نبيل محمد
خلال أكثر من عقد من الزمن، وتحديداً العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، كانت الأعمال التلفزيونية السورية، واحدةً من أهم المنتجات التي تقدّمها سوريا، وتصدّرها إلى بلدان عربية عدّة، تنافس فيها المنتجات التلفزيونية المصرية التي اجتاحت خلال عقود مختلف وسائل البث المرئية العربية، وباتت النموذج السائد للمسلسل الناطق باللغة العربية. لقد كانت تسمية “مسلسل عربي” تعني أنه مسلسل مصري، وهو ما كان سائداً قبل ذلك في السينما، حيث السينما العربية هي سينما مصرية، وفق المنطوق السائد في مختلف البلدان العربية. إلا أن دخول سوريا في الإنتاج التلفزيوني، نهايات القرن العشرين وبدايات الواحد والعشرين، غيّر من هذا المفهوم نسبياً.
كثافة الإنتاج الدرامي السوري خلال أعوام ما بعد 2000م، لم تكن سوى نتيجة تراكم تجارب وخبرات في الإنتاج التلفزيوني، ترجع إلى عقود سابقة، قدّمت فيها الكوادر الفنية السورية من منتجين ومخرجين وممثلين وكتاب أعمالاً، كانت بلا شك الأرضية التي ارتكزت عليها هوية الفن التلفزيوني السوري فيما بعد.
البدايات
خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر، وتحديداً بتاريخ 23 تموز/يوليو 1960، كانت الانطلاقة الأولى للإنتاج الدرامي السوري، حيث شهد هذا العام تأسيس “التلفزيون السوري” التابع للقطاع العام، والذي نقل الخبرات الفنية السورية العاملة آنذاك في المسرح والسينما إلى التلفزيون تدريجياً. فرق مسرحية كثيرة كانت نشطة في دمشق وحلب خلال العقود السابقة لتأسيس التلفزيون، بل قبل ذلك بكثير، فخلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر، قدّم المسرحي السوري أبو خليل القباني وحده 33 عملاً مسرحياً[1].
واستمرت هذه الحركة مع مسرحيين آخرين خلال العقد الأول من القرن العشرين، ووفرت للتلفزيون فيما بعد كوادر ستكون هي المؤسسة للدراما السورية. فأغلب الوجوه التلفزيونية الشهيرة في مرحلة تأسيس التلفزيون السوري، كانت وجوهاً قادمة من المسرح الذي تعددت فرقه في المدن السورية وخاصة دمشق، ابتداءً من الفرقة الاستعراضية[2] التي أسسها عبد اللطيف فتحي (1916-1986) الذي سيعرف في التلفزيون فيما بعد بأدوار كوميدية عديدة، ومروراً بفرقة اتحاد الفنانين التي ضمت صبري عياد (1916-1969) ورفيق سبيعي (1930-2017) وغيرهم، ووصولاً إلى فرقة العهد الجديد التي ضمت سعد الدين بقدونس (1924-2005) ومجموعة من الفنانين الذين أيضاً كان لهم دور هام في بدايات الدراما السورية. تلك الفرق المسرحية وغيرها الكثير من الفرق الأخرى أفرزت فيها بعد فرقة المسرح القومي التي تأسست في دمشق عام 1959، والتي مع إذاعة دمشق المؤسَّسة سنة 1947، رفدت الشاشة السورية بأهم كوادرها بعد تأسيس التلفزيون.
بداية البث التلفزيوني كانت عبارة عن ساعة ونصف يومياً يتم الإرسال فيها من قمة جبل قاسيون في دمشق، وكان المحتوى حينها يتضمن بعض الأخبار، ويعتمد أيضاً على ما تنتجه التلفزيونات العربية الأخرى من برامج ومواد، إضافة إلى بث أعمال مسرحية سورية لفنانين كانت لهم شهرة كبيرة في سوريا والعالم العربي كمحمود جبر (1935-2008) ونهاد قلعي (1928-1993) ودريد لحام.
أول عمل درامي سوري كان سهرة تلفزيونية بعنوان “الغريب” 1960، أخرجها سليم قطايا القادم من خلفية مسرحية أيضاً، وكان العمل من بطولة ثراء دبسي وبسام لطفي وياسر أبو الجبين، وموضوعه كان هو الثورة الجزائرية.
يمكن اعتبار عقد الستينات منطلقاً لعجلة الإنتاج التلفزيوني السوري بعدة أعمال نالت شهرة محلية وعربية حينها، بدءاً من تمثيلية “الإجازة السعيدة” 1960 للمخرج خلدون المالح (1938-2016)، ومن بطولة دريد لحام ونهاد قلعي ومحمود جبر. لتظهر مجموعة من الأسماء التي خطّت الخطوات الأولى للدراما السورية، أشهرهم في الإخراج كان خلدون المالح وعلاء الدين كوكش (1942-2020) وسليم قطايا وفيصل الياسري ومحمد شاهين (1931-2004)، وفي التمثيل استمر نجوم المسرح بريادة الشاشة الصغيرة من عبد اللطيف فتحي إلى دريد لحام وهاني الروماني (1939-2010) وشاكربريخان (1926-2007) وسلوى سعيد (1935-2000) وثناء دبسي ونجاح حفيظ (1941-2017) وآخرين.
[1] تطور السيناريو التلفزيوني في سوريا – عماد نداف (الهيئة العامة السورية للكتاب 2020)
[2] المسرح السوري في مئة عام – فرحان بلبل (وزارة الثقافة السورية)
الدراما.. قطاع عام
شكّل تأسيس التلفزيون السوري نقلة نوعية في كم ونوع الإنتاج الفني السوري بشكل عام، لكنه في المقلب الآخر ركّز الإنتاج في يد القطاع العام، بمعنى أن الدولة باتت هي المسؤول الأول عن الإنتاج، بعد أن كان القطاع الخاص هو صاحب الكلمة الفصل في الإنتاج السينمائي والمسرحي. لكن ومنذ أن تشكلت الوحدة بين سورية ومصر بدأ التوجه نحو التأميم بشكل عام، وحصر الإنتاج بيد الدولة، وهو ما توج لاحقاً بتأسيس المسرح القومي، ثم التلفزيون السوري، ثم المؤسسة العامة للسينما عام 1963.
سيطرة القطاع العام بدأت تغيّر في نوعية الإنتاج، وتخفف ما هو تجاري، مقابل تكثيف إنتاج أعمال ذات توجه سياسي واجتماعي ينسجم مع التوجه السياسي القومي العام، ما فتح الباب لبدء إنتاج الأعمال التاريخية، والحد من إنتاج الأعمال الكوميدية التي كانت مسيطرة نسبياً في عقد الستينات وما قبله.
في عقد السبعينات شهد الإنتاج الدرامي التلفزيوني تطورات في أكثر من سياق، الأول تأسيس دائرة المونتاج في التلفزيون السوري عام 1977[1]، وثانيها بدء الإنتاج الملون في العام ذاته. من أبرز الأعمال التلفزيونية في تلك الفترة كان “حارة القصر” 1970 من إخراج علاء الدين كوكش، وبطولة هاني الروماني (1939-2010) ويوسف حنا (1941-1993) وسليم كلاس (1936-2013) ومها الصالح (1954-2008) وآخرين. ثم مسلسل “زقاق المايلة” 1972 من إخراج شكيب غنّام (1937-1993)، وبطولة منى واصف وهالة شوكت (1930-2007) وأسامة الروماني وعدنان بركات (1935-2000) وعصام عبه جي (1941-2014) وآخرين.
في هذا العقد بدأ التنوع يظهر في الإنتاج التلفزيوني السوري، حيث أنتِجت الدراما التاريخية من خلال مسلسل “انتقام الزباء” 1974 من إخراج غسان جبري (1933-2019)؛ والفانتازيا من خلال “دليلة والزيبق” 1976، وهو من إنتاج مشترك أردني سوري ومن إخراج شكيب غنّام؛ والدراما البدوية من خلال “رأس غليص” 1975 وهو أول عمل تلفزيوني سوري يتم تصويره في منطقة صحراوية من إخراج علاء الدين كوكش. فيما بدأت تنحسر الأعمال الكوميدية بشكل واضح.
التطور الإنتاجي التلفزيوني في نهاية السبعينات قابله انحسار في الإنتاج المسرحي والسينمائي، بالتماشي مع سيطرة القطاع العام على الإنتاج، ووصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا 1970، والذي بدأ تدريجياً وبشكل واضح بوضع قيود على الإنتاج الخاص، الذي بدأ ينحسر لحساب القطاع العام في كل مجالات الإنتاج الفني.
حوالي سبعين عمل تلفزيوني ما بين تمثيلية ومسلسل تم إنتاجه في سورية خلال عقد السبعينات، وازداد العدد في الثمانينات مع تطور ملحوظ في الأدوات الإنتاجية، وبناء شراكات مع تلفزيونات واستديوهات عربية ذات باع في الإنتاج. إثر ذلك بدأت بعض الأعمال تشكل منطلقاً لأشكال جديدة في الإنتاج تكرّست خلال العقود اللاحقة، بل وما زال بعضها مستمراً حتى يومنا هذا.
في الثمانينات دخلت أسماء مخرجين جدد إلى الساحة الإنتاجية التلفزيونية، بعضهم خريج أكاديميات فنية في الخارج، جاؤوا بأفكار وتقنيات جديدة ليوظفوها في مجال إنتاج مسلسلات سورية، فإضافة إلى المخرجين الأوائل الذين بدؤوا في عقد الستينات والسبعينات، بدأت الشاشة تعرض أسماء محمد فردوس أتاسي (1942-2021) الذي بدأ العمل أواخر السبعينات، وهشام شربتجي وهيثم حقي.
شهد عام 1982 انطلاقة سلسلة “مرايا” التي أصبحت فيما بعد من الكلاسيكيات الدرامية السورية، وكرّست شكلأً جديداً في الإنتاج، يقوم على فكرة “السكيتش” القصير الكوميدي، الذي يناقش قضايا اجتماعية وإنسانية بطريقة هزلية. قدم الممثل ياسر العظمة من سلسلته ثلاثة أجزاء من الثمانينات هي “مرايا 82 – مرايا 84 – مرايا 86 – مرايا 88” وجميعها كانت من إخراج هشام شربتجي.
[1] الدراما التلفزيونية ‘التجربة السورية نموذجاً’ من السيناريو إلى الإخراج – عماد نداف (دار الطليعة الجديدة 1994)
التسعينات.. الشكل الجديد
يمكن اعتبار عقد التسعينات الانطلاقة الحقيقية للدراما السورية الحديثة، فما قُدّم خلال هذا العقد كان نقلة نوعية على صعيدي الشكل والمضمون، حيث تطوّرت الأدوات، ودخل مخرجون جدد في سياق العملية الإنتاجية، ووظّفت أموال في إنتاجات كبيرة مقارنة مع ما كانت تنتجه سوريا في العقود السابقة. في هذا العقد بالتحديد يمكن القول إن الدراما السورية بدأت تصبح أكثر قرباً من الجمهور، وتحوّلت بعض الأعمال إلى حديث يومي بالنسبة للناس، وبدأ انعكاس الدراما على المجتمع يبدو جلياً في مجالات متعددة.
في 1990 تم إنتاج الجزء الأول من مسلسل “أبو كامل” للمخرج علاء الدين كوكش، ومن بطولة أسعد فضة ووفاء موصلي وملك سكر وهاني الروماني ومها الصالح وعباس النوري وسلوم حداد، ويمكن اعتبار المسلسل أول عمل تلفزيوني يقارب البيئة الشامية التقليدية، التي ستصبح فيما بعد شكلاً مستقلاً من أشكال الإنتاج التلفزيوني، وماركة مسجلة للدراما السورية، وتضاربت الآراء حول دور هذا الشكل الدرامي، وأهميته تاريخياً، في سياق الإنتاج التلفزيوني السوري. الجزء الثاني من المسلسل جاء في سنة 1993، وكان من إنتاج التلفزيون السوري وحده، بعد أن كان الجزء الأول منتجاً بالشراكة مع تلفزيون دبي.
في التسعينات أيضاً بدأت شركات الإنتاج السورية الخاصة بالخوض في غمار إنتاج أعمال تلفزيونية، كانت مشجعة على الإنتاج الخاص، وغيّرت معادلة الإنتاج لتصبح صناعة المسلسل عملاً استثمارياً ينجح بقدر ما يحقق من جماهيرية.
“هجرة القلوب إلى القلوب” مسلسل عرِض في 1991 في سوريا والإمارات، على اعتبار أنه من إنتاج مشترك بين البلدين، واعتبر أول عمل تاريخي ملحمي متكامل، أخرجه هيثم حقي ولعب بطولته مجموعة من النجوم الذين حضر أغلبهم في مسلسل “أبو كامل” قبل أقل من عام.
تسابقت شركات سورية مثل السيار والفيصل والشراع وشام الدولية وسعد والفيحاء لإنتاج أعمال اجتماعية وبوليسية وتاريخية. بذلك تسارعت العجلة وبات كل عام من عقد التسعينات يأتي بعدة أعمال تأخذ جماهيرية واسعة، في البلاد التي أصبح امتلاك التلفزيون فيها أمراً متاحاً نسبياً، بعد أن كان جهازاً مقتصراً امتلاكه على طبقات معينة تسكن المدن الكبرى.
في عام 1992 قدّم المخرج بسام الملا مسلسل “أيام شامية”، الذي سيكون منطلقاً ليختص المخرج في هذا الشكل من الأعمال، وينتج بعده مجموعة من الأعمال التي تسير أحداثها في بيئة مدينة دمشق القديمة، وصولاً إلى إنتاجه مسلسل “باب الحارة” المستمر بطرح أجزاء جديدة حتى يومنا هذا، وليصبح أشهر الأعمال الدرامية السورية على الإطلاق.
في عام 1994 قدّم المخرج نجدة اسماعيل أنزور، مسلسل الفانتازيا التاريخية “الجوارح” من إنتاج مركز دبي للأعمال الفنية، ليدخل المسلسل كل بيت في سورية، بل ويتجاوز حدود البلاد، وليقال إن دمشق كانت تشهد ما يشبه حالة حظر التجول خلال عرضه، لشدة تعلّق الجمهور به، وهو أيضاً عمل فتح الباب واسعاً أمام أعمال الفانتازيا التي اختص أنزور بجزء كبير منها، إضافة إلى توجه مخرجين آخرين نحو إنتاج هذا النوع من الأعمال.
“الجوارح” فتح الباب واسعاً أمام أعمال الفانتازيا التي اختص أنزور بجزء كبير منها، وقدم منها عدة أعمال لاحقة من “الفوارس” إلى “الكواسر”، ثم الموت القادم إلى الشرق 1997، والذي نال جماهيرية عريضة جداً، لما حمله من رسائل سياسية كانت في ذلك الوقت تعتبر رمزية وجذّابة. لكن أنزور ذاته توجه أيضاً إلى الأعمال التاريخية، فقدم مجموعة من المسلسلات التي نالت شهرة كبيرة أيضاً في التسعينات، كان أهمها “أخوة التراب” بجزأيه 1996 و 1998، وسبقه “نهاية رجل شجاع” 1994 عن رواية تحمل الاسم ذاته للروائي السوري حنا مينا (1924-2018)، ونال العمل حينها جماهيرية عربية كبيرة.
دراما التاريخ المعاصر أيضاً بدأت بشكل واضح ورصين في عقد التسعينات، مع مسلسل “حمام القيشاني” 1994، والذي أخرجه هاني الروماني وقدم منه فيما بعد 4 أجزاء أخرى، وحاول من خلاله سرد تاريخ سوريا خلال فترة الاحتلال الفرنسي، وما لحقها من تشكل القوى السياسية الحزبية والصراع على السلطة في سوريا.
كان المسلسل فاتحة لأعمال تاريخية معاصرة تم تقديمها لاحقاً، وكان واحداً من أهمها أيضاً في فترة التسعينات مسلسل “خان الحرير” بجزأيه 1996و 1997، وهو عمل ناقش الحركة الاقتصادية والسياسية في مدينة حلب قبل وأثناء وبعد الوحدة مع مصر، بطريقة قاربت الواقع بالنسبة لكثير من المحللين والنقاد، مع العلم أن أغلب الأعمال التاريخية المعاصرة كانت تتهم بتبنيها رؤية السلطة السورية المتمثلة بحزب البعث للتاريخ، وطريقته في سرد حوادثه وتقديم شخصياته، واستنباط العبر منه.
الكوميديا أيضاً قطعت أشواطاً خلال عقد التسعينات، وكان رائدها المخرج هشام شربتجي، الذي استمر بسلسلة “مرايا” 1991 ليكملها بعده مخرجون آخرون، وليقدّم هو أعمالاً أخرى تعتبر من أفضل ما قٌدّم في الدراما الكوميدية، منها “عيلة خمس نجوم” 1993 وتبعه بثلاثة أجزاء أخرى، و”يوميات مدير عام” 1995، و”يوميات جميل وهناء” 1997 و”بطل من هذا الزمان” 1999.
على صعيد الدراما الاجتماعية أيضاً، كانت الانطلاقة الحقيقية باتجاه الأعمال التي تقدّم وقائع الحياة اليومية في سوريا، من خلال مسلسل “الفصول الأربعة” الذي أنتج الجزء الأول منه عام 1999 من إخراج حاتم علي (1962-2020)، الذي سيصبح بعد هذا العمل أشهر المخرجين السوريين في مجال الأعمال الاجتماعية والتاريخية. ما حققه الفصول الأربعة كان المقاربة الواقعية لحياة الطبقة الوسطى في دمشق، وهي الطبقة التي استمرت بطلةً لأعماله الاجتماعية لاحقاً.
الثورة الإنتاجية
يمكن اعتبار السنوات العشر الأولى بعد عام 2000 هي أهم المراحل التي مرّت بها الدراما السورية، والتي انطلقت بها عبر السوق العربية لتنافس بقوّة أينما حضرت. لم تخل فضائية عربية من المحيط إلى الخليج، من عمل تلفزيوني سوري واحد على الأقل في السنة، بل بعضها اتجهت بشكل واضح للإنتاج في سورية، والشراكة مع شركاتها وخاصة تلفزيونات الخليج العربي المعروفة بإمكانياتها المادية القادرة على الضخ في مجال الإنتاج.
التطورات التي شهدتها الدراما السورية خلال هذه السنوات مسّت كل مكوناتها، من بناء الشخصيات، إلى النصوص الأكثر احترافية، إلى إيلاء الموسيقى دوراً أهم، لتصبح الشارات أعمالاً فنية منفصلة في بعض الأحيان. بسبب كثافة الإنتاج أتيحت الفرص لمخرجين وكوادر فنية جديدة ليكونوا جزءاً من هذه الصناعة، ويسهموا في نهضتها، وكذلك بدات شركات إنتاج جديدة بالعمل، بعد أن اصبح القطاع الخاص هو صاحب الكلمة الفصل في الدراما السورية.
عند ذكر أنواع الدراما في سورية، يمكن إيجاد خيرة النماذج منها بين عامي 2000 و 2010، من الدراما التاريخية التي كان عرابها الأشهر المخرج الراحل حاتم علي، والذي قدّم عن نص للكاتب الراحل ممدوح عدوان (1941-2004) مسلسل “الزير سالم” 2000، والذي ما تزال الفضائيات العربية حتى يومنا هذا تعيد بثه، إذ ترك أثراً كبيراً، ونال جماهيرية لم يسبق وأن نالها مسلسل سوري قبله. هذا المسلسل شجع مخرجه للخوض بأعمال تاريخية أخرى نالت شهرة كبيرة أيضاً، حيث قدم تاريخ العرب في الأندلس، بالتعاون مع الكاتب وليد سيف، من خلال 3 مسلسلات، وهي “صقر قريش” 2002، ثم “ربيع قرطبة” 2003، ثم ملوك الطوائف 2005.
واتجه حاتم علي نحو تأريخ القضية الفلسطينية تلفزيونياً من خلال علمه الشهير “التغريبة الفلسطينية” 2004. كما اتجه علي لتقديم أعمال تاريخية تتناول سير الشخصيات، فقدم سيرة صلاح الدين الأيوبي بمسلسل حمل اسمه عام 2001، و”الملك فاروق” 2007 الذي كان ثمرة شراكة سورية مصرية.
يمكن القول إن حاتم علي كان العلامة الفارقة في الدراما التلفزيونية السورية خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ليس من خلال الأعمال التاريخية فحسب، بل أيضاً في الأعمال الاجتماعية، التي قدّم منها مجموعة مسلسلات كان أشهرها “أحلام كبيرة” 2004، و”عصي الدمع” 2005، و”على طول الأيام” 2006. اعتبرت تلك الأعمال تطوراً نوعياً في الدراما الاجتماعية عمّا أنتج قبل عام 2000، حيث بدا واضحاً الاقتراب من الواقع، وملامسة الحياة اليومية، ومراقبة علائم تفكك الطبقة الوسطى في سوريا.
هذه المزايا تمتّعت بها عدة أعمال تلفزيونية أخرى اشتهرت خلال هذا العقد، منها “الانتظار” 2006 للمخرج الليث حجو، وهو واحد من مجموعة من المخرجين الشباب الذين بدأت شهرتهم في تلك المرحلة، عملوا مساعدي مخرجين مع حاتم علي وهيثم حقي سابقاً، ثم قدّموا أعمالاً كانت في غاية الأهمية.
الدراما الكوميدية خلال هذا العقد شهدت تطوراً نوعياً، فما أسس له ياسر العظمة من خلال “مرايا” في العقدين السابقين، تم تطويره مع استمرار النسخ الجديدة من مرايا، وبروز أعمال جديدة مثل “بقعة ضوء” الذي أخرج أول جزأين منه الليث حجو، ليكون حالة متطورة سورياً في الكوميديا. هذا النموذج قارب بين النكتة والحياة اليومية للسوريين، ليستمر العمل بإنتاج مواسم جديدة من المسلسل حتى يومنا هذا، مع انحدار واضح في السوية.
استمر الليث حجو بالكوميديا من خلال أعمال أخرى، فكان رائعته التي خلدت في الذاكرة السورية، وهي “ضيعة ضايعة” المسلسل الذي أنتج منه جزءان في 2006 و2008، والذي اعتبره الكثيرون من النقاد حالة جديدة في الكوميديا السورية، وأنه جعل من شخصيتي “أسعد خرشوف وجودة أبو خميس” بطلي العمل (باسم ياخور ونضال سيجري)، بمثابة ثنائي يقارب “غوار الطوشة وحسني البورظان” (دريد لحام ونهاد قلعي) الثنائي الكوميدي الأشهر في تاريخ الفن السوري.
في دراما البيئة الشامية أنتجت عشرات الأعمال، كان أكثرها شهرة “باب الحارة” الذي انطلقت أولى مواسمه 2006 ثم استمر حتى يومنا هذا، حيث يتم العمل على إنتاج الجزء الـ 12 منه، وهو عمل نال شهرة عربية كبيرة خاصة في مواسمه الأول.
تطور الإنتاج الدرامي السوري كمّاً ونوعاً، وبات ينتج ما يقارب 40 مسلسلاً في كل عام من الأعوام الأخيرة من العقد الأول من الألفية الجديدة، لكن كل ذلك كان سيصطدم بلا شك بما سيحدث في سورية بعد 2011.
الانحدار
مع بداية الحراك الشعبي عام 2011، وتأزم الوضع في سوريا سريعاً، ثم اندلاع الحرب على امتداد الخارطة، كان لابد أن تكون الدراما السورية واحداً من القطاعات التي ستشهد انحداراً شديداً، متأثرةً بكل شيء، من المقاطعة الاقتصادية والعقوبات، إلى هجرة الخبرات، وبالتأكيد ازدياد إحكام قبضة النظام السوري على المنتج بشكل عام.
نادرة هي الأعمال الدرامية السورية التي اشتهرت بعد عام 2011، حتى أن مسلسلات قدمها خيرة المخرجين السوريين بعد هذا العام لم تنل شهرة ولا جماهيرية. من هيثم حقي إلى حاتم علي والليث حجو وغيرهم من كبار المخرجين السوريين، يمكن القول إن ما قدموه بعد 2011 كان أضعف منجزاتهم، وأقلها جماهيرية.
توجهت الطواقم السورية للبحث عن منتجين في الخارج، بعضها استقر ولم يعد إلى سوريا تحت ضغط الأزمات الاقتصادية، أو بسبب الموقف السياسي. فيما بات الإنتاج داخل سوريا فقيراً تجارياً غير ذي أثر، وبعد أن كان القطاع الخاص صاحب الكلمة الفصل، عاد القطاع العام ليحاول بث الروح في الإنتاج التلفزيوني دون جدوى، لتكون اليوم أقوى الأعمال السورية هي الأعمال التي تنتج عن شراكات مع مصر أو لبنان، أو تلك التي تتبناها تلفزيونات خليجية، لكن حتى هذه الأعمال جاءت مفتقدة للهوية الفنية السورية التي كان قد كرسها العقد الأول من الألفية.
في الكوميديا استمر “بقعة ضوء” بتقديم المواسم، وقدّم ياسر العظمة موسمين من “مرايا” 2011 و 2013، وكان كل ما قدم من المسلسلين ضعيفاً وغير ذي أثر. وكانت المواسم الجديدة من “باب الحارة” بمثابة شاهد على تحوّل الإنتاج الدرامي إلى سلعة تجارية يتراشقها المنتجون فيما بينهم، وتموت شخصياتها بشطبة قلم عندما لا يتم الاتفاق بين المنتج والأبطال السابقين، وتخلق شخصيات جديدة بسبب إقبال ممثلين جدد عليه.
طغت الدراما التلفزيونية السورية خلال أكثر من ثلاثة عقود على الوجه الثقافي والفني لسوريا، وعلى الرغم من الشهرة والجماهيرية التي حققتها، إلا أنها كانت على حساب الفنون الأخرى، كالسينما والمسرح، الذين بقيا رهينة مزاج وتمويل القطاع العام. لا بد أن الدراما قد نالت رضا المنظومة السياسية السورية حتى تستطيع الحضور في كل بيت، حيث كرّست الفنون الجاهزة في المنزل، وألغت فنون الحضور الجماعي والحالة الأوبرالية للسينما والمسرح ودور الثقافة.
كما أنها وبكل الواقعية التي خاضتها في أماكن كثيرة، وبكل الجرأة التي اتسمت بها بعض المسلسلات خاصة الكوميدية منها، كانت تقف عند حاجز معين لا يمكنها تجاوزه، هو حاجز السلطة العليا التي كان بإمكانها منع كل شيء بقرار واحد، وكم من أعمال درامية منِع تصويرها، وأخرى منع عرضها تبعاً لقرارات سياسية، هي صاحبة القول الفصل بما سيراه الجمهور على شاشة التلفزيون في سوريا، أولاً وأخيراً.