حاولت القيادة الفلسطينية جاهدة رفع شعار استقلالية القرار الفلسطيني منذ الاعتراف بمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني خلال مؤتمر القمة العربية في الجزائر عام 1973.
على الرغم من ان شعار استقلالية القرار لم يتحقق يوماً، الا أن جميع الزعماء الفلسطينيين يتحدثون دوماً عن دفاعهم عن القرار الفلسطيني المستقل. في حقيقة الامر، صناعة القرار السياسي الفلسطيني ليس منوطاً فحسب بأيدي قيادة المنظمة والسلطة الفلسطينية وقادة الأحزاب السياسية المختلفة، وانما الدور الإقليمي له تأثيرٌ مباشر على القرار الفلسطيني. يظهر هذا جلياً عند الاخذ بالحسبان مصالح دول الجوار، وخاصة كل من إسرائيل، ومصر، والأردن، وقطر، والامارات العربية، بالإضافة الى إيران وتركيا. جميع هذه الدول لها مصالحها الإقليمية، فيتم استخدام القضية الفلسطينية من اجل تحقيق مكاسب في سياستها الخارجية.
فقيادة منظمة التحرير وحركة فتح، الفصيل الأكبر في منظمة التحرير، تتهمان حركة حماس، التي تسيطر على قطاع غزة، بارتباطها بإيران وقطر وتركيا، بالإضافة الى ارتباطها بحركة الاخوان المسلمين العالمية. كما يتهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس خصمه السياسي اللدود والقيادي السابق في فتح، محمد دحلان، بارتباطه مع دولة الامارات والسعودية العربية. من ناحيتها تتهم حماس قيادة المنظمة وحركة فتح بالتعاون الأمني مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة الامريكية ضد المقاومة الفلسطينية. هذه الاتهامات المتبادلة لها ما يبررها وليست مجرد اتهاماتٍ باطلة.
الدور الإيراني مع فصائل المقاومة الفلسطينية
منذ أعوامٍ عديدة تدعم الجمهورية الإيرانية حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي بالمال والسلاح، وقيادة حركة حماس تتفاخر في هذا الامر وتدعو دولاً أخرى لدعم حماس مالياً وعسكرياً. ومن السذاجة التعاطي مع الدعم الإيراني بانه لا هدف من وراءه. ومن جهتها، تريد إيران اظهار عدائها لإسرائيل، ومن ناحية أخرى تستطيع ان تستخدم علاقتها بحركة حماس والجهاد الإسلامي كورقة ضغط على الدول الغربية في مفاوضاتها في ملفها النووي.
الدور القطري في قطاع غزة
يعتبر العديد من المراقبون الدور القطري في قطاع غزة محيراً وغير مفهوم. فمنذ أكثر من سبع سنوات تعمل قطر على دعم البنية التحية وتقدم المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، ووصلت تكلفة المشاريع المدعومة قطرياً أكثر من 700 مليون دولار. ففي أواخر عام 2018 على سبيل المثال، قامت قطر بشراء السولار لمحطة الكهرباء في قطاع غزة، التي تعاني من نقصٍ حاد في الكهرباء. كما تقدمت بمنحة قطرية قيمتها 15 مليون دولار شهرياً، يتم من خلالها دعم الفاتورة الشهرية للموظفين الحكوميين في قطاع غزة، حيث خفضت السلطة الفلسطينية مرتبات موظفيها في غزة بنسبة 20% في مايو 2018. سرعان ما واجه هذا التبرع بعض العقبات بسبب الحملة الإعلامية التي شنها وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق افيغدور ليبرمان ضد نتنياهو بسبب دخول الأموال القطرية عبر إسرائيل، حيث وصف ليبرمان المنحة القطرية بأنها دعم غير مباشر لحماس، المصنفة من قِبل العديد من ادول كمنظمة إرهابية.
ومع ذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي المصالح التي تهدف اليها قطر في دعم قطاع غزة؟ على الرغم من صغر الدولة الخليجية قطر، الا أنها ومنذ تأسيس الصوت الإعلامي الجزيرة أصبحت تمارس سياسة خارجية قوية في المنطقة، وتنافس كل من الامارات وحتى السعودية. كما تتمتع قطر بعلاقاتٍ جيدة سواء مع واشنطن وحتى مع الحكومة الإسرائيلية؛ إلا أنها في الوقت نفسه تسعى الى المحافظة على علاقاتٍ قوية مع حركة حماس.
في الوقت نفسه، اتهمت السعودية والامارات ومصر دولة قطر بدعمها للإرهاب، وهو ما رفضته دولة قطر جملةً وتفصيلاً. وصلت الأزمة إلى ذروتها في 5 يونيو 2017، عندما قطعت المملكة العربية السعودية ودول أخرى عدة علاقاتها الدبلوماسية مع قطر وفرضت حصاراً اقتصادياً على الدولة الخليجية. ومنذ ذلك الحين، سعت قطر إلى تقوية علاقاتها مع حماس، وربما ينبع ذلك من منطلق بأن “عدو عدوي صديقي.”
الدور المصري في ملف المصالحة والتهدئة مع إسرائيل
ينظر الفلسطينيين الى الدولة المصرية بالجارة الكبرى التي لا يمكن تجاوزها في صناعة القرار السياسي، إذ تحاول كل من منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وحركة حماس، جاهدةً، المحافظة على علاقاتٍ جيدة مع القاهرة، حيث تنظر حركة حماس الى مصر باعتبارها البوابة الوحيدة للعالم الخارجي عبر معبر رفح، المنفذ الوحيد للقطاع إلى العالم.
من جانبها ترى حركة حماس بأن ملف الأسرى والتهدئة مع إسرائيل لا يجب إلا أن يمر عبر القنوات المصرية. ولهذا السبب، هناك حركة نشطة من قبل قيادة جهاز المخابرات المصرية في قطاع غزة، ولعدة أشهرٍ في عام 2018، قامت بتنسيق المواقف بين الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس فيما يخص المظاهرات الأسبوعية المسمية بمسيرات العودة.
من جهتها، نصبت القيادة المصرية نفسها كقوةٍ إقليمية يمكنها التعامل مع إسرائيل والحفاظ على الهدوء في المنطقة. وقد رفع هذا من مكانتها وأهميتها في أوروبا والولايات المتحدة.
فالقاهرة تؤمن بأن المصالحة الفلسطينية الداخلية وبعد ذلك إتمام تهدئة شاملة بين حركات المقاومة الفلسطينية (حماس والجهاد الإسلامي) وإسرائيل، شرطٌ أساسي لرفع الحصار كلياً عن قطاع غزة وفتح معبر رفح بشكل دائم امام المواطنين.
لتحقيق ذلك، استضافت مصر سلسلةً من المحادثات بين فتح وحماس في النصف الثاني من عام 2018. إلا أن هذه الجهود فشلت عندما طالب عباس بإعادة قطاع غزة للسلطة الفلسطينية قبل استئناف المفاوضات.
على صعيدٍ آخر، تكللت الجهود المصرية في كل مرة بالنجاح فيما يتعلق بالتوتر الأمني الذي يحدث بين الحين والآخر بين حركة حماس وإسرائيل، واستطاعت ان توقف التصعيد العسكري بين الطرفين، وتعمل قيادة جهاز المخابرات المصرية بالتعاون مع مبعوث الأمم المتحدة الخاص، نيكولاي ملادينوف، لتثبيت التهدئة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة وخاصة حركة حماس.
التأثيرات الإسرائيلية على الشؤون الفلسطينية
يعدّ التنسيق الأمني مع إسرائيل أهم ما يميز العلاقة الحالية لإسرائيل مع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير. فالمفاوضات السياسية متوقفة فعلياً منذ يونيو 2014، حينما فشل جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، في التوصل الى تسوية بين الطرفين.
من منظورٍ سياسي، ترى الحكومة الإسرائيلية أن من مصلحتها الإبقاء على الانقسام الفلسطيني الداخلي إلى جانب وجود حكومة فلسطينية في رام الله تعمل على إبقاء التنسيق الأمني، وحكومة أمر واقع في غزة تديرها حماس، مفروضٌ عليها حصار سياسي واقتصادي وحركة محدودة جداً للدخول او الخروج من قطاع غزة.
وبالطبع، لا تقبل إسرائيل بوجود حماس، إلا أنها في نفس الوقت غير مستعدة للدخول في عملية عسكرية كبيرة في غزة للإطاحة بحكم حماس، خاصة وأن احتمالية وجود خسارة مادية وبشرية ستكون عالية جداً. وعلاوةً على ذلك، لا تريد إسرائيل احتلال قطاع غزة مجدداً، وعليه ترى إسرائيل ان وجود حماس في غزة هو أفضل الشرور.
كان الاعتقاد في السابق بأن الصراع الفلسطيني الاسرائيلي تحكمه وتتدخل به قوى اقليمية ودولية. نعم، ولكن هذا جزءٌ من الصورة. فالصورة الأكبر تشير إلى أن المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية لم تعد ايضاً شأناً داخلي، بل إن من يعتقد ذلك لا يعي مدى تغول القوى الاقليمية والدولية في الشأن الفلسطيني الداخلي منذ عقد من الزمان.