اختلفت الأمور اتجاه مختلف عند استهداف قاعدة البرج 22 داخل الأراضي الأردنية. وبدا أن هذا الهجوم خروجٌ على التفاهمات الضمنية.

حسين علي الزعبي
تصدرت القاعدة الأمريكية “البرج 22” والفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران المشهد الإعلامي الدولي بعد تعرضها لقصف تبنته ميليشيات كتائب حزب الله العراقي. وأسفر هذا الهجوم عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وعشرات الجرحى.
البرج 22 يقع ضمن الأراضي الأردنية المحاذية للحدود السورية. وهذا الاستهداف هو أول استهداف تقوم به الميليشيات لقاعدة أمريكية داخل الأردن.
وبحسب إعلان واشنطن الرسمي، فقد استهدف الرد الأمريكي “منشآت الحرس الثوري والميليشيات التابعة له في سوريا والعراق“. ولم تقتصر الضربة الأمريكية على محافظة دير الزور السورية، بل أنه تعدّى الحدود السورية ليصل إلى مدينة القائم العراقية، الأمر الذي أثار غضب حكومة بغداد التي تربطها علاقات جيدة مع واشنطن.
وبطبيعة الحال، فإن استهداف القاعدة الأمريكية في الأردن يشكّل سابقة جديدة في طبيعة العلاقة المعقدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.
ولتفكيك هذا المشهد المعقد، لا بدّ من محاولة فهم العلاقة بين الميليشيات والحكومة العراقية من جهة وبين الميليشيات وإيران من جهة ثانية قبل الوصول إلى القاعدة 22 والإجابة على تساؤل: ما دامت القواعد الأمريكية موجودة في العراق وسوريا وتحت مرمى نيران تلك الفصائل، لماذا الآن تم استهداف القاعدة الأمريكية في الأردن؟
الميليشيات والحكومة العراقية
تشكلت التكتّلات المسلحة في العراق عقب انهيار الجيش العراقي النظامي في العام 2003 عقب الغزو الأمريكي للعراق وقرار واشنطن بحلّه. حينذاك، سيطرت مجموعاتٌ تقودها شخصياتٌ دينية لها تأثيرٌ مجتمعي على أسلحة هذا الجيش. ومن أبرز المجموعات في تلك الحقبة فيلق بدر.
وكان هذا التنظيم قد تشكّل كقوة عسكرية في إيران ضمّت في صفوفها معارضي الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. كما جنّد الفيلق الجنود الفارين إلى إيران وأولئك الذين تم أسرهم خلال الحرب العراقية الإيرانية وكانوا يقاتلون إلى جانب الجيش الإيراني. وبعد عام 2003، دخلت هذه القوات إلى العراق وتحوّلت إلى قوة أمر واقع قبل أن تصبح قوة عسكرية وسياسية هناك.
ومن القوى التي ظهرت جيش المهدي الذي تشكّل عقب الدخول الأمريكي وكان يقوده رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر ومنه انشقت العديد من الفصائل التي بدورها انشقت لفصائل أخرى.
هذه القوى كانت تحصل على ما تحتاج إليه من تمويل عبر السيطرة على مقومات الدولة وتشكيل العديد من الشركات المتهمة بالفساد. كما أنها كانت تسيطر على المفاصل الحكومية وتوصل أشخاصاً يتبعون لها للعمل في مؤسسات الدولة لتمرير مصالحها. يضاف إلى ذلك قيامها بعمليات التهريب. وللمعلومية، فإن الكثير من هذه الفصائل ضالعٌ في عمليات تهريب النفط وتسيطر على المنافذ الحدودية للبلاد.
وبكلماتٍ أخرى، كانت الفصائل المسلحة تحكم العراق بشكل عملي عبر أعضائها في البرلمان وحصصها من الوزارات والإدارات العامة. لا بل أنّ هذه بل الفصائل كانت تتحرك خارج الحدود بشكل غير رسمي. وهذا بدا واضحا من خلال مشاركة العديد منها في القتال خلال الأزمة السورية إلى جانب نظام بشار الأسد.
الحشد الشعبي

الفصائل المسلّحة لم تكن تمتلك الصفة القانونية الرسمية إلى حين تأسيس الحشد الشعبي في يونيو 2014.
ففي ذلك الوقت، تم جمع الفصائل المسلحة ضمن هيئة الحشد لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية بقرار ديني تصدرته فتوى من المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني. كما كان ذلك بقرارٍ سياسي من رئيس الوزراء العراقي في حينه نوري المالكي بعد اجتماعه مع قادة تلك الفصائل.
ويتهم المالكي، ذو الخط الموالي لإيران، بإعطاء أوامر لثلاثة فرق عسكرية عراقية بالانسحاب من أمام مئات المقاتلين من تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل لإيجاد مبرر لإنشاء الحشد. كما أن رئيس الوزراء العراقي الأسبق أقر في حينه ميزانية “انفجارية” مفتوحة لتمويل قراراته.
تحرّك المالكي باتجاه تشكيل الحشد الشعبي تحوّل إلى قانون أقرّه البرلمان وصادق عليه رئيس الجمهورية. ومن أبرز بنود هذا القانون أن يكون الحشد “تشكيلا عسكريا مستقلا وجزءا من القوات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة”.
كما نصّ القانون على “فك ارتباط منتسبي هيئة الحشد الشعبي الذين ينضمون إلى هذا التشكيل عن كافة الأطر السياسية والحزبية والاجتماعية ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه”. وآخر النقاط البارزة في القانون هي أن يكون من صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة – وهو بطبيعة الحال رئيس الوزراء – “إعادة انتشار وتوزيع القوات”.
وتضم قائمة أبرز التشكيلات التي انضوت تحت لواء الحشد كلّاً من:
فيلق بدر الذي تشكل في طهران 1982
كتائب حزب الله العراقي: تعلن في بياناتها الولاء لإيران.
سرايا السلام: الذراع العسكري للتيار الصدري. وتم تشكيل هذه السرايا على أنقاض جيش المهدي، وبالتحديد قبل يومين من صدور فتوى السيستاني بتشكيل الحشد.
عصائب أهل الحق: تشكلت في العام 2007 إثر الإعلان عن حلّ جيش المهدي. ويقودها قيس الخزعلي الذي أعلن مرارا الولاء للمرشد الإيراني علي خامنئي.
النجباء: يقود هذه الكتائب أكرم الكعبي الذي انشق عن الخزعلي. ويؤكد قادة الكتائب الولاء للمرشد الإيراني.
سرايا الجهاد والبناء: هي من التشكيلات التابعة للمجلس الإسلامي العراقي برئاسة عمار الحكيم. وأعلن عن تأسيسها بالتزامن مع فتوى السيستاني.
سرايا الخراساني: تشكلت في العام 2013 تحت شعار “الدفاع عن المقدسات في سوريا” وقائدها حامد الجزائري. وتعلن أن مرجعيتها تعود إلى خامنئي. وتشير بعض المصادر إلى ثلاثة ألوية منها تتبع لإيران بشكل مباشر ويتبع لواء واحد فقط للحشد الشعبي.
كتائب التيار الرسالي: تأسست معظم كتائب التيار مع إعلان فتوى السيستاني. وتعود مرجعيتها في العراق لكاظم الحائري المؤيد لخامنئي.
باستعراضٍ بسيط للفصائل السابقة، نجد أن من يتزعمها هم رجال دين. وأغلب هؤلاء يتبعون نظرية “الولي الفقيه” أي المرشد خامنئي، ما يخلق إشكالية بين ما هو وطني وبين ما هو ديني عابر للحدود.
وفي هذا السياق، يقول الكاتب والمستشار في المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية يحيى الكبيسي: “هذه القوى لا تملك أي قرار ذاتي. قرارها إيراني بحت. هذه الفصائل تؤمن بالولاية العامة للفقيه. وبالتالي، ما يأتيها من أوامر من الخامنئي هي أوامر عقائدية لا يمكنها رفضها”.
فك الاشتباك بين الفصائل وأجهزة الدولة

يرى الكبيسي أنّ المشكلة الحقيقية في العراق “تكمن في فشل الدولة في فك الاشتباك بين الميليشيات والأجهزة الرسمية. لهذا، فإن هذه المجموعات التي تموّل من المال العام ولها غطاء سياسي تقوم بمهاجمة الأهداف الأمريكية بوصفها جماعات مقاومة. ولكن عندما تقوم واشنطن بالرد، يتم الحديث عن قصف قوات رسمية عراقية”.
يذهب في هذا الاتجاه أيضا المفكر والمراقب السياسي غالب الشهبندر. ويستشهد هنا بإعلان هادي العامري، زعيم فيلق بدر، الولاء لطهران. ويقول الشهبندر في هذا السياق: “العامري قال بخطاب علني نحن نتبع ولاية الفقيه ونأخذ أحكامنا من الفقيه. أيضا وزير التعليم العالي قال نحن نعتبر ولاية الفقيه العمود الفقري. وهكذا يثبت أن الولاء عقائدي قبل أن يكون وطني”.
وفي سياق ردّه على من يقولون بأن الحشد الشعبي يختلف عن الفصائل، قال الشهبندر: “لا أميز بين الحشد والفصائل. إلا أنّ لكل منهم منهجه بالارتباط بالفقيه. أما من يقول إن الحشد أحد مؤسسات الدولة، فهذا كلام لا قيمة له في دولة مثل العراق لأننا نعيش في “اللادولة“.
هذا الاشتباك يضع رئيس الحكومة العراقي محمد شياع السوداني بحرج. فهو من جهة يريد التعامل مع الدول ومنها الولايات المتحدة بمنطق الدولة. وفي الوقت نفسه، فإنه لا يملك القدرة على كبح الفصائل التي تتعامل خارج منطق الدولة.
وفي هذا السياق، يرى الكبيسي أن المشكلة ليست بالسوداني، بل في الدولة العراقية. ويضيف: “هناك غطاءٌ سياسي توفره قوى سياسية تحتكر قرار الدولة. السوداني جاء كمرشح تسوية ولا يملك أي قوة داخل البرلمان. والإطار التنسيقي (يضم القوى السياسية الشيعية باستثناء التيار الصدري) صاحب الأغلبية بالبرلمان تسيطر عليه جماعات لديها ارتباطٌ عضوي بإيران. وبالتالي، لا يستطيع السوداني الخروج عن هذه التفاهمات (..) إلا إذا هدد بالاستقالة. وهذا قد يشكل نوعاً من الضغط. وهنا، لن تكون مشكلة السوداني مع الفصائل، بل مع إيران مباشرة”.
بالمقابل، يدافع متحدثون مقربون من هذه الفصائل عن استقلاليتها عن إيران. ويذهبون إلى فكرة أن هذه الفصائل تريد ما يسمونه “إنهاء الاحتلال الأمريكي”. وهذا لا يبدو مقنعا للباحث السياسي المقرب من التيار الصدري عصام حسين. فهو يرى أنّ لا إيران ولا الفصائل يريدان إنهاء الوجود الأمريكي.
ويقول حسين في هذا السياق: “أحزاب الإطار التنسيقي هي التي طلبت أن يحضر التحالف الدولي في العام 2014 عقب أزمة تنظيم الدولة الإسلامية. وعندما أصبح مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء، ولأنه حاول أن يحد من سيطرة هذه الفصائل، بدأنا نرى استهداف القواعد الأمريكية وكردستان وحتى منزله بالطائرات المسيرة. والقول بأن السوداني قد يفكر بالاستقالة ليس أكثر من محاولة لتجميل حكومة الإطار أمام الشارع. أما إيران، فتعرف أن خروج التحالف والأمريكان من البلاد يعني فرض عقوبات اقتصادية على العراق، ولا مصلحة لها بهذا. فالعراق يشكل رئة اقتصادية للحصول على الدولارات من العراق وهو الشريك التجاري الأكبر“.
وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يحدث بين إيران والولايات المتحدة من مواجهة؟ يقول يحيى الكبيسي “إيران لديها مشروع في المنطقة. وترى أن الولايات المتحدة تشكل خطرا على هذا المشروع. لكن إيران تعي أنّ أي خروج للولايات المتحدة من العراق اليوم سينعكس بعقوبات اقتصادية على العراق.
طهران تريد إجبار واشنطن على قبول شراكة في العراق. والولايات المتحدة تقبل في بعض الأحيان وفي أحيانٍ أخرى تتراجع عن قبولها. وهذا هو الإشكال الأساسي. هناك قواعد اشتباك ضمنية متفقٌ عليها بين إيران والولايات المتحدة، لأنّ الأخيرة لا تريد مواجهة مباشرة مع طهران”.
الأردن والبرج 22

لم يتعرض أيّ جندي أمريكي لإصابة على مدى 185 هجوما تمّ شنّه على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق. ولم تقم الولايات المتحدة بأي رد على هذه الاستهدافات.
بيد أن الأمر اختلف عند استهداف قاعدة البرج 22 داخل الأراضي الأردنية. وبدا أن هذا الهجوم خروجٌ على التفاهمات الضمنية، لجهة المكان ولجهة نوعية الضربة التي أدت لمقتل 3 جنود أمريكيين.
في هذا السياق، يقول الباحث المختص في الشأن العراقي حذيفة المشهداني لفنك: “تسعى إيران، ضمن مشروعها في المشرق، للسيطرة على ساحة جديدة تضاف إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن. ومن المفارقات التي شاهدناها بعد 7 أكتوبر أن الفصائل دفعت بأنصارها إلى التجمع عند الحدود الأردنية العراقية. وللمعلومية، فقد طالب هؤلاء بفتح الحدود لدخول قوات الحشد والوصول إلى حدود فلسطين ومحاربة إسرائيل. وهذا لا يبدو منطقيا، فهذه التجمعات موجودة على بعد يزيد عن ألف كيلو متر.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ هذه الفصائل نفسها موجودةٌ في الجنوب السوري ولا يفصلها عن القوات الإسرائيلية سوى مئات الأمتار. كما أنّ حزب الله موجود في لبنان وعلى تماس مباشر ويحافظ على قواعد اشتباك مع إسرائيل. بالتالي، هذه الحجة باطلة”.
المشهداني يشدّد على أن إيران تسعى لإحداث الخراب ومن ثم الاستثمار به بما يخدم مصالحها. وفي هذا السياق، يشير المشهداني إلى عمليات تهريب الكبتاغون وغيره من المخدرات التي تنفذها جماعات تابعة لإيران عبر الحدود السورية باتجاه الأردن. وتحولت هذه العمليات إلى تهريب الأسلحة. وهذا ما أعلن عنه الأردن رسميا. وبالتالي في هذا السياق، يأتي استهداف قاعدة البرج 22.
كلّ ذلك يأتي مع اقتراب موسم الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وكما جرت العادة منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من المتوقع أن يشهد الموسم الانتخابي المقبل إبداء المرشحين الانتخابيين لأقصى درجة من التشدّد عندما يتعلق الأمر بإيران. وفي الوقت الذي يتوقع فيه المراقبون منافسةً جديدةً بين الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب، فإنّ إيران ماضيةٌ في تعزيز نفوذها لتصعّب على أي إدارة أمريكية مقبلة التفكير بأيّ إجراء يهدّد نظامها وبرنامجها النووي وحتى حضورها في المنطقة.