استهدف قيس سعيّد المهاجرين من جنوب الصّحراء الكبرى في تونس، وألقى باللوم عليهم في الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد.
دانا حوراني
منذ تقلُّد قيس سعيّد الرّئاسة عام 2019، شهدت تونس سلسلة من الإجراءات القمعيّة بحقّ الحرّيّات المُكتسَبة عقب ثورة عام 2011.
ويبدو أنّ الهدف التّالي لسعيّد هو أقلّيّات المهاجرين من جنوب الصّحراء الكبرى.
في خطابه إلى مجلس الأمن القوميّ في 21 شباط، أشار رئيس تونس إلى المهاجرين غير الشّرعيّين من جنوب الصّحراء الكبرى بأنّهم تهديد ديموغرافيّ للبلاد.
قائلًا: “الهدف غير المعلن للموجات المتتالية من الهجرة غير الشّرعيّة هو اعتبار تونس دولة إفريقيّة بحتة لا تنتمي إلى الأمّتين العربيّة والإسلاميّة، ومضيفًا وجوب إيقاف التّدفّق غير المنتظم من المهاجرين على الفور.
ادّعى الرّئيس أنّ المهاجرين من جنوب الصّحراء الكبرى ينخرطون في “عنف وجريمة وأعمال غير مقبولة” وأنّ منذ مطلع هذا القرن “جرت ترتيبات إجراميّة تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس”.
وعلى الرّغم من أنّ الاتّهامات ضدّ المهاجرين ليس مفهومًا جديدًا في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا أو أمرًا يقتصر على تونس، تبقى بالمقارنة غير شائعة في هذه الدّولة الشّمال إفريقيّة.
لقد نُصِح التّلاميذ من المهاجرين بالابتعاد عن الشّوارع خوفًا من الاعتداءات، فبقي الكثير منهم في منازلهم فيما تصعّدت لهجة الخطاب.
لطالما تعرّض ذوو البشرة السّوداء من أصول إفريقيّة لسوء المعاملة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا. إلّا أنّهم الآن بحسب الخبراء يُستغلَّون سياسيًّا ككبش محرقة، وتلك ظاهرة عواقبها وخيمة على التّلاحم الاجتماعيّ والأمن.
شرح الأسباب
بحسب المنتدى التّونسيّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة (FTDES)، وهو منظّمة للدّفاع عن هذه الحقوق، يقارب عدد الإفريقيّين الوافدين من جنوب الصّحراء الكبرى والّذين يعيشون في تونس 21,000 شخصًا، غالبيّتهم شرعيّ أتى للعمل أو للدّراسة.
ومن ضمن المجمل السّكّانيّ الّذي يقارب 12 مليون، تضمّ تونس عددًا ضخمًا من السّكّان ذوي البشرة السّوداء يعانون حاليًّا من التّداعيات العنصريّة لخطاب سعيّد.
يعمل معظم المهاجرون الإفريقيّون لحساب شركات بناء، ومَرافق رعاية الطّفل، وشركات صناعة الأخشاب، ويستخدم بعضهم البلد كطريق عبور للدّخول غير الشّرعيّ إلى أوروبّا.
في عام 2018، قبل انتخاب سعيّد بفترة وجيزة، أصبحت تونس البلد العربيّ الأوّل الّذي يجرّم التّمييز العنصريّ بموجب القانون. وأفادت صحيفة واشنطن بوست بتحدُّث الرّئيس في السّنوات السّابقة عن هويّة تونس الإفريقيّة بكثير من الفخر. لكن بحسب سليم خرّاط، عضو مجلس إدارة البوصلة وهي منظّمة تونسيّة غير حكوميّة متفانية لدعم الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان، قد يكون تزايد المعارضة والاستياء من الوضع الاقتصاديّ الحاليّ سبب اضطرار سعيّد للانقلاب على المهاجرين.
وصرّح خرّاط لفناك: “استراتيجيّة سعيّد هي خلق عدوّ وهميّ فيما يعجز عن التّعامل مع وضع اقتصاديّ معقّد. وبالتّالي ينتقل اللّوم من السّياسيّين إلى المهاجرين، الّذين يشكّلون الآن أداة تشتيت عن سوء إدارة الوضع الاقتصاديّ.”
أتت تعليقات سعيّد في مرحلة مصيريّة، فتونس تعاني نقصًا في السّلع الأساسيّة مثل زيت الطّبخ، والقهوة، والموادّ الصّيدلانيّة. وبالتّالي، بصرف النّظر عن الأحوال المتردّية، لن يرى النّاس حقيقة عدم كفاءة الرّئيس، بحسب قول خرّاط.
خلال جولات الإعادة في الانتخابات النّيابيّة التّونسيّة في أواخر كانون الثّاني، أدلى 11% فقط من النّاخبين بأصواتهم، ما أدّى إلى جدال اعتبر فيه نقّاد سعيّد مراكز الاقتراع الخالية دليلًا على رفض الشّعب.
ويشير خرّاط إلى توظيف الرّئيس تقنيّة الخطاب الشّعبويّ الّذي يترك صدى في شريحة واسعة من الشّعب التّونسيّ، ويسلّط الضّوء على تهديد جوهريّ.
قائلًا: “طريقته هي استخدام الهويّة العربيّة الإسلاميّة ووضعها تحت تهديد زائف، وذلك لمَيل التّونسيّين إلى الحفاظ على هويّتهم ودينهم وحمايتهما.”
نظريّة الاستبدال العظيم
كما سبق أن ذكرنا، لا تقتصر فكرة أنّ المهاجرين يؤثّرون سلبًا على ديموغرافيا بلد ما على تونس. فلقد أشاع الكاتب الفرنسي الشّهير رينو كامو في عام 2010 نظريّة “الاستبدال العظيم“، وهي نظريّة يمينيّة متطرّفة.
إنّ جوهر هذه النّظريّة هو وجود “مؤامرة” لاستجلاب العرب والمسلمين من إفريقيا والشّرق الأوسط إلى أوروبّا بهدف تهجير المسيحيّين البيض. وللأسف، أدّى ذلك إلى الكثير من الأعمال العدوانيّة ضدّ الأقلّيّات في البلدان الغربيّة.
ولقد وصل الاستبدال العظيم الآن إلى تونس، حتّى أنّ السّياسيّ الفرنسيّ اليمينيّ المتطرّف إريك زيمّور أيّد بيان سعيّد قائلًا: “لقد بدأت بلدان المغرب العربيّ بدقّ ناقوس الخطر في وجه تزايد الهجرة، وتريد تونس اتّخاذ إجراءات طارئة لحماية شعبها. ماذا ننتظر لمحاربة الاستبدال العظيم؟”.
بحسب خرّاط، من المحتمَل أن يكون سعيّد قد وطّد علاقاته بالبلدان الأوروبيّة، بخاصّة تلك الّتي قد تمنحه دعمًا ماليًّا وتتولّى دور الجهات المانحة.
فأسبوعًا بعد بيان سعيّد، اتّصلت به رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ملوني، لتعرض عليه المساعدة في التّخفيف من وطأة أزمات تونس الماليّة. وعبّر الرّئيسان في محادثتهما عن الشّكاوى والمصالح نفسها، وقيل أنّهما تطرّقا إلى مسائل الهجرة، ودعم إيطاليا من حيث مفاوضات قرض صندوق النّقد الدّوليّ، إضافة إلى خطط لربط الشّبكات الكهربائيّة الخاصّة بالبلدين.
وصلنا التّالي “إيطاليا قلقة جدًّا بشأن الأزمة الاجتماعيّة في تونس. من الضّروريّ الإسهام في استقرار تونس ونموّها بدعم اقتصاديّ أيضًا.” من مكالمة هاتفيّة بين وزير الشّؤون الخارجيّة الإيطاليّ أنتونيو تاجاني والمديرة الإداريّة لصندوق النّقد الدّوليّ كريستالينا جورجيفا. وبحسب صحيفة العرب (The Arab Weekly) قال تاجاني “ستكمل إيطاليا في أداء دورها في هذا الشّأن”.
أعلن البنك الدّوليّ في 7 آذار تعليقه كلّ الأعمال المستقبليّة في تونس في ظلّ تزايد نسب العنف العرقيّ.
وفي سعي الدّولة إلى الحصول على إنقاذ ماليّ للماليّة العامّة من صندوق النّقد الدّوليّ، شكّل البنك الدّوليّ متبرّعًا أساسيًّا لتونس سامحًا لها باستيراد الموادّ الغذائيّة والتّوسّع في أعمالها التّجاريّة.
قال خرّاط: “من المرجّح أنّ الرّئيس استسلم لضغوطات البلدان الأوروبّيّة، بخاصّة إيطاليا، لإيقاف تدفّق المهاجرين الفارّين إلى أوروبّا عبر تونس.”
وكان لخبراء آخرين الرّأي نفسه، وصرّح عدد من الجماعات الحقوقيّة أنّ سياسات الهجرة التّابعة لأوروبّا كانت تدفع بتونس إلى مراقبة مسارات المهاجرين واعتراض قواربهم في البحر.
لوقوع تونس قبالة السّاحل الأوروبّي، تبعد عن جزيرة لامبيدوسا الإيطاليّة ما يقلّ عن 150 كيلومترًا، وبذلك تلعب دور منصّة إطلاق للعديد من المهاجرين من منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا.
التّداعيات والاضطرابات
منذ صدور بيان سعيّد، ازداد العنف ضدّ المهاجرين من جنوب الصّحراء الكبرى كثيرًا. ولقد خيّم عدد من النّاس أمام سفارات بلادهم بعد طردهم من منازلهم، فيما بقي التّلاميذ والعمّال ذوو البشرة السّوداء مختبئين في خضمّ كمّ هائل من رسائل واتساب الّتي تنشر إشاعات عن أعمال عنف انتقاميّة.
إضافة إلى ذلك، نظّمت القوى التّونسيّة لإنفاذ القانون مداهمات أسفرت عن اعتقال أكثر من 500 مهاجر في الأسبوع الّذي تلى البيان. ولقد اعتقلت الشّرطة حتّى الأطفال وأهاليهم، وأشخاصًا من الباصات ومواقع البناء.
ولق أُعلِن عن إصابة العديد من المهاجرين نتيجة الاعتداءات الجسديّة لمجرّد ظهورهم في الشّوارع.
قالت وجداني بوعبدالله، وهي صحافيّة تونسيّة مستقلّة، لفناك أنّه على الرّغم من وجود العنصريّة في الثّقافة التّونسيّة إلّا أنّها كانت ملجومة ومكبوتة، “لقد أطلق قيس سعيّد العنصريّة المتأصّلة الّتي كانت مدفونة في نفوس التّونسيّين، بدعمه خطاب الكراهيّة المحرّض بشكل أساسيّ على العنف ضدّ المهاجرين.”.
وأضافت: “لقد نقض عقودًا من التّعايش وتقبّل الآخر الّذي توصّل إليه أسلافنا باحترامهم بعضهم بعضًا، وبعدم تصرّفهم بناء على الدّوافع العنصريّة.”
لم تُصدر بلدان المغرب المجاورة أيّ بيان رسميّ يُدين تعليقات سعيّد أو يدعمها، وسكوتهم في رأي خرّاط “دليل على الرّضى”.
ويشير الخبير إلى احتمال معاناة تونس مزيدًا من العزلة الدّيبلوماسيّة والاقتصاديّة، في ظلّ استمرار تراجع سمعتها من حيث صونها حقوق الإنسان، ووسط علاقاتها المتوتّرة مع البلدان الإفريقيّة الّتي قد توقف النّشاط التّجاريّ معها.
يبدو أنّ الوضع يتأزّم في ظلّ رحيل أعداد كبيرة من المهاجرين الإفريقيّين عن البلاد. إلّا أنّ عددًا كبيرًا من الشّعب يدعم بيان رئيس الجمهوريّة، ولقد أخذ هؤلاء الأشخاص إجراءات عنيفة سواء عبر الإنترنت أو على أرض الواقع تعبيرًا عن كرههم تجاه المهاجرين.
التّمييز العنصريّ ليس أمرًا جديدًا في المنطقة
تعتري العنصريّة تجاه الأفراد ذوي البشرة الدّاكنة بلدان الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل عامّ، ومع ذلك بقي الخطاب عن العنصريّة مدفونًا لعصور.
أخبر كريم نوفل، أخصّائي الاتّصالات في المنظّمة اللّبنانيّة غير الحكوميّة “حركة مناهضة العنصريّة”، فناك بأنّ “الاستعباد في تاريخ العرب وظهور نظام الكفالة، أمران يجب أخذهما في الاعتبار عند مناقشة العنصريّة في الشّرق الأوسط”.
بدأ نظام الكفالة في خمسينيّات القرن الماضي وهو بشكل أساسيّ يمنح أصحاب العمل سيطرة مطلقة على عمّال المنازل الّذين يأتون إجمالًا من إفريقيا وجنوب آسيا، فيلغون حرّيّاتهم وحقوقهم القانونيّة.
أمّا تجارة الرّقيق، في المقابل، فهي المنافس الأقلّ شهرة للعنصريّة في المنطقة، إلّا أنّ هذا السّكوت الملحّ عن المسألة هو ما أبقى أثر تجارة الرّقيق على منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا مقبولًا من دون أيّ اعتراض، ومتأجّجًا في ظلّ إنكار التّاريخ العرقيّ الأليم الّذي يشكّل ركيزة التّمييز العنصريّ اليوم.
يقول نوفل: “عندما لا يزال لدينا بيئات حاضنة لخطاب الكراهية وأشخاص في مناصب عليا يحثّون على كراهية المهاجرين، تبقى الانفجارات الاجتماعيّة المكتنفة للعنف الجسديّ دائمًا محتملة.”
وبذلك، يستمرّ السّياسيّون في استغلال الأقلّيّات مثل اللّاجئين، والمهاجرين، وحقوق مجتمع الميم عين LGBTQ+ ككبش محرقة لإلهاء الشّعب عن إخفاقاتهم السّياسيّة.
أخيرًا، يشير نوفل إلى أنّ “هناك جدال طويل حول الهويّة العربيّة في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، وما زال هذا المفهوم بصدد التّعريف والتّوضيح. وما زالت خلافات كثيرة، بخصوص شكل الإنسان العربيّ، ولون بشرته، أو أيّ من بلدان الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا يمكن تصنيفه كعربيّ، موجودة.” وأضاف أنّ هذا الغموض والتّمسّك بالهويّة العربيّة يمكن أن يؤدّيا إلى خلق أعداء متعدّدين يظهرون وكأنّهم مختلفين وبالتّالي خطيرين.