في أعقاب اشتبكاتٍ مع جماعةٍ متمردة منافسة كانت حليفتها في السابق، سيطرت هيئة تحرير الشام (المعروفة سابقاً باسم جبهة النصرة) على محافظة إدلب السورية في 23 يوليو 2017. وبدى أنّ الاستيلاء على المحافظة مسمارٌ آخر في نعش الثورة السورية، ولكن من المحتمل ان يكون التوسع مُهلكا لهيئة تحرير الشام.
وتؤكد سيطرة هيئة تحرير الشام على أن المحافظة- التي لجأ إليها آلاف السوريين النازحين داخلياً بمن فيهم المقاتلون المتمردون وأسرهم بعد فرارهم من المناطق التي استولى عليها النظام- ستصبح هدفاً للهجمات التي تشنها الحكومة السورية وحليفتها روسيا، دون تدخلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية أو حلفائها.
وفي الواقع، وبعد أن هاجم مسلحوا هيئة تحرير الشام القوات الحكومية في حماة في منتصف سبتمبر، شنت روسيا حملةً جوية مكثفة. وقالت جماعات المعارضة والمراقبون إن الحملة استهدفت البنية التحتية المدنية بما فيها المستشفيات مما أسفر عن مصرع أكثر من 150 مدنياً.
وقد نفى الروس قتلهم للمدنيين وادعوا أن الضربات الجوية أسفرت عن إصابة قائد هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، بإصاباتٍ خطيرة، مما تسبب بدخوله بغيبوبة. بدورها نفت هيئة تحرير الشام ذلك وأعلنت أن الجولاني يتمتع “بصحةٍ جيدة.”
وتعتبر السيطرة على إدلب ذات أهمية ذلك أنها آخر المحافظات التي لا تزال تحت سيطرة المتمردين بالكامل. فقد تم الاستيلاء على مدينة إدلب من أيدي النظام السوري في عام 2015 من قِبل تحالف من جماعات المتمردين يتضمن ما كان يُسمى آنذاك بجبهة النصرة وأحرار الشام الأكثر اعتدالاً، التي أصبحت فيما بعد الفصيل المنافس الرئيسي لجبهة النصرة في المنطقة.
وفي عام 2016، غيّرت جبهة النصرة اسمها إلى جبهة فتح الشام وأعلنت قطع علاقاتها مع القاعدة. ولم تكن إعادة التسيمة ناجحة تماماً، فقد شكك العديد من المراقبين بإنفصال الجماعة حقاً عن القاعدة، إذ رأوا في الإنقسام المزعوم مجرد تحايلٍ تسويقي في المقام الأول. كما واصل العديد منهم الإشارة إلى الجماعة باسمها القديم.
ولبعض الوقت، تمكنت جبهة فتح الشام من إقامة تحالفٍ من جماعات المتمردين تحت اسم هيئة تحرير الشام، ولكن سرعان ما نشأ صراعٌ على السلطة بين الجماعة وأحرار الشام، حيث تنافس الفصيلان للسيطرة على المناطق الرئيسية في إدلب.
وعندما سيطرت هيئة تحرير الشام على مدينة إدلب ومساحات كبيرة من المحافظة في يوليو 2017، اندلعت الاحتجاجات في بعض المناطق، حيث سعى السكان إلى طرد مسلحي هيئة تحرير الشام. وفي مدينة سراقب، فتح المسلحون النار على المتظاهرين، مما أسفر عن مقتل عددٍ منهم بمن فيهم ناشطٌ إعلامي. ووسط الاحتجاجات، انسحب المقاتلون من المدينة، تاركين إدارتها للمجلس المحلي.
ومع ذلك، حظيت الجماعة أيضاً بدعم العديد من المدنيين الذين لا يؤيدون بالضرورة أيديولوجيتها الإسلامية، إلا أنهم ينظرون إليها باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على المحافظة على إدلب من السقوط في أيدي النظام السوري.
حاولت هيئة تحرير الشام بسط سيطرتها على حياة المدنيين في المحافظة. فقد قامت بإنشاء الإدارة المدنية للخدمات، المُعدة لتكون بمثابة الذراع المدني لإدارة المجلس المحلي والخدمات العامة. طالبت الهيئة مجلس إدلب بتسليم الأقسام الإدارية الرئيسية، وعندما رفض المجلس، اقتحم مقاتلوا هيئة تحرير الشام قاعة المدينة وطردوا الموظفين. وأفادت التقارير أيضاً بأن الجماعة احتجزت نشطاء إعلاميين يعتبرون معاديين لها.
وقد أثار الاستيلاء مخاوف بشأن احتمال انسحاب منظمات المساعدات الأجنبية وتجدد القصف من جانب القوات الروسية والسورية. فقد عم الهدوء النسبي المحافظة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، عندما توصلت إيران وروسيا وتركيا إلى اتفاقٍ لإنشاء أربع مناطق “لتخفيف حدة التصعيد” في سوريا، بما في ذلك محافظة إدلب. وسرعان ما أوضحت الولايات المتحدة الأمريكية أنه في حال هاجم الروس إدلب في أعقاب استيلاء هيئة تحرير الشام، فلن تحاول وقف الهجوم.
وقال المسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية عن السياسة في سوريا، مايكل راتني ،إنه “في حالة هيمنة جبهة النصرة على إدلب سيكون من الصعب على الولايات المتحدة إقناع الأطراف الدولية بعدم اتخاذ الإجراءات العسكرية اللازمة.”
2017وبكل تأكيد، عندما بدأت الحملة الجوية الروسية، لم تتدخل الولايات المتحدة، وكان عدد القتلى مرتفعاً. وتفاخرت وسائل الإعلام السورية بأن الغارات الجوية الروسية قتلت 2359 مسلحاً وأصابت 2700 شخص في الفترة ما بين 19 و29 سبتمبر.
غير أن المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يتخذ من لندن مقراً له، قال بأن 163 مدنياً، بينهم 41 طفلاً و39 إمرأة، قتلوا أيضاً في الغارات الجوية وأصيب المئات بجروح. وأفاد الدفاع المدني في إدلب، وهو جزءٌ من مجموعة الإنقاذ المعروفة باسم “الخوذ البيض،” عن مقتل أكثر من 150 مدنياً.
ووصف المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، إيغور كوناشينكوف الخوذ البيضاء بـ”المحتالين” ونفى التقرير، إذ قال إن “طائرات القوات الجوية الروسية لا توجه ضربات إلى مناطق سكنية في البلدات لتجنب سقوط ضحايا بين المدنيين. القوات الجوية الروسية تستهدف فقط قواعد الإرهابيين وآليات ومستودعات ذخائر تابعة لهم بعد تحديد مواقعها باستخدام طائرات من دون طيار وتأكيد ذلك من خلال قنوات أخرى.”
وفي الوقت نفسه، شن حزب الله اللبناني المسلح، الذي يدعم النظام السوري، هجوماً على خلايا هيئة تحرير الشام التي تنشط بالقرب من مدينة عرسال اللبنانية الحدودية. وكجزءٍ من اتفاق وقف إطلاق النار اللاحق، أعيد مسلحون من هيئة تحرير الشام إلى جانب أسرهم وغيرهم من المدنيين إلى سوريا في حافلات، حيث توجه العديد منهم إلى إدلب. ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، تم إجلاء 5288 شخصاً إلى أجزاء من محافظتي إدلب وحلب.
وبعد بدء الهجوم الروسي، أجبر العديد من العائدين والنازحين الذين باتوا يعيشون في إدلب مؤخراً على الفرار مرةً أخرى، لينتهي بهم المطاف في مخيماتٍ بالقرب من الحدود التركية. وفي 15 سبتمبر 2017، اتفقت روسيا وإيران وتركيا على الحدود النهائية لمناطق تخفيف حدة التصعيد، بعد أشهرٍ من المفاوضات. ولم تكن هيئة تحرير الشام طرفاً في الإتفاق، كما استنكرت مشاركة الجماعات المتمردة الأخرى في المحادثات.
ضاعفت الخسائر الناجمة عن القصف الروسي مصائب هيئة تحرير الشام الأخيرة، والتي تتضمن سلسلةً من الاغتيالات وانشقاق شخصياتٍ ذات ثقل في إدلب. وبالإضافة إلى ذلك، فمن غير المحتمل أن تسمح الحكومة السورية وحلفاؤها ببقاء المحافظة ذات الكثافة السكانية والموقع الاستراتيجي خارج سيطرتها. وقد تؤدي الإطاحة بهيئة تحرير الشام وتنفيذ اتفاق مناطق تخفيف حدة التصعيد إلى تقليل أعداد الخسائر بين المدنيين، إلا أن النتيجة النهائية في كلتا الحالتين قد تشهد بالتأكيد عودة سيطرة النظام على إدلب.