نفضت مدينة سواكن السودانية غبار القرون عن وجهها وتصدرت عناوين الاخبار خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعد صفقةٍ مثيرةٍ للجدل تتسلم تركيا بموجبها إدارة وتطوير الميناء التاريخي لفترةٍ زمنية لم تحدد بوضوح. أعلِن عن هذه الصفقة بعد زيارة قام بها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان للميناء برفقة الرئيس السوداني عمر البشير في 25 ديسمبر 2017..فقد كانت سواكن تخضع للحكم العثماني في وقتٍ سابق، كما أعادت زيارة أردوغان إلى الأذهان ذكرياتٍ مؤلمة في منطقة البحر الأحمر المضطربة بالفعل، وأثارت مخاوف من تحول الجزيرة إلى قاعدةٍ عسكرية تركية.
ففي مؤتمرٍ صحفي له مع نظيره التركي عقب توقيع الاتفاق، بدى وكأن السيد إبراهيم غندور وزير الخارجية السوداني، أكدّ هذه المخاوف بقوله إن السودان وتركيا وقعتا اتفاقاتٍ للتعاون العسكري والأمني، من بينها “إنشاء مرسى لصيانة السفن المدنية والعسكرية.” وأضاف إن “وزارة الدفاع السودانية منفتحة على التعاون العسكري مع أي جهة، ولدينا تعاون عسكري مع الأشقاء والأصدقاء، وتركيا دولة شقيقة ولنا معها تاريخ طويل.” وتابع القول “وقعنا اتفاقية يمكن أن ينجم عنها أي نوع من أنواع التعاون العسكري وإن السودان مهتم بأمن البحر الاحمر وننسق مع جيراننا في ذلك.”
من جانبه، أشار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إنه “تم توقيع اتفاقيات بخصوص أمن البحر الأحمر،” مؤكداً على أن أنقرة مهتمة بأمن السودان وأفريقيا والبحر الأحمر بشكلٍ عام. وأضاف “وصلتنا توجيهات رئاسية بتقديم الدعم للأمن والشرطة والجانب العسكري للسودان، وسنواصل تطوير العلاقات في مجال الصناعات الدفاعية”.
وصل الرئيس اردوغان للخرطوم في 24 ديسمبر 2017 برفقته 9 وزراء، وأكثر من مائتي رجل أعمال، كأول رئيسٍ تركي يزور السودان منذ استقلاله في عام 1956. وتم خلال الزيارة توقيع أكثر من 20 اتفاقية، منها استثمارات تركية لبناء مطار جديد في الخرطوم واستثمارات للقطاع الخاص في إنتاج القطن وتوليد الكهرباء وبناء صوامع الحبوب والمسالخ، بهدف رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 10 مليار دولار سنوياً.
وقالت وكالة ترك برس أن أنقرة قد وافقت أيضاً على اعفاء السودانيين من تأشيرات الدخول لأراضيها، لتكون الدولة الوحيدة التي تستقبل السودانيين بهذه الحفاوة غير المسبوقة وهو دعم دولي تحتاجه الخرطوم بشدة.
كما تضمن برنامج زيارة ارودغان للسودان اجتماعاً ثلاثيا بين رؤساء أركان جيوش السودان وتركيا وقطر. ولا يمكن تفسير حضور رئيس الأركان القطري إلا على باعتباره دليل واضح على دعم الدولة الخليجية المحاصرة التي عزلتها كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر بسبب دعمها المزعوم للإرهاب منذ يونيو 2017.
مخاوف إقليمية ومحلية
لم تكن ردود الفعل الإقليمية المتوجسة والصاخبة لتسليم جزيرة سواكن لتركيا مفاجأة لأحد، في ظل التوترات التي تمسك بخناق المنطقة، فالحرب في اليمن القريبة على الساحل الشرقي للبحر الأحمر تكمل عامها الثالث دون بوادر انفراج في الأفق. فقد تم تفسير التحرك التركي، الذي يتعارض مع العديد من جيرانه الأقوياء، ولا سيما المملكة العربية السعودية، على أنه تهديدٌ لموقفهم.
الصحف المصرية، التي تنطق عادة باسم الحكومة، اعتبرت زيارة اردوغان للسودان، وخاصة تسليمها جزيرة سواكن، اجراءً موجهاً ضد مصر ويهدف للمساس بأمنها القومي وأن الحكومة السودانية متواطئة لتحقيق ذات الهدف. وليس هذا الموقف المصري الواضح بمستغرب في وقتٍ اعتبرت فيه السلطات المصرية أن أردوغان وحكومته يدعمون الاخوان المسلمين المصريين الذين تعتبرهم القاهرة ألد خصومها. وبالإضافة إلى ذلك، تخوض مصر نزاعاً مع السودان حول مثلث حلايب، وهي منطقة حدودية غنية بالمعادن، فضلاً مشكلة الوصول إلى مياه النيل.
وقد عبرت صحيفة عكاظ السعودية عن موقفٍ مماثل من تسليم سواكن لتركيا، مذكرةً حكومة الخرطوم بالجهود التي بذلتها السعودية لرفع العقوبات الأمريكية عنها، ومحذرةً من طموحات تركيا وأهدافها في السودان ومنطقة البحر الأحمر. وقالت الصحيفة أن اخطر ما في الأمر أن سواكن مقابلة تماما لميناء جدة، التي يرى فيها اردوغان ذكرى ورمزية لزمن الإمبراطورية العثمانية.
ولم تتأخر الامارات العربية المتحدة في الرد حيث قال وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، إن التنافس الجيواستراتيجي الجاري في المنطقة، يؤكد الحاجة الملحة إلى تعزيز المحور العربي، المتمثل في الرياض والقاهرة. وأشار قرقاش، في تغريدةٍ على تويتر، إلى أن التنافس الإقليمي على العالم العربي حائط صده يجب أن يكون عربياً. وشدد وزير الدولة الإماراتي على أن العالم العربي “لن تقوده طهران أو أنقرة،” بل العواصم العربية مجتمعة.
كما أن الشراكة السودانية مع تركيا هي أيضاً رسالة واضحة إلى المملكة العربية السعودية وحلفائها بأن الخرطوم غير راضية عن العوائد، ولا سيما المالية، التي تحصل عليها من “التحالف العربي” في اليمن، خاصة في الوقت الذي تعاني فيه القوات السودانية المشاركة في الصراع المزيد من الضحايا.
غير أن الرئيس البشير أوضح أيضاً في خطابه خلال احتفالات العام الجديد أن حكومته لا تعتزم سحب قواتها من اليمن، في محاولةٍ لإبقاء خياراتها مفتوحة. وقد زار رئيس أركان الجيش السوداني السعودية في نهاية يناير الماضي لاجراء محادثاتٍ مع نظيره السعودي.
ومن العاصمة الارتيرية أسمرا، وهي أقرب لسواكن من الخرطوم، أعرب الرئيس الأريتري اسياس افورقي عن قلقه من الوجود والنشاط التركي في منطقة البحر الأحمر. وقال في حديثٍ للتلفزيون الإريتري “إن الوجود العسكري في سواكن إن صح غير مقبول… تركيا تنفذ أجندة الإخوان المسلمين في البحر الأحمر بدعم قوى الهيمنة العالمية وتسعي لفرض نفوذها في المنطقة”.
وبالطبع باركت قطر، بمفردها تقريباً، هذه الخطوة التركية. وكتبت صحيفة الشرق المقربة من حكومتها أن “أردوغان يحاصر دول الحصار.” واعتبرت أنها خطوة في اطار السباق الدولي المحموم على مناطق النفوذ في البحر الأحمر الذي يمر فيه 3,5 مليون برميل من النفط يومياً في طريقها لأسواق أوروبا. وأضافت الصحيفة ان السودان بدأ في البحث عن مصالحه بعيداً عن الدوائر التقليدية.
كما عبرت قوي غربية عن قدرٍ من الانزعاج للطموحات والنزعات الإمبراطورية العثمانية للرئيس التركي اردوغان. فهم يراقبون باهتمام النشاط التركي المحموم في منطقة البحر الأحمر والتي بدأت بزيارة الرئيس اردوغان للصومال في يناير 2015. ووقعت تركيا إثر تلك الزيارة عقداً لإدارة ميناء مقديشو وأقامت فيها أكبر قاعدةٍ عسكرية تركية خارج أراضيها، وتقدم مساعداتٍ مقدرة للحكومة الصومالية العاجزة عن السيطرة على البلاد التي تمزقها الحرب الاهلية منذ عقود.
وعلى الصعيد الداخلي، لم تجد الصفة التركية السودانية حول جزيرة سواكن قبولاً لدى قوي المعارضة السودانية، فقد شن رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب الأمة السوداني، الصادق المهدي، هجوماً لاذعاً على القرار منتقداً سياسات حزب العدالة والتنمية «الإخواني»، الحاكم في تركيا، ووصف صفقة سواكن بانها صفقة شخصية لا تحقق مصلحة للبلاد. فيما هاجمت ابنته الناشطة مريم المهدي تركيا مذّكرةً بأن “التاريخ العثماني مليء بسيئات خلفها في أنحاء العالم الإسلامي،” وتساءلت: “هل ينكر أردوغان ذلك؟”
جهودٌ لتهدئة الأوضاع
جاء الرد السوداني على الانتقادات حاداً وغاضباً. فقد قال وزير الاعلام السوداني أن بلاده مستعدة لتحمل كل تبعات تطوير علاقاتها بتركيا وانه غير مسموح لأحد الاستهانة بالسودان. لكن هذه اللهجة تم تخفيفها في تصريحات لاحقة لطمأنة الجيران، إذ قال وزير السياحة محمد أبو زيد مصطفى، إن الشراكة بين بلاده وتركيا في جزيرة سواكن السودانية تتلخص في برنامج “تنموي استثماري سياحي،” يسعى إلى إقامة مدينة سياحية في المنطقة التاريخية العريقة. وأن المشروع سبق وعُرض على دولة الامارات ولم يجد ترحيباً، فيما أكد مسؤولٌ محلي أن الحديث عن تحويل جزيرة سواكن لقاعدةٍ عسكرية تركية أمرٌ مبالغٌ فيه ومستحيل عملياً لأن مساحة الجزيرة لا تتجاوز خمسين فداناً ولا تصلح لأي أغراضٍ عسكرية.
كما نفى اردوغان بنفسه في تصريحاتٍ له عقب اكمال جولته الأفريقية نية بلاده إقامة قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن، موكداً على أنه مشروعٌ لإحياء تراث العثمانيين في المدينة الساحلية. على أي حال، ستترك أصداء هذا الاتفاق وتسليم الجزيرة لتركيا بصمتها على العلاقات السياسية في المنطقة، وسيكون لها أثر واضح على علاقات السودان الإقليمية في وقتٍ قد لا يطول.
سواكن: عبق التاريخ ومستقبلٌ واعد
يقع ميناء سواكن التاريخي على بعد 60 كيلومتراً جنوبي بورتسودان، الميناء الرئيسي للبلاد وواحدة من أكبر مدنها. تاريخياً، خضعت مدينة سواكن للاحتلال العثماني واختارها السلطان العثماني سليم الأول في عام 1517 مقراً لحاكم مديرية الحبشة العثمانية، التي كانت تضم ميناء مصوع (في إريتريا الحالية). تبعت فيما بعد للولاية العثمانية في الحجاز (جدة) واستأجرها خديوي مصر، محمد علي، بعد غزوه للسودان عام 1821. وكانت سواكن أهم ميناءٍ على البحر الأحمر لتصدير الرقيق في القرن الثامن عشر.
وبعد الاحتلال البريطاني المصري للسودان عام 1898 أصبحت سواكن جزءاً من السودان الحديث. وقررت الإدارة البريطانية في السودان التخلي عن سواكن وتشييد ميناء بورتسودان عام 1905 بسبب عدم صلاحية ميناء سواكن لاستقبال السفن والبوارج الكبيرة، وذلك أنه تكثر فيها الشعاب المرجانية الخطرة على الملاحة، فضلاً عن ندرة مياه الشرب على الجزيرة. وعلاوة على ذلك، كانت تتبع، إسمياً على الأقل، للعثمانيين في ذلك الوقت. ويُستخدم في الوقت الراهن كميناءٍ لنقل الحجاج والمسافرين للسعودية وتصدير المواشي بشكلٍ رئيسي واستقبال السفن محدودة الحمولة.