنه شرع في تصفية حساباته. بل إن ما سيتمخض عن محاولة الإنقلاب الفاشل تلك، تركيا مقسمة في منطقة مشتعلة وغير متوقعة.
ففي نهاية المطاف، وعلى الرغم من نجاتها من انقلابٍ عسكري، إلا أن الآفاق المستقبلية للجمهورية التركية لا تبدو مشرقة.