منذ بداية شهر أغسطس 2018، نشط الحديث في الوسائط الإعلامية العربية والدولية عن إمكانية وجود صفقة تهدئةٍ يتم التحضير لها بهدوء تام خلف الكواليس بين حركة حماس وإسرائيل، بمعية الأمم المتحدة ومصر وقطر.
فقد ذكر موقع كان الإسرائيلي، بتاريخ 5 اغسطس، إن حركة حماس قريبة جداً من التوقيع على اتفاق التهدئة مع إسرائيل. وأوضح الموقع الإلكتروني أن بنود الاتفاق التي عمل عليها منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف لإنقاذ قطاع غزة، والتي تحدث بشأنها مراتٍ عدة مع كل من الجانب الإسرائيلي والفلسطيني، وتتضمن وقف إطلاق النار بين الطرفين مقابل رفع الحصار بشكلٍ تدريجي عن قطاع غزة. يتم ذلك من خلال مرحلتين، الأولى وقف المظاهرات الأسبوعية وإطلاق البالونات الحارقة على الحدود الإسرائيلية لقطاع غزة، مقابل إعادة فتح معابر قطاع غزة، بما فيها معبر رفح البري بشكل منتظم. اما المرحلة الثانية فتتضمن البدء ببعض المشاريع المتعلقة بتحسين جودة الكهرباء، والوضع الصحي، وخلق فرص عمل وبعض مشاريع البنية التحتية.
من أجل تنفيذ خطة “انقاذ غزة،” تم رصد مبلغ 650 مليون دولار حتى الآن، الذي قد يرتفع إلى حوالي مليار دولار. وبحسب ملادينوف تأتِ هذه الأموال بشكلٍ رئيسي من دول الخليج، بتمويلٍ إضافي من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وسيتم استثمارها في مشاريع دون تدخلٍ مباشر من حماس، التي تحكم قطاع غزة، أو السلطة الفلسطينية، التي تحكم الضفة الغربية.
وبطبيعة الحال، هناك معوقات لتنفيذ خطة انقاذ غزة والتوقيع على التهدئة، والتي تتضمن الآتي:
السلطة الفلسطينية: الجهد المبذول من قبل مبعوث الأمم المتحدة ملادينوف لم يلقى استحساناً من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث ان السلطة تعول على فرضية انه كلما ازداد الوضع الاجتماعي والاقتصادي صعوبة على قطاع غزة، فإن الشعب في غزة سينتفض على حركة حماس. ومن أجل تعجيل انتفاضة المجتمع الغزي ضد حركة حماس، اتخذ الرئيس الفلسطيني مجموعة من الإجراءات العقابية على قطاع غزة، ومنها تقليصات في الرواتب الشهرية للموظفين تصل الى 50%، ومنع النفقات الحكومية تجاه الوزرات في قطاع غزة باستثناء دفع تكلفة بعض النفقات الضرورية جداً لكل من وزارة الصحة والتعليم فقط، بالإضافة الى تقليص عدد ساعات الكهرباء من ثماني الى أربع ساعات فقط يومياً. وعليه اعتبرت السلطة الفلسطينية بأن خطة ملادينوف في تخفيف الحصار عن غزة تعارض رؤية الرئيس عباس في خنق غزة من اجل استسلام حركة حماس. وعليه، قررت القيادة الفلسطينية قطع اتصالاتها مع مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف، وعدم التعاون معه بعد أن اعتبرته انه تجاوز صلاحياته بالعمل على تشجيع محادثات التهدئة بين حماس وإسرائيل دون التنسيق مع السلطة الفلسطينية، وطالبت السلطة من الأمين العام للأمم المتحدة استبدال ملادينوف بمبعوث آخر، حيث اعتبرته “شخصية غير مرغوب فيها.”
الحكومة الإسرائيلية: على الرغم من ان المظاهرات الأسبوعية المعروفة لدى الفلسطينيين باسم “مسيرات العودة” والتي بدأت منذ 30 مارس 2018، ولا زالت مستمرةً كل يوم جمعة، أصبحت تؤرق إسرائيل وتزيد الضغط السياسي عليها بسبب العدد الكبير في الضحايا والاصابات، إلا أن الحكومة الإسرائيلية لا زالت تتأرجح بين الموافقة والرفض في الدخول بتهدئة مع حركة حماس. فمن ناحية تعتبر إسرائيل حركة حماس حركة إرهابية لا يجوز التوقيع على هدنة معها، وتفضل التوقيع مع السلطة الفلسطينية على غرار ما حصل نهاية حرب عام 2014،. ومن ناحيةٍ أخرى، يشتد الضغط السياسي على إسرائيل، فقد بلغت حصيلة الضحايا بعد الأسبوع الواحد والثلاثين بتاريخ 26 أكتوبر 2018، أكثر من 215 فلسطيني، منهم عدد كبير من الأطفال والنساء والطواقم الطبية والصحفيين، وتجاوز عدد الجرحى أكثر من 22000 جريح. وعلى النقيض تماماً، فإن حصيلة الضحايا لدى الجانب الإسرائيلي هو صفر.
بالإضافة الى عامل اخر يضع إسرائيل في حالة احراج، وهو ملف الجنود المفقودين في غزة، حيث صرح رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامن نتنياهو، بأنه لا تهدئة مع حماس بدون عودة الجنود الإسرائليين المفقودين. في حين كان وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، أكثر تشدداً في موقفه وطالب بنزع سلاح حركة حماس وتدمير الانفاق الحدودية مقابل التهدئة. وفي الوقت نفسه، يسعة الكابينت الإسرائيلي وبقوة إلى تخفيف حدة التوترات مع حركة حماس، وذلك كي لا تتحول مسيرات العودة الى حربٍ حتمية بين إسرائيل وقطاع غزة، وهو ما لا تريده إسرائيل ولا حركة حماس، ولإبقاء التركيز الإسرائيلي على المحور الشمالي والمعركة الاستخباراتية والعسكرية المستمرة مع ايران.
حركة حماس: لطالما كانت تتمثل أولوية حركة حماس بتحقيق المصالحة الفلسطينية الداخلية على أساس الشراكة السياسية والدخول في النظام السياسي الفلسطيني بشكلٍ كامل، وهو ما رفضه الرئيس الفلسطيني عباس، الذي طالب حركة حماس بالتخلي بشكلٍ كامل عن الحكم وتمكين الحكومة الفلسطينية في رام الله على قطاع غزة من الباب الى المحراب. وبعد أن أيقنت حركة حماس بأن الرئيس الفلسطيني لا يريد التعددية السياسية ويريد اقصاء حركة حماس من الخارطة السياسية عن طريق انتفاضة الشعب ضد حماس في قطاع غزة، أصبحت الحركة تبحث عن أي حلولٍ بعيدة عن محمود عباس.
وفي ذات السياق، تعلم حركة حماس ان اشعال فتيل حربٍ مع إسرائيل لا فائدة منه، خاصة في ظل النتائج السلبية للحروب الثلاث السابقة في العشر سنواتٍ الماضية، وعليه أبقت على حيوية المظاهرات الأسبوعية من كل يوم جمعة وطورتها بأن أوجدت المسير البحري كل يوم اثنين أيضاً، من اجل رفع الضغط على إسرائيل لإجبارها على رفع الحصار عن قطاع غزة. المعيقات الأساسية التي تواجه حماس هو الوضع الاقتصادي السيء الذي يعيشه القطاع منذ أكثر من عقدٍ من الزمان، بالإضافة الى العقوبات المالية التي فرضها الرئيس الفلسطيني محمود عباس منذ أكثر من عام ونصف، مما شهد ارتفاع معدل الفقر إلى 53% وبلغت نسبة البطالة 47%، وهو ما يجعل إمكانية الانفجار قائمة، ليس فقط ضد إسرائيل وانما ضد حركة حماس ايضاً. وبالتالي، أصبحت حماس مضطرةً للتعاون الإيجابي مع كل من مصر ومبعوث الأمم المتحدة، ملادينوف.
وافقت حماس على البدء التدريجي في رفع الحصار مقابل وقف العمليات العسكرية بكافة اشكالها ووقف المظاهرات الأسبوعية ضد إسرائيل. حماس تنظر الى موضوع التهدئة باعتباره العامل الأساسي من اجل الدخول في صفقة تبادل الاسرى مع جثث الجنود الاسرائيليين. ومن ناحيةٍ أخرى، ترفض حركة حماس أيضاً التوقيع على وثيقة التهدئة مع إسرائيل بمفردها لأنها تعتبر إسرائيل كياناً غاصب، وترفض ايضاً ان يتم التوقيع من قبل السلطة الفلسطينية، وتصر على ان يكون التوقيع مشتركاً بمشاركة جميع الفصائل الفلسطينية.
العلاقة المصرية القطرية: تعتبر القضية الفلسطينية عبر التاريخ الحديث في قلب العمل الدبلوماسي لدى القيادة المصرية. وفي الوقت نفسه، يعتبر قطاع غزة الحديقة الخلفية للأمن المصري في سيناء. ولهذا السبب يفهم هدف التغيير الذي حصل من قبل القيادة المصرية تجاه حركة حماس خاصةً، حيث أوجدت القيادة المصرية حالة تفاهمٍ مع قيادة حركة حماس، بدلاً من استمرار توتر العلاقات.
من ناحيةٍ أخرى، فإن الدولة الخليجية، قطر، التي مولت حكومة قطاع غزة بقيادة حركة حماس بمشاريع ضخمة وصلت أكثر من نصف مليار دولار في السنوات الأربع الماضية، تريد ان تزاحم الدولة المصرية في رعاية قطاع غزة. وبالتالي، تنظر القيادة المصرية للدور القطري بأنه دورٌ منافسٌ وغير بنّاء، خاصة بعد ان قطعت مصر إلى جانب السعودية والإمارات والبحرين، علاقاتها الدبلوماسية مع قطر في شهر يونيو 2017، في ظل مزاعم تمويل الأخيرة للإرهاب. تطغى هذه العلاقة المتوترة بين الطرفين على العلاقة مع قطاع غزة، حيث ان القيادة المصرية لا تحبذ الدور القطري، بينما يعتبر الدور القطري مهماً في تمويل المشاريع من اجل خلق حالةٍ من التهدئة بين إسرائيل وقطاع غزة.
ففي منتصف شهر أكتوبر لعام 2018 سادت حالةٌ من التفاؤل لقرب التوصل لإبرام صفقة التهدئة بين إسرائيل وحركة حماس عندما تم الاعلان عن زيارة وزير المخابرات المصرية، عباس كامل، الى إسرائيل وقطاع غزة، ولكن الزيارة أرجأت الى وقتٍ اخر، وبعد ذلك تم الغائها بشكلٍ كامل دون توضيح الأسباب. الدور المصري والاممي في التوسط بين إسرائيل وحركة حماس لإبرام صفقة التهدئة كاد ان يفشل عدة مرات، وكادت الأجواء المتوترة بين الطرفين ان تنزلق الى حربٍ وشيكة أكثر من مرة. فعلى إثر إطلاق صاروخ من نوع غراد على مدينة بئر السبع الجنوبية في إسرائيل، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية مناطق عديدة في قطاع غزة ومنها مبنى الكتيبة التابع لحماس ومسرح المسحال بتاريخ 8 أغسطس 2018. تكرر القصف مرةً أخرى عندما انطلقت صواريخ محلية الصنع من قطاع غزة بتاريخ 27 أكتوبر 2018 وردت الطائرات الإسرائيلية بقصف أكثر من 80 موقعاً في ذات اليوم.
وفي الأسبوعين الماضيين، كان هناك دلائل على حصول تقدمٍ مفاجىء حقيقي بين إسرائيل وحماس، فقد وافقت إسرائيل على منحةٍ قطرية لتشغيل محطة الكهرباء في قطاع غزة، مما أدى إلى توفير الكهرباء لمدة تصل إلى 16 ساعة في اليوم. بينما تمثل أهم المؤشرات بموافقة إسرائيل على منحةٍ قطرية شهرية قدرها 15 مليون دولار لدفع مرتبات موظفي الحكومة في قطاع غزة.
لسوء الحظ، كان هذا هدوء ما قبل العاصفة، ففي 11 نوفمبر، اغتال الجيش الإسرائيلي أحد القادة الميدانيين لحماس خارج خان يونس. كان رد حماس سريعاً، ففي يومٍ واحد، أطلقت حماس أكثر من 400 قذيفة على بلداتٍ إسرائيلية قريبة، لترد إسرائيل بقصفٍ ثأري أشد عنفاً على القطاع.
ومرةً أخرى، أثبتت الوساطة المصرية كفاءتها. ففي 14 نوفمبر، قبل الطرفان وقف إطلاق النار، وعاد الهدوء، في الوقت الراهن على الأقل. وتشير جميع الدلائل إلى هدنةٍ طويلة الأجل بين إسرائيل وحماس. ومن دون ذلك، من المرجح أن يكون الصراع القادم بين الجانبين أكثر ضراوة.