بقلم مات ناشد
سيرث الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن المسؤولية عن تأمين المصالح الأمريكية في شرق أوسطٍ بُليّ بالانقسامات والاضطرابات. وعليه، ستكون مهمة إصلاح الضرر الذي ألحقته أعوامٌ من إدارة أوباما وترمب – إدارتان أساءتا إلى سمعة واشنطن في العالم العربي – شاقةً للغاية.
ففي ظل إدارة أوباما، حيث شغل بايدن منصب نائب الرئيس، فشل العالم العربي في إيقاف سفك الدماء في سوريا ومعاقبة مصر على الإنزلاق مجدداً إلى الحكم الاستبدادي. بينما انسحب ترمب، من جهته، من الإتفاق النووي مع إيران وشجع الصدع في العلاقات بين دول الخليج محرّضاً كلاً من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ضد قطر.
تتمثل مهمة بايدن بإعادة الثقة بالقيادة الأمريكية، بيد أن سيرته الذاتية تُثير القلق في أوساط التقدميين في العالم العربي. بالمحصلة، سبق وأيّد بايدن غزو العراق عام 2003 مما أدى إلى تقسيم البلاد فعلياً، وغذى أسس الإرهاب، وسهّل الهيمنة الإيرانية على البلاد. واليوم، يبدو أن بايدن تبنى شعار التقدميين الأمريكيين بتعهده إنهاء “الحروب إلى الأبد.”
بيد أن النزاعات في الشرق الأوسط ستستمر بغض النظر عما إذا لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في التوسط في النزاعات أم لا. ومع ذلك، أهداف بايدن واضحة: سيسعى إلى استعادة الدبلوماسية مع إيران، وتهدئة التوترات بين حلفاء أمريكا المتنافسين، وإعادة تركيا إلى دائرة نفوذ الناتو.
ستكون الوساطة في نسخةٍ جديدة من الإتفاق النووي الإيراني على رأس قائمة أولويات بايدن. فقد أدت استراتيجية ترمب بممارسة أكبر قدر من الضغط على إيران بزيادة عدم الثقة الإيرانية بواشنطن، فضلاً عن معاقبة المدنيين الإيرانيين الذي يكافحون حالياً في خضم جائحة فيروس كورونا.
وعليه، لن تكون استعادة ثقة طهران أمراً سهلاً، إلا أن بايدن يمكنه البدء ببعض إيماءات حسن النية بإزالة العراقيل التي تمنع إيران من شراء الإمدادات الطبية لمكافحة جائحة فيروس كورونا. علاوةً على ذلك، قد يقنع تخفيف العقوبات على بعض كبار المسؤولين الإيرانيين طهران بالعودة إلى طاولة المفاوضات بحسن نية.
ومن الجدير بالذكر أن لا السعودية ولا الإمارات سترحبان بمثل هذه الخطوات، إذ يخشى البلدان من إبرام إتفاقٍ نووي جديد يُسفر عن تخفيف العقوبات المفروضة على إيران. لا يعد خوفهم هذا غير مبررٍ بالكامل ذلك أن طهران قد تستخدم مواردها المالية لمضاعفة دعمها لوكلائها من الميليشيات مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن. فعلى سبيل المثال، جاء إتفاق أوباما النووي مع إيران على حساب المدنيين السوريين. ومع ذلك، لم تتسبب سياسة ترمب بممارسة “أقصى قدر من الضغط” سوى بإثارة عداوة وبغضاء إيران مما دفع طهران إلى استخدام وكلائها لتعطيل المصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم العربي.
وعلى صعيدٍ آخر، تعهد بايدن بمحاسبة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على الاغتيال الوحشي لصحفي صحيفة واشنطن بوست جمال خاشقجي. ومع ذلك، ليس من المؤكد ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة الظفر بأي شكلٍ من أشكال تنازلات حقوق الإنسان من محمد بن سلمان، فالمملكة العربية السعودية ما تزال تعتمد على حماية الولايات المتحدة كدولةٍ عميلة، إذ تعلم جيداً عدم امتلاكها القوة العسكرية اللازمة لتأمين حدودها من عدوها إيران. بالرغم من ذلك، لا ينبغي للمراقبين توقع أن يطرأ تغيير جذري على العلاقة السعودية / الأمريكية، باستثناء ما يتعلق بالحرب على اليمن، إذ تعهد بايدن بإنهاء دعم الحملة الجوية العنيفة التي تشنها المملكة العربية السعودية والتي تسببت في كارثةٍ إنسانية في اليمن.
تُثير هذه الوعود، المتمحورة حول حقوق الإنسان، مخاوف الإمارات العربية المتحدة. فزعيم الإمارات العربية المتحدة الفعلي، ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، تنتابه الريبة تجاه أي خطابٍ يدعم التعددية وحرية التعبير على وجه الخصوص ذلك أنه يعتبره أرضاً خصبة لازدهار الاسلام السياسي. التهديد المتصور والخوف الهستيري من الإسلام السياسي هو منبت النموذج الاستبدادي الذي تبنته الإمارات في الداخل ودعمته في الخارج.
ولتجنب الإصلاحات السياسية، ستواصل الإمارات العربية المتحدة تعزيز صورتها كدولةٍ متسامحة وتقدمية في منطقة ينتشر فيها التطرف الديني. ففي الآونة الأخيرة، رفعت الإمارات الحظر المفروض على احتساء الكحول، وأنهت العقوبات المتساهلة بخصوص التحرش الجنسي وجرائم “الشرف.” وبالرغم من أن جماعات حقوق الإنسان ستشيد بالإصلاحات الأخيرة، إلا أن هذا لا ينبغي أن يأتي على حساب التغاضي عن القمع السياسي في الإمارات أو طموحاتها الإمبريالية.
ففي نهاية المطاف، تتجاوز الإمارات العربية المتحدة قدراتها بالاستثمار بسخاء بأنظمتها الدفاعية، إذ كان هذا الدافع المحرك وراء إبرام محمد بن زايد “اتفاق سلام” مع إسرائيل، ظناً منه أن بمقدوره شراء طائرات إف- 35، الطائرات المقاتلة الأكثر تطوراً في العالم، من إدارة ترمب. وعليه، وقعت إسرائيل على مضض على صفقة المقايضة، إلا أن مستشاراً لبايدن أشار ضمنياً إلى أن الإدارة القادمة قد توقف الصفقة.
وفي هذا الصدد، قال توني بلينكن، الذي عمل تحت إدارة عام 2008 كنائب مستشار الأمن القومي، للصحفيين الإسرائيليين: “حرصت إدارة أوباما وبايدن على أن تكون طائرتنا المقاتلة الأكثر تقدماً متاحة لإسرائيل، ولإسرائيل فقط في الشرق الأوسط.”
“وأضاف، “التقارير التي تفيد بأن إدارة (ترمب) التزمت بتقديم هذه الطائرات إلى دولة الإمارات العربية المتحدة هو أمر ننظر إليه بعنايةٍ فائقة، لنتأكد من الحفاظ على (التفوق العسكري النوعي) ومن المهم جداً أن يلعب الكونغرس دوراً في هذا.”
لن تكون الإمارات العربية المتحدة سعيدةً إذا ما ألغت الولايات المتحدة بيع طائرات إف-35، مما سيضمن تقويض اتفاق السلام مع إسرائيل. ومع ذلك، يأمل الفلسطينيون بأن تتمكن إدارة بايدن على الأقل من دفع إسرائيل نحو إمكانية حل الدولتين، فضلاً عن استرجاع المساعدات المالية لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). وبالتأكيد سيكون تحقيق الأمل الأخير أسهل بكثيرٍ من سابقه. وبكلا الحالتين، لا تتملك الأوهام من الشباب الفلسطيني بإنهاء إسرائيل احتلالها العسكري العنيف خلال فترة جلوس بايدن في منصبه.
وعلى صعيدٍ آخر، سيكون كبح جماح التوسع الإمبراطوري للرئيس التركي رجب طيب أردوغان آخر الأولويات على أجندة بايدن. وعلى عكس الإمارات العربية المتحدة، فإن سلوك تركيا ذو طابعٍ عملي وليس عقائدي. تريد أنقرة بشكل خاصٍ توسيع المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط المزدحم، مما سيزيد من احتمالات العثور على الغاز الطبيعي والتنقيب عنه. وبعد انتخاب إرسين تتار، القومي التركي المدعوم من أنقرة، رئيساً لشمال قبرص في أكتوبر 2020، يخشى المراقبون من إمكانية تقسيم قبرص.
تقوّض طموحات تركيا في شرق المتوسط مصالح حلفاء حلف شمال الأطلسي مثل اليونان وفرنسا. وفي عهد بايدن، ستنظر واشنطن بعين من الريبة تجاه الخصومة الإقليمية بين أنقرة وموسكو، فضلاً عن تعاونهما. فعلى سبيل المثال، يواصل انخراط كلٍ منهما في ليبيا تعقيد آفاق السلام في الدولة الغنية بالنفط في شمال أفريقيا. كما تعرض أردوغان لانتقاداتٍ شديدة في واشنطن لشرائه منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورة إس-400 – التي تشكل تهديداً لطائرات الناتو المقاتلة من طراز إف-35.
من جهته، لم يُنمّق بايدن كلماته تجاه أردوغان، ففي عام 2019، وصفه بـ”المستبد” ووعد باتخاذ موقفٍ حازم ضده في حال توليه الرئاسة. ومع ذلك، لن تقدم واشنطن على خطوةٍ تتسم بالخطورة لإبعاد تركيا عن فلك حلف الناتو، إذ يعتقد المحللون أن هذا لن يُسفر سوى عن إضعاف حلف الناتو وتعزيز التقارب بين أنقرة وموسكو.
وبالتالي، يتوجب على أردوغان توقع إدانة قاسية وإجراءاتٍ عقابية محدودة من واشنطن في غضون السنوات الأربع القادمة. عوضاً عن ذلك، سيحاول بايدن استنفاذ جميع القنوات الدبلوماسية لإرضاء تركيا ودعم الناتو من خلال القيادة الأمريكية.
نهاية القول، سيكون هذا مسعىً صعباً إلا أنه غايةٌ في الأهمية.