خمس علامات تعجبٍ في تغريدةٍ واحدة ليس أمراً اعتيادياً في مستوى الغضب الذي أبداه المتحدث باسم وزارة الخارجية الاسرائيلية. ولكن، بعد أن اعتمدت اليونسكو، الهيئة الثقافية في الأمم المتحدة، في 26 أكتوبر 2016، قراراً مثيراً للجدل بشأن الحفاظ على التراث الديني في القدس، والذي، وفقاً لاسرائيل، ينفي الصلة العميقة بين الشعب اليهودي وأقدس الأماكن في المدينة، غرّد الناطق ايمانويل نحشون أن التصويت كان “محض هراء، ويمكن إلقاؤه مباشرةً في سلة القمامة من قِبل سفيرنا!! عاشت القدس يهودية!!!”
ولم يكن هو الاسرائيلي اليهودي الوحيد المستاء، فقد استدعى رئيس الوزراء بنيامين نتياهو، سفير إسرائيل لدى اليونسكو احتجاجاً على هذا القرار. كما اتهم زعيم معارضة يسار الوسط، اسحق هرتسوغ من الاتحاد الصهيوني، تصويت اليونسكو لصالح قرار يتجاهل الصلة اليهودية بجبل الهيكل باعتباره “فرية دم“- وهو إدعاء خطير جداً من معاداة السامية. حتى أن مدير عام سلطة الآثار الإسرائيلية، يسرائيل حسون، شبّه اليونسكو بتنظيم “داعش.”
يؤكد كل هذا الغضب على أهمية الموقع- الذي يبجله اليهود باعتباره جبل الهيكل والمسلمين باعتباره الحرم الشريف- الذي يؤمن اليهود بأنه في قديم الزمان احتضن معبدين يهوديين، دُمر الثاني منهما من قِبل الرومان سنة 70 ميلادية. وعلى مدى الألفي سنة الماضية، تباكى اليهود على فقدان معابدهم عند الحائط الغربي. ومنذ أوائل العصور الوسطى، هيمن معلمين إسلاميين، وهما قبة الصخرة والمسجد الأقصى، على مشهد جبل الهيكل. يقع الموقع في القدس الشرقية، التي تعدّ قلب الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. وتعتبر اسرائيل، التي احتلت القدس الشرقية عام 1967، كامل القدس عاصمةً لها، في حين يعتبر الفلسطينيون القدس الشرقية العاصمة المستقبلية للدولة المستقلة.
لذلك، ما مدى “هراء” وعلاقة معاداة السامية بقرار اليونسكو؟
وفقاً لـعوفر زالزبورغ، وهو اسرائيلي يهودي ومحلل في مجموعة الأزمات الدولية غير الحكومية، فإن القرار يتعلق بـ”ما إذا كان يتم إدارة الموقع وفقاً لمعايير اليونسكو، ولا دخل له بالإرتباط الديني للموقع باليهودية أو أي دينٍ آخر.” ومع ذلك، يواصل تصريحاته قائلاً أن نص القرار يُشير إلى الموقع باسمه العربي فحسب، الحرم الشريف، وهذا هو الأمر الذي آلم اليهود أكثر من أي شيء.
حدد زالزبورغ عدة أسبابٍ قد تكون دفعت الأمم المتحدة لاتخاذ مثل هذا القرار. فأولاً، تمتع الفلسطينيون بدعمٍ فعليّ تلقائي من البلدان المسلمة، والعربية، ودول عدم الانحياز، وبالتالي شكلوا أغلبيةً في الأمم المتحدة. وثانياً، كانت الدول الأوروبية حذرةً في تجنب الاعتراف بصلة اليهود بالموقع طالما لا زال الصراع مستمراً، خوفاً من أنّ مثل هذا الاعتراف سيُسهم في تآكل ما يُسمى باتفاق الوضع الراهن، والذي ينصّ على أنّ المسلمين فقط يحق لهم التعبّد في المكان، بينما يتمتع غير المسلمين بحرية الوصول للموقع.
وبما أن اسرائيل توحدت ضد اليونسكو بطريقةٍ جعلتها تتحفظ مسبقاً ضد عدوها اللدود إيران، أو منظمة حقوق الإنسان، بتسيلم، فمن الصعب أن ترفع صوتها ضد إجماعٍ للآراء. ومع ذلك، يجرؤ زالزبورغ على القول أن الرواية الاسرائيلية للأحداث “تبالغ” في خطورة هذه القضية. ويُضيف “لم تتخذ اليونسكو قراراً صريحاً تنص من خلاله أن الموقع ليس مقدساً لدى اليهود.” ومع ذلك، يعتقد أن الاستخدام الحصري للاسم العربي ينفي بشكلٍ غير مباشر الصلة اليهودية بالموقع. ويقول عن ذلك، “هناك بعض المزايا لإدعاء الحكومة الاسرائيلية بجدلية هذه القضية.”
حتى أن حزب ميرتس، الحزب الصهيوني الأكثر يسارية في الكنيست- البرلمان الاسرائيلي- احتج على قرار اليونسكو. فقد كتبت زعيمة الحزب، زهافا غالئون، على صفحتها على الفيسبوك أن اليونسكو “لا يمكنها محو سنواتٍ من التاريخ اليهودي.” وهذا يُشير، وفقاً لزالزبورغ، أنه في ظل المناخ الحالي في اسرائيل، فمن المستحيل فعلياً أن يُصرح القادة اليساريون بأنّ اليونسكو تنفي الصلة بشكلٍ غير مباشرٍ فحسب، لأنّ ذلك سيُنظر إليه باعتباره انحيازاً لمؤسسة دولية معادية.
ومن جانبهم، يخشى الفلسطينيون أن اسرائيل تريد تغيير الوضع الراهن الهش في الموقع المتنازع عليه. في واقع الأمر، دعا عددٌ من أعضاء الحكومة الاسرائيلية لهذا بالضبط. حتى أن وزير الزراعة، أوري أرئيل، من حزب البيت اليهودي القومي المتشدد، قد دعا لبناء معبدٍ ثالث، يتم بموجبه هدم قبة الصخرة والمسجد الأقصى. وفي هذا السياق، قال زالزبورغ أن مخاوف الفلسطينيين ليست عاريةً عن الصحة. ويُضيف “ومع ذلك، بصورةٍ أكثر تحديداً، فمن الواضح أن نتنياهو لن يُنهي حظر الصلاة على غير المسلمين في المستقبل القريب. فنتنياهو يعلم تماماً أن هذا سيؤدي إلى تصدّع خطيرٍ في العلاقات مع حلفاء اسرائيل من العرب، وسيشعل فتيل موجة عنفٍ ضخمة في القدس والضفة الغربية. وهو لا يُريد حصول أيٍ من هذا.” وعلى هذا الصعيد، اختتم زالزبورغ قوله بأن الخوف الفلسطيني “مبالغٌ به.”
ولم يجرؤ سوى بعض الاسرائليين فحسب ممن يُنظر إليهم باعتبارهم من اليسار المتطرف أمثال الصحفي في هآرتس، بي مايكل، على معارضة هذه الضجة التي شملت البلاد بأسرها. فقد ذكر بي مايكل، في مقالٍ افتتاحي باسمٍ مستعار- مايكل برايزون- أن “انتحاب اسرائيل على قرار اليونسكو تغطرسٌ ونفاقٌ، سيما عندما يصدر عن دولةٍ تفعل كل ما في وسعها كي تخفي وتقزم كل ما كان هنا قبل مجيئنا، وبعد ذهابنا، وعند عودتنا.”
ويُشير مايكل إلى عدة معالم اسرائيلية بُنيت فوق أنقاض مقابر عربية، مثل حديقة الاستقلال في القدس، وحديقة الاستقلال في تل أبيب، ومتحف التسامح في القدس، ومركز بيرس للسلام في يافا. واختتم مايكل افتتاحيته قائلاً، هكذا تتم الأمور “أماكننا المقدسة، مقدسة إلى الأبد. أماكنهم المقدسة مثل تراب الأرض- عقارات متوفرة للحديقة، سقالات لتبنى عليها قصور السلام والتسامح.”
كما يمكن العثور على المزيد من الانتقادات لإسرائيل في قرار اليونسكو نفسه. فبصرف النظر عن اللغة المستخدمة، وقضية الروابط الدينية للموقع، فإن اليونسكو أيضاً “تستنكر قرار إسرائيل الخاص بالموافقة على خطة لإقامة خطي “تلفريك” في القدس الشرقية (…) وكذلك بناء مركز للزوار يسمى “مركز كديم” بالقرب من الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى.”
ويبدو من الواضح تماماً أن الحكومة الاسرائيلية، إلى جانب منظمة “إلعاد” غير الحكومية اليمينية الاسرائيلية، تبذل كل ما في وسعها لـ”تهويد” مُحيط الأماكن المقدسة المحتلة المتنازع عليها. وهذا هو الشيء الوحيد الذي حققه العويل الاسرائيلي حول “الرابط المفقود”: فلا أحد يتطرق إلى هذه القضايا الأساسية.