تحدت حسيبة هاشم الأعراف المجتمعية لتصبح واحدة من آخر المنشدات الإسلاميات في عصرها. لا يزال إرثها حيًا من خلال أناشيدها المسجلة، ولا يزال يتردد صداها لدى الجماهير بعد فترة طويلة من وفاتها في عام 1992.
دانا حوراني
على منبر بجانب الطريق الذي يعجّ بالمؤمنين، تقف امرأة متشحةً بثوب فضفاض أسود حتى إنها تكاد لا تظهر من الراية السوداء خلفها. يرفرف رداؤها وهي تحاكي حداد النساء الناجيات من معركة كربلاء في مرثاة بعنوان “يا دموع العين سيحي“. وتغطي رأسها بحجاب أسود يجذب الانتباه إلى حركة يديها المرفوعتين تضرعًا، وأصابعها التي تموج في الهواء كأنما تسعى إلى ملامسة السماء.
تبدأ التهويدة بصوت صدوح جميل يملؤه الشجون ويحمل ثقل قرون من الحزن والأسى. تردد كلمات مراث قديمة في ذكرى حداد محرم. تفيض كل عبارة بالإخلاص، ويتردد صداها في الهواء كأغنية حزينة تلامس شغاف قلوب السامعين.
وهي في تلك اللحظة، كما نرى في مقطع فيديو لآخر أداء لها عام 1991 في النبطية، جنوب لبنان، لم تكن مجرد امرأة تتشح بالسواد، بل وعاء للحزن والحداد الجماعي يعبّر عن آلام شعبها واشتياقهم. ورثاؤها ليس مجرّد كلمات، بل إبانة عن الإيمان والعزيمة في وجه الفواجع، وشهادة على أرواح السابقين الباقية، وإعلانًا للمقاومة.
تُوفيت حسيبة هاشم عام 1992، لكن مواويلها وجدت جماهير جديدة عبر منصات مشاركة الفيديو على الإنترنت. وانتشرت تلك المقاطع مؤخرًا بعد تعرّض لبنان مرة أخرى للهجوم الإسرائيلي، إذ راح الناس يبحثون عن العزيمة والإلهام من خلال صوتها الصدوح.
على سبيل المثال، بثّت المغنية السورية لين أديب الروح من جديد في أحد مواويل حسيبة هاشم عندما نشرت مقطع فيديو على إنستغرام تؤدي فيه موّالًا لهاشم آداء صادقًا، في فيلم “كلنا للوطن“، وهو عبارة عن وثائقي مدّته 75 دقيقة أُنتج عام 1979 من إخراج مارون بغدادي، يتناول غزو إسرائيل لبنان في ذلك الوقت.
وقالت أديب لفنك: “أسرني موال هاشم فور سماعه. لذلك شعرت بأن عليّ أن أتعلّمه وأغنّيه”.
وأوضحت: “جذبني أسلوب هاشم في الغناء، وصوتها المميز لأنها كانت تغنّي عن الموت بحنان وثبات، رغم أن النساء يُعتبرنَ مصدرًا للحياة”.
وأضافت: “لا ترمز هذه التقاليد إلى معاناتنا الشخصية والاجتماعية والسياسية فحسب، بل تمثّل أيضًا حاجتنا إلى التعبير عن أنفسنا نحن أهل الشام. فهذه المراثي تريحنا وتكسر جدران العزلة في أوقات الشدة”.
واليوم، بعد الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان، يتردد صدى مواويل حسيبة هاشم ومراثيها الحزينة بعمق أكبر، بحسب من عرفوها. وقد شهدت مدينتها النبطية مؤخرًا مجزرة مروعة بعدما أطلقت إسرائيل وابلًا من الصواريخ أودت بحياة ثمانية مدنيين لبنانيين في مبنى سكني.
إلى حين كتابة هذا المقال، قتلت إسرائيل أكثر من 300 شخص في جنوب لبنان وما لا يقل عن 30 ألف فلسطيني في غزة منذ السابع من أكتوبر.
ويرى محللون أن تاريخ إسرائيل العدواني ينمّ عن استراتيجية راسخة تهدف إلى تحويل جنوب لبنان إلى منطقة عازلة غير صالحة للسكن. لكن رغم هذه المحاولات، ما يزال أهل الجنوب صامدين متمسكين بأرضهم، سواء خلال غزو الجنوب عام 1978، أو في حرب 2006، أو إبّان الهجمات الحالية. وما صمود مواويل هاشم حتى الآن، رغم قلة التسجيلات، إلا مثالًا على صمود الجنوب.
الأخيرة من نوعها
وُلدت هاشم عام 1926 في قرية النبطية الفوقا بمحافظة النبطية. وتزوجت محمد محمود بدير ثم انتقلت إلى المدينة.
وفي الوقت الذي كان ترتيل القرآن وإنشاد الرثاء في المآتم مقتصرًا على الرجال، قررت هاشم أن تتصدر هذا الدور لتصبح واحدة من آخر قارئات العزاء الإسلاميات في المنطقة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ورغم أن تقليد قارئات العزاء ما يزال موجودًا حتى اليوم، فإنه لا يتمتع بشعبية كبيرة كما كان من قبل. كما أصبح هذا التقليد ممارسة خاصة، بحسب المؤرخ شارل حايك.
ينشد المسلمون الشيعة في مثل هذه التجمعات قصائد تروي قصة معركة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين وإمام الشيعة الأول وفقًا للمذهب الشيعي.
قدّمت معركة كربلاء، التي وقعت في مدينة كربلاء بالعراق (680 م)، تقليدًا من المراثي الدينية العراقية والنصوص التي تتمحور حول الإمام الحسين والمعركة التي يردد قصتها جميع المسلمين الشيعة في أنحاء العالم خلال شهر محرّم ويوم عاشوراء.
إلا أن حسيبة هاشم أضافت إلى هذا التقليد بعدًا فريدًا ما يزال يميّزها عن غيرها حتى يومنا هذا.
فقد اكتسبت هاشم سمعة ما يزال يتردد صداها في جنوب لبنان، إذ يردد صوت هاشم، بحسب من عرفوها، جوهر الجنوب وأهله ونضاله بطريقة لا يمكن تكرارها.
ما تزال جارتها هالة حسين تتذكرها بإعزاز. كانت حسين تبلغ من العمر 18 عامًا فقط عندما تزوجت وانتقلت للعيش في المنزل المجاور لمنزل حسيبة هاشم، في الوقت الذي أثبتت فيه نفسها كقارئة عزاء.
وقالت حسين لفنك: “كان أبناؤها الثمانية متزوجين بالفعل، وهاجر سبعة منهم إلى ألمانيا وواحد إلى السويد. وكانت تخبرني أنها عاشت حياة صعبة”.
لم تكن هاشم اجتماعية وكانت تكرّس معظم أوقاتها لعملها. ذكرت جارتها كيف أنها كانت تصحو فجرًا، وما زالت تذكر الصوت الذي كان يصدره دلو الماء المعدني بينما كانت هاشم تنظف بيتها، وأنها كانت تطهو الطعام قبل أن تخرج لترتيل القرآن في المآتم. وكانت لا تعود إلا في المساء لتصلي وتأكل وتنام، ثم تكرر ذلك كله في اليوم التالي.
قالت جارتها: “كانت بالكاد تستريح يومًا من عملها. لقد كانت امرأة شجاعة ولم تكن تحب أن يتدخل أي شخص في عملها. كما كانت مرحة أيضًا، مرحة تحب الحياة والمزاح”.
تحدت هاشم الأعراف والتقاليد بأكثر من طريقة. فقد خلعت زوجها وربّت أبناءها الثمانية وحدها، حسبما أوضحت جارتها لفنك.
وقالت: “لقد شقّت طريقها بنفسها فكانت خير مثال للأمهات اللاتي لم ينعمن بزيجات جيدة. اعتمدت على نفسها لتنعم هي وأطفالها بحياة كريمة”، وأضافت أن هاشم لم تكن تخجل من التعبيرعن رأيها، بل كانت تتحدث بصراحة وحماسة خلال التجمعات التقليدية.
كما شاركت هاشم في احتفالات المولد النبوي، حيث تُتلى نصوص دينية خاصة في ذلك اليوم.
يروي الناشط الاجتماعي النبطي مهدي عبد الحسين صادق كيف بدأت مسيرة حسيبة هاشم المهنية. يُقال إن امرأة سمعتها بينما كانت تغنّي تهويدة لطفلها، فأدهشها صوتها ونصحتها فورًا بأن تصبح منشدة.
بل وحددت لها موعدًا لمقابلة فاطمة الأسعد، زوجة أحمد الأسعد، النائب اللبناني ورئيس مجلس النواب من عام 1951 إلى عام 1953. وقد تمتعت عائلة الأسعد بمكانة كبيرة وكان لها نفوذ في جنوب لبنان في أواخر القرن العشرين.
وأوضح صادق: “كانت فاطمة، الشهيرة بأم كامل، معروفة بحبها للمشاركة في الشعائر الدينية، وكانت مولعة بتنظيم طقوس العزاء”.
أنشدت حسيبة هاشم الشعر أمام أم كامل مع أنها لم تكن قد تدربت أو احترفت الإنشاد، إلا أن أم كامل أُعجبت بها على الفور، ومن هنا بدأت مسيرة هاشم المهنية.
وبحسب مهدي صادق وهالة حسين، جاء أهل القرى من أنحاء الجنوب ومن جميع الأديان والطوائف إلى هاشم كي تنشد في المآتم وفقًا لتقاليدهم.
الإنجازات والإرث
تذكر جارتها هالة حسين بإعزاز ما ميّز هاشم عن غيرها: “كان صوتها يبث الدفء. كانت تعرف كيف تلامس مشاعر الناس وتجذب قلوبهم”.
ووافقها صادق في هذا الشعور إذ وصف صوت هاشم بأنه يتجاوز “الفروق أو التوقعات المرتبطة بالرجال والنساء”.
وأضاف: “كان صوتها مرآة للأرض في سفوحها وحقولها، يردد صدى الأشخاص الذين قلبوا التربة وحرثوا الحقول”.
كان صوت هاشم فيه بُحة لطيفة تضفي نبرة مريحة رغم حزنها. وكان فيه بعض الخشونة التي تشعر المرء بالألفة.
وأوضح صادق أن هاشم كانت قادرة على تحويل التلاوات الدينية الشعبية الناشئة من التقاليد العامية العراقية إلى مراث لبنانية جنوبية يتردد صداها بين أهل المنطقة، وذلك رغم أنها لم تتلقَّ تعليمًا رسميًا. كما كانت تؤلف رثاء خاصًا بكل متوفٍّ.
كما استخدمت فن العتابا، وهو شكل غنائي تقليدي في الفولكلور العربي، وغالبًا ما يُؤدَّى من دون آلات موسيقية. وينسج مطربو العتابا أبيات الشعر التقليدي في ألحان مرتجلة.
وفقًا لحسين، كانت هاشم تبدأ مراثيها بأسلوب العتابات قبل الانتقال إلى طقوس العزاء المعروفة.
وأضاف: “كان صوتها يحمل كثيرًا من الحقيقة. من الصعب الاستماع إليها دون أن تجهش بالبكاء. هكذا كان تأثير صوتها وقيمته”.
جذبت موهبة هاشم الاهتمام خارج مجتمعها حتى إنها ظهرت في فيلمين مشهورين. فعلاوة على فيلم “كلنا للوطن” للمخرج مارون بغدادي، ظهرت في فيلم “كفر قاسم” للمخرج برهان علوية، وهو فيلم درامي سوري أُنتج عام 1975، ويصور مذبحة كفر قاسم التي ارتكبتها شرطة الحدود الإسرائيلية (ماجاف)، والتي أسفرت عن مقتل 49 مدنيًا فلسطينيًا عائدين إلى منازلهم من العمل في عام 1956.
كما كان لها دور رئيس في مسرحيات عاشوراء السنوية في النبطية، إحياءً لذكرى معركة كربلاء. كانت تجلس خلف المسرح متشحةً باللون الأسود، وتبدأ أناشيدها ورثاءها عند إعادة تمثيل استشهاد الإمام الحسين.
وحتى يومنا هذا، تُشغّل مراثيها المسجلة خلال موكب عاشوراء.
وقال صادق: “لم تسع هاشم قط إلى الشهرة، ولم ترفض عرضًا للإنشاد مهما كان الجمهور قليلًا”. وأضاف: “رغم بعض الاعتراضات من وقت لآخر من بعض الشباب المسؤولين عن تنظيم مسرحية عاشوراء في ذلك الوقت، كانت هاشم تأخذ الميكروفون بحزم وتبدأ في الإنشاد غير منزعجة من آرائهم”.
ظاهرة فريدة
وبحسب صادق، فإن الجانب الآخر الجدير بالملاحظة في شخصية هاشم هو إصرارها على تعلم القيادة في سن الخمسين. إذ قال: “رغم تعرضها لحوادث عديدة، فقد كانت مصرّة على تعلم القيادة في تلك السن”.
وأضاف: “كانت تحتفظ أيضًا بدفتر تكتب فيه مراثيها وأناشيدها، لكنها كتبتها برموز مشفرة حتى لا يتمكن أي شخص آخر من قراءتها”.
وتذكر جارتها حسين كيف كان أبناؤها يحاولون إقناعها بالاعتزال، لكنها رفضت رفضًا قاطعًا.
تُوفيت في 17 ديسمبر 1992.