وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الدراما السورية تستعيد بريقها

بعد سنوات من التراجع، بدأت صناعة الدراما السورية باستعادة زخمها عبر تناول أعمالها لحزمة من القضايا الحساسة.

الدراما السورية تستعيد بريقها
لقطة من الحلقة 25 من المسلسل الدرامي ابتسم أيها الجنرال على تلفزيون سوريا. المصدر: تلفزيون سوريا / يوتيوب

برزت الدراما السورية وجذبت الأنظار إليها في الوطن العربي في عقد التسعينات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين. ورغم تأثرها الكبير بالأزمة الحاصلة في سوريا منذ عام 2011، فقد تمكنت صناعة الدراما السورية من المحافظة على رصيدها الجماهيري من مختلف الدول العربية. ويعود ذلك إلى مدى قوة وتأثير وجودة الأعمال المُنتجة والمنتمية إلى هذه الدراما.

واستطاعت هذه الدراما أن تقطع شوطاً مهماً في طرح العديد من القضايا والمواضيع الحساسة خلال الموسم الرمضاني المنصرم. وشمل ذلك التطرّق إلى سردياتٍ متعددة، ابتداءً باللاجئين السوريين، ومروراً بالأزمة السورية والنزاع الدائر بين الأطراف المتحاربة، ووصولاً إلى إعادة سرد مراحل مختلفة من تاريخ سوريا برؤى جديدة.

الرهان على العودة

في ظلّ الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها سوريا منذ عام 2011، بدأ النقاش حول إذا ما كانت الدراما السورية في حالة هبوط أو صعود. وبحسب إحصائية نشرها موقع قناة الميادين، فقد تم إنتاج 234 مسلسلاً سورياً بين عامي 2011 و2019، منها 203 عملاً من إنتاج سوري بحت. أما الأعمال الـ31 الأخرى، فكانت من إنتاج عربي بمشاركة سورية.

في المقابل، فإنّ ما أنتجته الدراما السورية بين عامي 2000 و2010 وصل إلى 274 عملاً تلفزيونياً، بينها تسعة أعمال مشتركة. وبحسبةٍ بسيطة، فإنّ كمّ الإنتاج كان متقارباً، بمعدل سنوي بلغ حوالي 25 عملاً فنياً قبل الأزمة، مقابل 26 عملاً فنّياً سنوياً حتى عام 2019. ومع ذلك، فإنّ مكانة الدراما السورية انحسرت على المستوى العربي فيما بعد الأزمة لضعف ما أنتجته من أعمال وعدم توافر الشروط الكفيلة بضمان استمرارية حضورها ودورها.

ومع توقف قسمٍ كبير من حالات القتال الدائرة في سوريا، لا سيما خلال العامين الأخيرين، عاد الرهان على عودة الدراما السورية، وعلى نقلةٍ تحدث فيها شكلاً ومضموناً. ويتفق معظم المشاهدين والنقاد السوريين وغير السوريين على أنّ الدراما السورية عادت وبقوة إلى سابق عهدها في موسم 2023. ويعود تقدّم هذا العام لعدة عوامل، لعلّ أبرزها جدّية وحداثة وتمايز القضايا التاريخية والسياسية والاجتماعية التي تناولتها أعمال الموسم.

موسم 2023 كان غزيراً على صعيد القصص. وروت بعض القصص حكايات أبطال شعبيين. أما البعض الآخر، فدخل عوالم الجريمة والفساد والسياسة والصراع على السلطة. وعلى سبيل المثال، تطرّق مسلسل “النار بالنار” لقضايا اللاجئين السوريين في لبنان. أما مسلسل “الزند – ذئب العاصي” فتناول ما عايشه فلاحو الساحل السوري من تحديات في مرحلةٍ متأخرة من الحكم العثماني لسوريا. وكسر مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” الحواجز ووصل إلى حد طرح حكايا أروقة السياسة في القصر الجمهوري بسوريا.

في المقابل، عادت بعض الأعمال الدرامية إلى طرح مواضيع في قوالب تاريخية شامية كما في مسلسل “العربجي“، أو فانتازيّة كما في “ذئاب الليل”. وفي نفس السياق، فقد ارتدت بعض مسلسلات البيئة الشامية ثوباً جديداً وخرجت من نمطيتها المعهودة. ومن هذه المسلسلات مسلسلا “مربى العز” و”زقاق الجن“. ويتناول مسلسل مربى العز ما شهدته حارات دمشق من تحولاتٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية في نهاية الحقبة العثمانية في سوريا. أمّا مسلسل زقاق الجن فيقدم دراما بوليسية عن قاتلٍ متسلسل يعيش في حارةٍ دمشقية يظن أهلها أنّ الجن هم المسؤولون عن تلك الجرائم.

استطلاع رأي

استطلع موقع فنك رأي شريحة من مشاهدي الدراما السوريين وغير السوريين عبر موقع التواصل فيسبوك للحديث عن هذه الدراما وما قدمته من مسلسلات في الموسم الرمضاني المنصرم، لا سيّما مسلسلات “النار بالنار” و”الزند – ذئب العاصي” و”ابتسم أيها الجنرال”. وفي نفس السياق، أجرى فنك حوارات مع مجموعة من كتّاب وصانعي أفلام حول الدراما السورية في موسم رمضان لعام 2023.

الكاتبة اللبنانية لين نجم أكدت لفنك على خصوصية صناعة الدراما السورية، مشيرةً إلى أن هذه الدراما في طريقها للعودة إلى مكانها الريادي على المستوى العربي. وفي هذا السياق، قالت نجم: “الدراما السورية تشكل مرجعاً أساسياً لصناعة الدراما العربية، لأنّ قديمها يبقى متجدّداً وقابلاً للمشاهدة بعد سنواتٍ طويلة. وبرأيي، فإنّ ما شهدته سوريا في العقد الأخير سيكون الأساس لانطلاقة جديدة ومرعبة لصناعة الدراما السورية. وأنا أعوّل على عددٍ من الممثلين والكتّاب والمخرجين، خاصة هؤلاء الجدد”.

من جهته، قال المدوّن والقارئ الفلسطيني محمود أحمد لفنك: “لقد خرجت الدراما السورية بالفعل من غيبوبتها مع ما تمّ تقديمه من مسلسلات في هذا الموسم. كما أنّ هذه الدراما خرجت من دراما الطبقة المخملية، وهو ما يعد إنجازاً كبيراً بحدّ ذاته. وباعتقادي، فإن مسلسلي الزند وابتسم أيها الجنرال يشكلان خطوةً جيدةً على طريق طرح التاريخ الحديث على الشاشة. ومسلسل النار بالنار يبيّن لنا الوضع المعاش كذلك”.

ويؤمن عددٌ من المستطلعين بدور الدراما السورية المجتمعي، وبأنها الوسيلة الأنسب والأفضل لتحريك الأفكار داخل المجتمع. وتؤكد ذلك إحدى المشاركات في الاستطلاع بقولها: “الدراما السورية فتّحت ذهني ووجهت عقلي إلى قضايا كثيرة. هذه الدراما سلّطت الضوء على مواضيع مهمة، سواءً كان الطرح لاستفزاز العقل أو لإثارة العاطفة”.

أحد المشاركين الآخرين في الاستطلاع رأى أن الدراما “مرآة الواقع”. وأضاف: “يتغير الفرد بطريقة أو بأخرى عن طريق الدراما، وربما يتغير حال بلدٍ بأكمله عن طريقها. إنها أهم مما نعرف عنها وأخطر مما نعتقد”.

وأشار العديد من المشاركين في الاستطلاع إلى ما تتمتع به صناعة الدراما السورية من أهمية وحضور على المستوى العربي. وفي هذا السياق، قال أحد المستطلعين: “الدراما السورية سبّاقة في تسليط الضوء على قضايا مهمة جداً وعلى تابوهات مجتمعية مثل الدين والجنس والسياسة. هذه الجرأة بالطرح مهمة على الصعيد الاجتماعي، فالدراما السورية تخرج إلى النور في سياقٍ شرق أوسطي له محاذيره وشروطه وقيوده. وهي تحرّك شيئاً من المياه الراكدة فيه.

وعلى ذلك، تلعب للدراما السورية دوراً توعوياً ونهضوياً. وقد لا يكون هذا الدور واضحاً في بعض أعمال البيئة الشامية أو في الأعمال الأخرى التي تم إنتاجها على عجل، إلا أن القسم الأكبر من أعمال الدراما السوريّة يلتزم بهذا الدور”.

النار بالنار

أثار المسلسل عدداً من القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة غير المطروقة في الدراما المشتركة. ومن المواضيع التي تم التطرّق لها “الأثر المجتمعي للتدخل العسكري السوري في لبنان عقب الحرب الأهلية اللبنانية، وقضية مفقودي الحرب الذين لم يُعرف مصير بعضهم إلى اليوم، وتصاعد العنصرية ضد اللاجئين السوريين“.

الكاتب والمخرج السوري نضال قوشحة يرى أن “النار بالنار” يوثق درامياً مجموعةً من الأحداث. وتعكس هذه الأحداث “تشوهات فكرية أصابت شخصياتٍ تمثل بعض الأفراد في المجتمع”. كما يحاول المسلسل، والكلام لقوشحة، “تقديم رؤى وحلول لمشاكل حياتية ترتبط في الغالب بمسائل الحرب واللجوء والعلاقات الإنسانية”.

المشاركون في الاستطلاع اتفقوا على إعجابهم بتطرّق المسلسل لأول مرة لمسألة العنصرية والكراهية التحريضية، والوجود السوري في لبنان. كما أثار المسلسل انقسامات جديدة، ونقاشات حول ثنائية السوري واللبناني، وثنائية المتشدد الإسلامي واليساري.

وقال أحد المستطلعين: “المسلسل يوضح جزءاً من الوضع السائد، وحقيقة تعامل شريحة لا تمثل كلّ اللبنانيين بطريقة عنصرية مع السوريين”. وأضاف: “إننا بحاجة إلى مزيد من هذه الأعمال التي تشرّح الأوضاع السياسية والاجتماعية، لتصويب ما هو خاطئ”.

الجميل والباعث على الإعجاب هو توافق شريحة واسعة من الجمهورين السوري واللبناني على ما شعروا به من تعاطف أو حتى حنق أو غضب تجاه بعض المشاهد الواردة في المسلسل. وبحسب إحدى المشاركات السوريات في الاستطلاع، فإنّ هذا التوافق يؤكد الأعمال العنصرية التي تقوم بها شريحةٌ صغيرة من المجتمع لا تعني أن المجتمع كلّه يقبل بتلك الأعمال. وأعربت المستطلعة عن أملها بأن يُسهم العمل في “خلق بيئة آمنة، لا يتعايش فيها السوريون واللبنانيون، بل يعيشون فيها بسلام”.

الزند

حاز مسلسل “الزند – ذئب العاصي” على جماهيرية كبيرة. ويعود السبب في ذلك إلى تقديمه لبطلٍ شعبي من فلاحي قرى وادي العاصي الذين كان عليهم مواجهة ظلم الإقطاعيين في تلك المنطقة. وزاد الاهتمام بالمسلسل مع استخدام شخصياته للهجاتٍ محلية مختلفة تشير إلى انتمائها المناطقي والمذهبي. وعلى سبيل المثال، فإن شخصية عاصي الزند تتحدث بلهجة العلويين المقيمين في تلك المنطقة، في حين يتحدث الباشا نورس مع بعض معاونيه بلهجة سنة اللاذقية.

وفي هذا السياق، يقول الكاتب عمار المأمون: “سيادة القاف دفعت البعض إلى وصف المسلسل بـ”العلويّ”، واستعادة المظلوميّة العلويّة، وتبني سرديّة النظام، والسخرية من الثورة السوريّة، لأنه يقدم بطلاً يتحدث بالقاف، علماً أن المسلسل يصوّر تاريخ حوض نهر العاصي، ولا يوضح الطوائف. والأهم، لا علاقة له بالساحل، لكن “الرعب من القاف” هو الذي ساد، وصودرت اللهجات والمناطق كلها لصالح طائفة واحدة موجودة في مخيّلة المشاهدين”.

وفي نفس السياق، قال أحد المستطلعين: “التطرق لتصوير وروي حكاية من تلك المنطقة، وقيام العمل على لهجة لم يعتدها المشاهدون إلا من باب السخرية والتصوير الكاريكاتوري، هو أمرٌ شديد الأهمية. هذا المسلسل يفتح الآفاق أمام الدراما السورية كي تتوجه لتناول الأقليات وتخرجها عن تنميطها”.

ورغم وجود بعض الأخطاء في المسلسل، فقد أجمع معظم المشاركين على وجود رموز وإشارات خلف الحكاية يمكن أن تُساق إلى زمننا الحالي. وقال أحد المستطلعين: “ثورة العبيد صالحة لكل زمان ومكان. وهي ليست حكراً على منطقة أو لهجة أو انتماء”. وشدّد على أنّ “لهجة القاف” لا تميز طائفة واحدة، بل منطقة واسعة من سوريا فيها عدّة طوائف.

من جانبٍ آخر، أبدى مستطلعٌ آخر إعجابه بالصورة البصرية للمسلسل وتأثره بعدّة مشاهد من السينما العالمية. وبحسب هذا المشارك، فإن تلاقي السينما بالتلفزيون في هذا العمل “يمكن أن يمدّ الصنعة بدماءٍ جديدة”.

ابتسم أيها الجنرال

أحدث المسلسل بلبلة للسوريين وحالة اجتماعية وسياسية لم يسبقه إليها عملٌ آخر. ووصل الأمر بمشاهدي المسلسل من داخل سوريا إلى الإشارة له بـ “هداك المسلسل” خوفاً من التبعات الأمنية للحديث عنه علانيةً.

ولا يكتفي هذا المسلسل بطرح ما هو سياسي عرضاً، بل يقوم بأكمله على السياسية. ورغم أنّ الجملة التي تُكتب بداية كلّ حلقة من قبيل أنّ أي تشابه بين المسلسل والواقع هو صدفة، إلا أنّ المشاهدين عرفوا منذ اللحظة الأولى أنّ العمل يدخل القصر الجمهوري لعائلة الأسد.

وفي هذا السياق، يقول أحد المشاركين في استطلاع فنك: “كاتب العمل ذكيٌّ جداً. لقد تمكّن من رسم شخصيتي حافظ وبشار الأسد في شخصية فرات. وتمكّن من رسم شخصيتي رفعت وماهر الأسد في شخصية عاصي”. وأضاف أنّ العمل “لا يتطرق لسنوات حكم بشار الأسد فقط، بل أنه يعود بالزمن إلى بداية حكم عائلة الأسد لسوريا في السبعينيات”.

يتفق المستطلعون على أن العمل كان يمكن أن يُنتج بصورة أفضل بكثير مما كان عليه، على صعيد الشكل والأداء التمثيلي. ولم يغفلوا الأخطاء التي فيه. لكنّ معظمهم يشير كذلك على أنّ الدراما العربية والسورية بشكل خاص تحتاج لمثل هذه الأعمال التي لا تكتفي بإشارة إلى واقعٍ سياسي، بل “تذهب إلى بيت الرئيس لتروي أسراره وما يجري فيه”.

أبطال العمل ومنهم الممثلة عزة البحرة، أكدوا أن العمل ليس عملاً توثيقياً لحقبة عائلة الأسد، بل يخضع لشروط فنية ودرامية. وفي هذا السياق، قالت البحرة إن هذا العمل الدرامي “يمكن إسقاطه على كل الأنظمة الدكتاتورية”.

في حديث خاص لفنك، قال مخرج المسلسل عروة المحمد: “التجربة هي الأولى من نوعها على صعيد الأعمال السياسية الدرامية. وهو عملٌ نقدي سياسي لكن لا يحمل أيديولوجيا سياسية بعينها بل عين نقدية للواقع السياسي في البلاد”. وأضاف: “الحامل الرئيسي في العمل هو النقد السياسي للأنظمة الديكتاتورية. ويمكن إسقاطه على أنظمة قمعية مختلفة في المنطقة، ليس فقط على دولة دون سواها”.

بحسب المحمد، فإن مسلسل ابتسم أيها الجنرال “يتوغّل حلقة بعد حلقة في تشريح المشكلة السياسية في سوريا، منذ عهد الأب وصولاً إلى عهد الابن في منظومتي النظام القديم والجديد. ويتم ذلك عبر تسليط الضوء على التقاطعات ما بين الحقبتين”. وأضاف المحمد: “دمج أكثر من شخصية حقيقية في كاريكتر واحد يدلّ على أن العقلية الأمنية في سوريا هي نفسها باختلاف الشخوص والأسماء والأدوات”.

لا يغفل المحمّد انتقادات الجانب الفني في المسلسل، لكنه يؤكد في الآن نفسه على قوّة ودور النص النوعي لأنه “حقق الجدوى المرجوة منه وهي الوصول إلى الشارع وإحداث جدل وخلق تساؤلات”. وبحسب مخرج العمل، فإن مهمة النص “لم تكن تقديم الإجابة على تساؤلات المشاهدين بقدر إثارة هذه التساؤلات بالدرجة الأولى”.

وختم المحمّد بالقول: “من الواضح أن الجمهور تواقٌ لمشاهدة ترفع سقف التوقعات. حتى المختلفون والمعارضون لفكرة المسلسل تابعوه لتوقهم لهذا النوع من المسلسلات”. وأعرب المحمّد عن أمله بأن تكون التجربة بمثابة “تعبيد للطريق أمام تجارب لاحقة ستأتي، يكون مستواها النقدي مشابه لشفافية وقوة ابتسم أيها الجنرال في منطقة الشرق الأوسط التي تتجه إلى إخماد لغة النقد والتمرد”.