المقدمة
بدأ نشوء الممالك جنوب مصر، وصولاً إلى الشلال السادس على النيل، بمملكة كوش بمراحلها المختلفة؛ كرمة، ومروي، ونبتة. يرتبط تاريخ هذه الحقبة ارتباطاً وثيقاً بمصر، إلا أنّه تمتع بسِمات سودانية مميزة. ازدهرت مملكة كوش على مدى خمسة قرون خلال الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث سيطرت على أراضٍ واسعة ممّا يُعرف اليوم بالسودان. كان شعب السودان في الماضي وثنياً؛ حيث اعتنق البعض اليهودية إلّا أنّهم سرعان ما تحولوا إلى المسيحية.
أسست الممالك المسيحية على امتداد نهر النيل بعد مئتي عام فقط على سقوط مملكة كوش، واستمرت حتى مجيء العرب منتصف القرن السابع. ومرةً أخرى، تمّ تأسيس دول جديدة- سلطنات دارفور وتقلي الإسلامية. وفي عام 1821، غزا الأتراك البلاد واستمر حكمهم هناك 60 عاماً. وبعد اشتعال الثورة في البلاد وقيام الدولة المهدية لـ13 عاماً، سقطت البلاد تحت استعمار الحكم الثنائي، البريطاني المصري، حتى استقلالها عام 1956.
وفي أعقاب الاستقلال، اندلعت الحرب الأهلية، التي انتهت بانفصال جنوب السودان عام 2011، في حين استمرت الحرب في دارفور وجنوب كردفان، وولاية النيل الأزرق الجنوبية في عام 2015. حُكمت البلاد من قبل الأنظمة العسكرية التي استولت على السلطة من خلال الانقلابات، باستثناء بعض الفترات الديمقراطية الوجيزة.
العصور القديمة
مع اقتراب نهاية العصر الحجري الحديث، أنشأ سكان السودان القدماء حضارة إفريقية تحولت فيما بعد إلى مملكة كوش، شمال نقطة ملتقى النيل الأزرق بالأبيض. في المرحلة الأولى، تمركزت مملكة كوش في عاصمتها كرمة، ومن ثم نبتة، عندما غزا الملك قشطة مصر في القرن الثامن قبل الميلاد، مشكّلاً سلالته الحاكمة الخامسة والعشرين في مصر والتي حكمت لقرنٍ من الزمان، إلى أن تمّ طردهم عام 656 قبل الميلاد.
خلال مرحلتها الكلاسيكية، كانت مروي عاصمة مملكة كوش. استمرت مملكة مروي، التي تُعرف وفقاً للجغرافيا اليونانية بأثيوبيا، حتى القرن الرابع بعد الميلاد، عندما ضعفت وتفككت بسبب التمرد الداخلي والغارات القبلية. وفي نهاية المطاف، تمّ الاسيتلاء على عاصمة المملكة الكوشية وإحراقها من قِبل مملكة أكسُوم.
تمتاز آثار الحضارة الكوشية، وفن عمارتها، وفنونها، وممارسات الدفن فيها بالزوايا الحادة. وعلى الرغم من أنّ الأهرامات ذات المنحدرات الحادة والصلبة التي وجدت في مروي وجبل البركل، أصغر حجماً من تلك الموجودة في مصر، إلّا أنّها متعددة. ومع ذلك، لم يتم حتى الآن فكّ رموز اللغة المكتوبة للكوشيين، والتي تعتمد على الهيروغليفية المصرية.
كانت تُعرف كوش باعتبارها أحد أول الأماكن في العالم التي استخرِج منها الخام فضلاً عن إنتاج الحديد لصنع الأدوات الزراعية والأسلحة على حدّ سواء. مكنّت صناعة الحديد الكوشيين من الحفاظ على واحدة من أفضل الاقتصادات في إفريقيا، وازدهار التجارة مع مصر إلى الشمال. أمّا المنتجات الإفريقية النادرة الأخرى، مثل خشب الأبنوس، فقد كان يتمّ تصديرها إلى الحبشة القديمة شرقاً ومصر شمالاً.
الممالك المسيحية
سادت حالة من عدم اليقين بعد سقوط مروي، إلى حين ظهور الممالك المسيحية الثلاث على طول نهر النيل. احتلت النوبة من قِبل سكانها الأصليين، النوبيين، التي سُميت بالمجموعة (س) النوبية المجهولة، حيث حملت تقاليد الدفن الخاصة بهم سماتٍ من الثقافة المروية. هاجم النوبيون وحلفاؤهم، البليميين البدو (البجا)،الرومان في صعيد مصر، إلّا أنّهم تعرضوا للهزيمة.
بدأت المسيحية تبرز في وقتٍ مبكر مع نهاية القرن الأول. فقد استغرق الأمر أكثر من مئتي عام لظهور المملكة المسيحية الأولى نوباتيا (543 بعد الميلاد)، وعاصمتها فرس، التي تقع في أقصى شمال السودان اليوم. تشتهر فرس بكاتدرائيتها، التي نجت من الأسلمة وصمدت إلى أن غمرتها مياه بحيرة ناصر عام 1964، التي تكونت نتيجة تجمع المياه خلف سدّ أسوان العالي في مصر. وفيما بعد، أُسست مملكة المقرة، التي امتدت من دنقلة حتى نهر عطبرة، عام 570 ميلادي، في حين أُسست مملكة علوة إلى الجنوب بعد عشر سنوات، وعاصمتها سوبا بالقرب من الخرطوم.
توسعت مملكة المقرة على حساب نوباتيا وأصبحت المملكة المهيمنة. وبحلول القرن السابع، ازدهرت المقرة وأصبحت قوية بما فيه الكفاية لمقاومة المدّ الإسلامي وغزو العرب الذين استلوا آنذاك بالفعل على مصر. وبعد عدّة غزوات فاشلة، تمكّن العرب من إحراز تقدّمٍ حتى دنقلة، حيث حاصروا المدينة ودمروا الكاتدرائية المسيحية. وبسبب الخسائر الفادحة التي تكبدوها، طلب ملك المقرة التسوية مع عبد الله بن سعد، الذي كان قائد الحملة آنذاك، فوافق. وعُرفت الهدنة باسم “معاهدة البقط“، والتي سمحت بالتعايش السلمي وتبادل التجارة، حيث استمرت هذه المعاهدة سارية المفعول لمدة ستمائة عام. ومع مرور الوقت، أدخل تدفق التجار العرب الإسلام إلى بلد النوبة، ليحل الإسلام تدريجياً محل المسيحية. انهارت سوبا، آخر الممالك النوبية، حوالي عام 1504.
مملكة سنار الفونج وأسلمة السودان
أدرك العرب الذين كانوا يعيشون في الممالك المسيحية أنّ أعدادهم كانت كبيرة في الوقت الذي كانت فيه هذه الممالك ضعيفة، وبالتالي تطورت فكرة إنشاء تحالف بين القبائل العربية التي جابت البلاد. جاء عبد الله جمّاع، الذي قاد فيما بعد جماعةً معروفة باسم “العبدلاب”، من المناطق الشرقية التي امتازت بثرائها وقوتها من تجارة البحر الأحمر، ويعود له الفضل في الاستيلاء على سوبا. ومع ذلك، تعرّض جمّاع لمعارضةٍ من قِبل الفونج، وهي جماعة نوبية مُسلمة من القبائل الإفريقية بقيادة عمارة دنقس، والذين جاؤوا من محافظة النيل الأزرق الجنوبية. وبعد عدّة مناوشات انتهت لصالح الفونج، تمّ التوصّل إلى تحالفٍ بين الفونج والعبدلاب بتقسيم البلاد إلى كونفدرالية. حكم الفونج من سنار في الجنوب، بينما تولى العبدلاب القسم الشمالي إلّا أنّها كانت خاضعة لسنار، ممّا زرع بذور التحريض في السودان اليوم.
تمّ تأسيس نظام شبه اقطاعي، وقُسّمت الدولة على أسس جغرافية وعرقية/عنصرية؛ حيث توجّب على كل جزءٍ دفع الضرائب والرسوم لسلطان سنار. كانت سلطنة سنار، التي كانت أيضاً تُعرف بالعربية باسم السلطنة الزرقاء، تُسمى إسلامية، إلّا أنها في جوهرها تمتلك اتجاهاً خفي وقوي غير إسلامي، وبخاصة التقاليد الوثنية القديمة التي كانت تتعارض مع الإسلام
أصبحت العاصمة سنار، مزدهرة من خلال التجارة واستضافت ممثلين من جميع أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا، فقد كانت ثروة وقوة السلاطين نابعة من سيطرتهم على الاقتصاد. كان السلطان يُسيطر على جميع القوافل، بالإضافة إلى موارد الذهب، التي كانت بمثابة العملة الرئيسية للبلاد.
استمر ازدهار سنار لقرنين من الزمان. وفي عام 1762، أطاحت جماعة تُسمى الهمج بالسلطان ونصّبت بعد ذلك عضواً آخر من أعضاء العائلة المالكة سلطاناً لتحقيق مآربها، في حين فرضت أحد أتباعها كوزيرٍ حاكم. كان ذلك بداية صراعٍ طويلٍ بين الفونج وقبائل الهمج من محافظة النيل الأزرق الجنوبية، حيث حاول كلاهما السيطرة على سلطنة سنار. أضعف هذا الصراع المملكة وجعلها لقمة سائغة للغزاة الأتراك.