أثار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الكثير من علامات الاستفهام في أوائل نوفمبر 2019 عندما اقترح طرح شركات الجيش في البورصة المصرية. تمثل الفكرة أحدث خطوةٍ في بناء اقتصادٍ عسكري يعود إلى حقبة حكم ناصر، الذي توسع تدريجياً بمرور الوقت وخطى خطواتٍ كبيرة منذ تولى السيسي منصبه في عام 2014.
فقد شرعت مصر في برنامج إصلاحٍ اقتصادي واسع النطاق كشرطٍ للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي في عام 2016، إذ تمثل الهدف في تحسين الوضع المالي والنمو الاقتصادي في مصر، وذلك بشكل رئيسي عن طريق خفض الدعم عن الوقود والكهرباء والمياه، وتخفيض قيمة الجنيه المصري، والإصلاح الهيكلي للاقتصاد من خلال تطبيق مرونة القوانين والحد من عبء الروتين لدعم القطاع الخاص، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة الصادرات وتقليل الاعتماد على الواردات.
حقق الجزء الأول من الإصلاحات نجاحاً، إذ نما الاقتصاد المصري بنسبة 5,5% في عام 2018، مما زاد احتياطياتها من العملات الأجنبية بشكلٍ كبير وانخفض العجز في الميزانية. بيد أن هذه المكاسب كان لها كُلفتها، إذ ارتفعت معدلات الفقر وأصبحت القوة الشرائية الإجمالية في مصر متأثرة بتخفيض قيمة العملة والتضخم. كان الوعد أن هذا سيتحسن على المدى المتوسط إلى المدى الطويل حيث أن تحسينات الاقتصاد الكلي سيشعر بها المواطنين العاديين، والتي سيسهلها تطوير القطاع الخاص والاستثمارات.
ومع ذلك، لم يتحقق الجزء الثاني من الإصلاحات حتى الآن، إذ إن نشاط القطاع الخاص، بحسب مؤشر مديري المشتريات، يتقلص في الغالب، ولا يزال الاستثمار الأجنبي المباشر غير النفطي يشهد انخفاضاً مستمراً، بل آخذٌ في التقلص.
وفي هذا السياق، هناك العديد من الجناة المحتملين، داخل وخارج مصر، إذ يلقي البعض باللوم على تباطؤ الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي، والبعض الآخر يوجه أصابع الاتهام للروتين والتحديات التنظيمية التي لا تزال تواجهها الشركات في مصر. ومع ذلك، تشير أصابع الإتهام أكثر فأكثر إلى الدور المتزايد للجيش المصري في الاقتصاد.
فقد كتب الباحث تيموثي كالداس، في افتتاحية بلومبرغ، إن “النشاط الاقتصادي للقوات المسلحة” من خلال شبكة موسعة من المؤسسات العسكرية، يعدّ عنصراً أساسياً في الأداء الهيكلي طويل الأجل لمصر وفشلها في الاستفادة على نحوٍ صحيح من الإصلاحات الصعبة والهامة التي قامت بها في السنوات القليلة الماضية.
علاوةً على ذلك، سبق وقال الخبير الاقتصادي كريم عبد الباري لنا في فَنَك إن أنشطة الجيش تُعيق “بالتأكيد” تنمية القطاع الخاص. حتى إن نجيب ساويرس، أحد أكثر رجال الأعمال ثراءً في مصر وأكثرهم نفوذاً، والذي أيّد السيسي بقوة عندما وصل إلى السلطة، قال في مقابلةٍ تلفزيونية إن الدور الاقتصادي للجيش يردع المستثمرين.
ومن الجدير بالذكر أن الجيش يشارك في مجموعة واسعة من القطاعات. بدأ ذلك في عهد الرئيس جمال عبد الناصر (1956-70)، عندما بدأ الجيش في إنتاج لوازمه الخاصة التي تتراوح من الشاحنات إلى المواد الغذائية. ومع سياسات التحرير لخلف ناصر، أنور السادات، وقعت شركات الجيش عقوداً مع القطاع الخاص. وبعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، أدى عدم وجود تهديدٍ عسكري وشيك إلى عدم الحاجة أيضاً لجيش كبير. ومع ذلك، أصبح الجيش بالفعل أكثر قوةً، إذ بات من الصعب تحجيم دوره والنأي به عن السياسة. ولإرضاء قيادة الجيش، منح السادات وحسني مبارك لاحقاً الشركات العسكرية حريةً أكبر لتنمية مصالحها التجارية، مما مكنها من أن تظل عاملاً مهماً في هيكل السلطة في مصر، وفقاً لما قاله باحث مصري طلب عدم ذكر اسمه لفَنَك.
ومع ذلك، تراجع دور الجيش السياسي في عهد مبارك لصالح الشرطة ورجال الأعمال المقربين من مبارك وابنيه. وبالتالي، عندما اندلعت الاحتجاجات ضد مبارك في يناير 2011، لم يتدخل الجيش وسمح بالإطاحة به.
وعندما استولى الجنرال السيسي على السلطة من جماعة الإخوان المسلمين، التي حكمت لفترة قصيرة من 2012-2013، عاد الجيش إلى قمة السلسلة الغذائية. وبحسب ما قاله الباحث “ما نراه مؤخراً هو نمو تكتل الجيش.” بل إن الجيش يفعل ذلك بطريقة أكثر انفتاحاً من ذي قبل.
علاوةً على ذلك، تفتخر وزارة الإنتاج الحربي باستراتيجيتها لتوسيع مصانعها، وإدخال خطوط إنتاج جديدة مثل الألواح الشمسية، وتوقيع اتفاقيات تعاون مع شركات أجنبية وبدء تصدير منتجاتها. وفي الآونة الأخيرة، انضمت الوزارة إلى وفدٍ رفيع المستوى في زيارته إلى ألمانيا ووقعت مذكرة تفاهم مع الشركة الألمانية دي إم جي موري لإنشاء مصانع “ذكية” للمنتجات الطبية في مصر. وفي الفترة 2018-2019، تجاوزت إيرادات الوزارة 804 مليون دولار، وفقاً لوزير الإنتاج الحربي محمد العصار، وهو ما يقرب من خمسة أضعاف ما كان عليه في 2013-2014.
وقال الباحث إن الجيش يريد أن يعرف الناس أنه يقوم ببناء الطرق والجسور. كما تلعب الهيئة الهندسية للقوات المسلحة – التي كان يرأسها في السابق وزير النقل اليوم- دوراً رائداً في مشاريع السيسي الوطنية مثل توسعة قناة السويس وبناء العاصمة الإدارية الجديدة في الصحراء شرق القاهرة. يغذي هذا روايةً قومية مفادها أن الجيش القوي دعامةٌ لمصر قوية ومزدهرة، سواء كان ذلك من خلال محاربة أعدائها، أو بناء بنية تحتية جديدة أو توفير سلع غذائية رخيصة للسوق، وفقاً للباحث.
كما توسع الجيش نحو نطاقٍ جديد، إذ دخلت الاستخبارات العسكرية المشهد الإعلامي في مصر عندما اشترت قناة دي إم سي التلفزيونية الرئيسية، التي تستضيف العديد من البرامج الحوارية المؤيدة للحكومة والمسلسلات الرمضانية الشهيرة. ومن خلال القيام بذلك، يسيطر الجيش على جزءٍ كبير من المعلومات التي تصل إلى غرف المعيشة المصرية، إلى جانب المخابرات العامة، التي تملك مجموعة إعلامية رئيسية أخرى.
ومن خلال المزايا الضريبية، وقلة القيود التنظيمية، والأراضي المجانية والوصول إلى العمالة الرخيصة من خلال المجندين – الذين يتم إرسالهم في كثير من الأحيان للعمل في المصانع التي يديرها الجيش وغيرها من محطات الوقود والمزارع – تتمتع شركات الجيش بميزة تنافسية قوية على الشركات الخاصة. وفي هذا الصدد، قال الباحث: “يديرون بشكلٍ أساسي اقتصاداً مبنياً على العبيد، حيث يُدفع للمجندين 200-250 جنيه مصري [حوالي 12-15دورلاً] شهرياً.”
وفيما يتعلق بمشاريع البنية التحتية والبناء، فقد مُنح الجيش العديد من العقود المباشرة، وعادةً ما يستأجر مقاولين ثانويين لعملية البناء الفعلية بينما يحتفظ بحصة له. من جهته، وصف السيسي هذا بتعبيرٍ مُلطف بقوله إن الجيش “يشرف” على المشاريع ويتعاون بدلاً من التنافس مع القطاع الخاص. كما تُعفى الفنادق التي يديرها الجيش ومراكز المؤتمرات وقاعات حفلات الزفاف من ضريبة القيمة المضافة البالغة 14%، والتي تم تنفيذها في عام 2016 كجزء من برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي فوضه صندوق النقد الدولي.
إن الحصة الفعلية للجيش من الاقتصاد المدني غير معروفة، ويرجع ذلك في الغالب إلى أن أجزاء من ميزانية الجيش تبقى بعيدةً عن ميزانية الدولة الرسمية، كما لا يتمتع البرلمان بأي رقابةٍ أو حتى فرصة التطرق لميزانية الجيش. وقال الباحث: “كل شخص يخبرك بمدى ضخامة مصالح الجيد كاذب،” حتى وإن كانت شركات الجيش منتجة وتعمل بكفاءة، فإنها لا تزال توجه الأموال من الاقتصاد النظامي إلى ميزانية الجيش. وأضاف “من يعرف أين ينتهي هذا المال؟ ماذا وإن ذهبت لمشتريات المعدات الثقيلة للجيش من الخارج والبالغة مليار دولار؟”.
فمنذ عام 2014، تضاعفت واردات مصر من الأسلحة ثلاثة أضعاف، مما يجعلها ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم. وشملت عمليات الشراء الرئيسية طائراتٍ مقاتلة من فرنسا وروسيا وغواصات من ألمانيا.
على صعيدٍ آخر، يعدّ افتتاح مصنعٍ كبير للأسمنت في وقت مبكر من عام 2019 من الأمثلة على كيفية قيام الجيش بتعطيل السوق الخاص، إذ كان سوق الأسمنت يواجه بالفعل زيادةً في المعروض، وبعد أن بدأ المصنع الذي يديره الجيش بالعمل، أُجبرت عدة مصانع أخرى إما على إغلاق أبوابها أو خفض إنتاجهم وتسريح الموظفين.
وأيضاً هذا العام، أنشأ الجيش شركةً للتنقيب عن النفط والغاز. فقد صرح مصدر في القطاع لـفَنَك أن هذه الشركة حصلت على العديد من الامتيازات التي استبعدت من المناقصات العادية لشركات النفط العالمية.
بل إن مشاركة الجيش آخذةٌ في التغلغل أكثر من العام الماضي، حيث إن المتحدث الرسمي السابق باسم الجيش يدير اليوم تطبيق دوبسي، المنافس المحتمل لتطبيق النقل الذكي الشهير على مستوى العالم، أوبر. فقد عجت القاهرة باللوحات الإعلانية واللافتات التي تروج لـدوبسي، على الرغم من أن التطبيق لم يعمل بعد. كما أعلن الجيش أيضاً عن إطلاق خدمةٍ مشابه لنتفلكس، على الرغم من أن هذه الخدمة لم تعمل بعد أيضاً.
ومع اكتساب الأعمال التجارية للجيش وضوحاً أكبر، أصبح الجيش عرضةً للنقد على نحوٍ متزايد، مما يشكل خطراً على السرد المتعارف عليه بكون الجيش حامي الدولة. بل إن الاحتجاجات التي اندلعت في 20 سبتمبر والتي أشعلتها مقاطع الفيديو التي نشرها المقاول والممثل محمد علي، والتي اتهم فيها الجيش بالفساد وإهدار الأموال العامة، أكدت هذا الخطر. ويبدو أن بعض المطلعين يدركون هذا. من جهته، نفى الجيش امتلاكه لتطبيق دوبسي، كما نفى امتلاك سلسلة من الصيدليات، متهماً قنوات التواصل الاجتماعي “المعادية” بنشر “الشائعات.”
وفي الوقت نفسه، أعرب المقرضون الدوليون، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، عن مخاوفهم بشأن ما يبدو أنه توّسع بالأعمال التجارية للجيش. وقال صندوق النقد الدولي على موقعه على الإنترنت: ” يتعين التوسع في الإصلاحات الهيكلية وتعميقها بغية… تعزيز المنافسة وتحسين المساءلة والشفافية في المؤسسات المملوكة للدولة وتقليص دور الدولة ومعالجة الفساد.” وفي تقريره الصادر في أبريل 2019، أشار البنك الدولي، إلى إن “هناك مخاوف من أن هذا الدور المتنامي للدولة قد يكون مزاحماُ للقطاع الخاص الذي لا يتمتع بعلاقاتٍ سياسية.”
يؤمن الباحث بقوة أن دور الجيش المتنامي غير مستدام، إذ قال “هذا يضر بالاقتصاد.” وأخيراً، بعد سنواتٍ من الأزمة الاقتصادية والمصاعب، هذا آخر ما تحتاجه مصر حالياً.