نشر الصحفي البارز جيمس دورسي على مدونته مقالة كتبها مع أليساندرو أردوينو حول العوامل المتعددة التي تأخذها الصين بعين الاعتبار أثناء وضعها لاستراتيجياتها المخصصة لمنطقة الشرق الأوسط بصفةٍ عامة ومنطقة الخليج بصفةٍ خاصة. ويعرّج دورسي وأردوينو في مقالتها على ما يدور في الأروقة الأكاديمية الصينية من أفكار ونقاشات حول مدى أهمية بناء بكين لسياساتها تجاه الشرق الأوسط اعتماداً على ما تحظى به من علاقات مع الدول غير العربية في المنطقة كتركيا وإيران وإسرائيل.
وتعتبر النقاشات العامة حول سياسة الصين في الشرق الأوسط بمثابة مناقشات صينية داخلية بقدر ما تعد فيه مؤشرات على الاتجاه الذي يسير فيه تفكير بكين. كما أنه يؤشر على الجهود المبذولة لدفع دول كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لاستيعاب التغييرات السياسية المحتملة.
وإذا ما اعتمدنا بشكلٍ أكبر على ما يخرج عن الباحثين لا المسؤولين، فان الصين تشير لدول الخليج إلى التعديلات التي يتعين عليهم إجراؤها حتى يكون في مقدور الصين أن تصبح أكثر انخراطًا في الأمن الإقليمي والجغرافيا السياسية.
وبحسب الأفكار الواردة في كتابات الباحثين وتصريحاتهم، فإن فشل الجهود الرامية لتخفيف التوتر القائم في المنطقة وبشكلٍ خاص مع إيران، قد يقنع الصين بحدّ مشاركتها الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. كما أن هذه المقاربة قد تدفع بكين للتركيز على علاقاتها مع دولٍ غير عربية، علماً بأن دولتين من هذه الدول تعتبر من الخصوم الأساسية للسعودية والإمارات.
وفي المحصلة النهائية، فإن تلميحات الصين حول ما تريد من دول الخليج القيام به يتماشى مع الاقتراح الروسي الذي يدعو إلى اتفاقية عدم اعتداء مع إيران وربما تركيا. وترمي هذه الاتفاقية إلى خفض مخاطر خروج النزاعات عن السيطرة بشكلٍ كبير، وهو ما سيسمح للصين بتوسيع مشاركتها الى ما هو أبعد من نطاق الاقتصاد.
وفي هذا السياق، فقد اقترح فان هونغدا وهو باحثٌ صيني مختص في شؤون الشرق الأوسط، أن تولي الصين المزيد من الاهتمام للقوى غير العربية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط كتركيا وإسرائيل، وإيران على وجه الخصوص، ناصحاً في الوقت نفسه بكين بألّا تبالغ في تقدير أهمية الدول العربية.
وقال فان في مقالة رأي نشرتها صحيفة “ليانهي زواباو” التي تصدر باللغة الصينية في سنغافورة: “نظراً لرغبة إيران المعلنة في تعزيز العلاقات الثنائية (مع بكين)، فإن الصين بحاجة لإبداء استجابة أكثر فاعلية في هذا الصدد”.
ولإثارة هذه النقطة، فقد جادل فان في مقالتين أخريين نشرهما في صحيفة “هامشاهري“، وهي صحيفةٌ إيرانية شهيرة صادرة عن بلدية طهران، بأن الصين مطالبة بإقامة علاقات أوثق مع إيران بصرف النظر عن السياسة الأمريكية أو المعارضة العربية المحتملة لهذا التوجّه. وقال فان في إشارة إلى الصين: “هذه المخاوف المفرطة في الحذر لا تعود بأي فائدة على ثاني أقوى دولة في العالم”.
ويرى دورسي وأردوينو أنّ فان لم يكتب مقالته وهو يرغب بإضاعة وقته في التفكير بقادة دول الخليج. فالمقال الذي كتبه فان جاء على خلفية نشر نسخة أولية في إيران لاتفاق تعاون اقتصادي وعسكري بين بكين وطهران بقيمة 25 مليار دولار. وأثارت النسخة الأولية من الاتفاقية تكهناتٍ شديدة حول سياسة الصين في الشرق الأوسط ومدى واقعية الاتفاقية.
وفي إطار الجهود الرامية للاستفادة من هذه التكهنات، فقد زادت إيران بشكلٍ كبير من عدد الشركات المشاركة في جناحها بمعرض الصين الدولي (CIIE) الذي جرت فعالياته الشهر الجاري بمدينة شنغهاي.
وبحسب صاحبي المقالة، فإن توقيت نشر مقال فان جاء أيضاً بالتزامن مع استعدادات الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن لتولي منصبه في يناير المقبل. وتجدر الإشارة هنا إلى إعلان بادين نيته للنأي بالنفس عن سياسة العقوبات الفظّة التي فرضها سلفه دونالد ترامب تحت اسم “الضغط الأقصى“، بالتزامن مع إعلانه الرغبة بإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الدولي الذي تم توقيعه عام 2015 لتقييد برنامج إيران النووي. وكان ترامب قد انسحب من هذا الاتفاق في عام 2018.
وبحسب دورسي وأردوينو، فإنّ وجود حلول بديلة أمام الصين في منطقة الشرق الأوسط يضع ضغوطًا على بعض الدول كالسعودية والإمارات، سيّما وأن هاتين الدولتين تبذلان الجهود للسيطرة على إدارة بايدن التي من المحتمل أن تركز بشكل أكبر على حقوق الإنسان، ناهيك عن إمكانية اتباع هذه الإدارة لمقاربة أكثر انتقاداً للمشاركة الخليجية في حروب اليمن وليبيا.
وبصورةٍ مماثلة، فإن هذا التصوّر يضعنا أمام توقّع بذل إدارة بايدن لجهودٍ ترمي لإعادة تنظيم، إن لم يكن تخفيض، التزام الولايات المتحدة الأمني تجاه الشرق الأوسط. كما أن الأمور قد تصل إلى التفكير في إقامة هيكلية إقليمية أكثر تعددية.
ويأتي اقتراح فان في أعقاب مقال كتبه الباحثان الصينيان البارزان سون ديغانغ وو سايك واعتبرا فيه أن الشرق الأوسط كان “منطقة رئيسية في دبلوماسية قوّةٍ عظمى تتمتع بخصائص صينية في عصر جديد”.
وبحسب سون ووو، فإن الخصائص الصينية ستشمل “البحث عن أرضية مشتركة مع الاحتفاظ بالاختلافات”، وهي صيغةٌ تميل نحو إدارة الصراع بدلاً من حل النزاع.
وقال الباحثان إن الحضور الصيني في أمن الشرق الأوسط سيسعى لبناء آلية أمن جماعي إقليمية شاملة ومشتركة تقوم على الإنصاف والعدالة والتعددية والحوكمة الشاملة واحتواء الاختلافات.
وقبل ذلك، تبنّى نيو تشينتشون، مدير دراسات الشرق الأوسط في معاهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة (CICIR)، لهجة مختلفة لإيصال الرسالة نفسها داخل بلده. وقال نيو: “إن اهتمام الصين بالشرق الأوسط يتضاءل. وعلى هذا النحو، فإنه يتعين على دول الخليج العمل لخلق مستوى أكبر من الاستقرار للتجنب خسارة الصين”. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن المعهد السابق الذكر يُنظر إليه على نطاقٍ واسع كأحد أكثر مراكز الأبحاث تأثيرًا في الصين.
وفي نفس السياق، يضيف نيو التالي: “إذا ما نظرنا من وجهة النظر الصينية، فإن منطقة الشرق الأوسط كانت على الدوام بعيدة عن الخطط الاستراتيجية العالمية للصين. بيد أن هذه المنطقة ستتغيّر بشكلٍ دراماتيكي بسبب وباء كوفيد-19 وأزمة أسعار النفط. كما أن هذا الأمر سيغيّر من أسلوب الاستثمار الصيني في الشرق الأوسط”.
وعلى الرغم من وجود بعض الاستثناءات، فقد أطبق الصمت بشكلٍ كبير على دول الخليج ووسائل الإعلام هناك إزاء ما تبديه بعض الأصوات الصينية من أفكار في بكين حيال ضرورة إعادة التفكير في علاقات الصين بالدول العربية الرئيسية.
وتؤمن دول الخليج دون أدنى شك أن اعتماد الصين على طاقة الشرق الأوسط وعلى دور هذه الدول الحيوي في مبادرة “الحزام والطريق” تجعلها جميعًا لا غنى عنها.
ومبادرة “الحزام والطريق” مبادرةٌ مميزة وضعها الرئيس الصيني شي جين بينغ على مستوى السياسية الخارجية وتمتد لتغطي قطاعات الطاقة والبنية التحتية والاتصالات السلكية واللاسلكية في أوروبا وآسيا.
وفي الوقت الذي قد لا تكون فيه دول الخليج على خطأ، إلا أن هذه الدول تظل بحسب رأي صاحبي المقالة عرضة للخطر في بيئةٍ تجبرها التحولات الراهنة داخل أروقة السياسة الأمريكية على أخذ الحيطة من رهاناتها وأن تكون أكثر انتباهاً لمواقف الصين في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد.
وفي هذا الصدد، يقول مردخاي شازيزا، الخبير المتخص في العلاقات القائمة بين الصين والشرق الأوسط: “لقد أصبحت بكين بالفعل أكثر قلقاً بشأن استقرار أنظمة الشرق الأوسط. ويمكن القول إن مصالح بكين الإقليمية المتنامية وطموحاتها في مبادرة الحزام والطريق تؤكد أن استقرار الشرق الأوسط، لا سيما في منطقة الخليج، أصبح الآن مصدر قلق استراتيجي للصين”.