المظاهرات التي بدأت في رام الله بحوالي 1500 متظاهر بتاريخ 10 يونيو 2018 واستمرت عدة أيام، تقلصت فيما بعد الى بضع مئاتٍ فقط، بعد اصدار مستشار الرئيس لشؤون المحافظات، قراراً يقضي بمنع تنظيم فعاليات أو مسيراتٍ شعبية خلال فترة الأعياد، مما أعطى ذريعة للشرطة الفلسطينية بقمع المظاهرة بالقوة بتاريخ 13 يونيو.
فقد تم التخطيط والإعداد للمظاهرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيت تكونت حملة تسمى “حراك ارفعوا العقوبات،” المكونة من بعض شخصيات وقوى اليسار، ومؤسسات المجتمع المدني، وأكاديميين وصحفيين.
هذه المعارضة التي تحاول ان تستعيد دورها لتصبح “بيضة القبان” بين قطبي السياسية الفلسطينية، حركة فتح وحركة حماس، لا زالت تحشد قواها ومستمرة في الحراك السلمي للضغط على الحكومة. وعلى الرغم من أن عدد المشاركين في المظاهرة كان متواضعاً، حيث تم تقديرهم ببضع مئاتٍ من المحتجين فحسب، الا انهم استطاعوا إيجاد حراكٍ قوي داخل المجتمع الفلسطيني ككل، حيث رددوا شعاراتٍ ورفعوا لافتاتٍ تطالب الرئيس الفلسطيني محمود عباس برفع العقوبات المفروضة على قطاع غزة منذ مارس لعام 2017 ولغاية يومنا هذا.
وبالفعل، بدأت هذه العقوبات بتخفيض رواتب موظفي الحكومة التابعين للسلطة الفلسطينية الى 30%، فيما ارتفعت نسبة الخصومات من الراتب الأساسي لتصل إلى 50%، ناهيك عن خصم جميع العلاوات الوظيفية. وبالإضافة الى التخفيض الكبير في الإنفاق الحكومي على المصاريف الجارية للوزرات المختلفة، تم أيضاً اجبار الالاف من الموظفين العسكريين والمدنيين على التقاعد المبكر. وعلاوة على ذلك، قررت إسرائيل خفض متوسط إستهلاك الكهرباء في غزة إلى أقل من أربع ساعاتٍ يومياً، وذلك لعدة أشهر.
أدى كل ذلك إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، وارتفعت نسبة الفقر لدرجة لم يعهدها القطاع من قبل. فقد تم قمع المظاهرات بالقوة من قبل الشرطة الفلسطينية، حيث استخدمت الشرطة الهراوات والغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين، وتم تسجيل عدد كبير من الإصابات، بينهم صحفيين ونشطاء من المجتمع المدني، وتم اعتقال ما يقارب من 60 متظاهراً، منهم عددٌ كبيرٌ من الصحفيين، وبعض الأجانب، بسبب توثيقهم للاحتجاجات، حيث تم مصادرة أجهزة التصوير، وتم الإفراج ليلاً عن الصحفيين الأجانب. وعليه، نددت نقابة الصحفيين الفلسطينيين بالأسلوب الهمجي في التعامل مع المتظاهرين، وطالبت جميع الصحفيين بعدم تغطية الاخبار الحكومية لمدة ثلاثة أيام.
الأهداف السياسية الكامنة وراء العقوبات الجماعية على قطاع غزة
منذ سيطرة حماس على السلطة في قطاع غزة عام 2007، نشأ انقسامٌ سياسي ومجتمعي متزايد بين الضفة الغربية التي تسيطر عليها حركة فتح، وبين قطاع غزة الذي تحكمه حماس. فقد تم التوصل إلى العديد من اتفاقات المصالحة بين الجانبين، لكنها لم تدم طويلاً.
كان آخرها الاتفاق الموقع في القاهرة في شهر أكتوبر لعام 2017 بعد ان حلت حركة حماس اللجنة الإدارية (الحكومة في غزة)، الذي تم الإتفاق بموجبه على أن تكون حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الحمد الله مسؤولةً عن الشؤون الحكومية وجميع الموظفين في الضفة الغربية وقطاع غزة. إلا أن الانقسام السياسي لم يتم حله بعد وربما تعمق أكثر.
فمن ناحيتها واصلت السلطة الفلسطينية تشديد وفرض عقوباتٍ جديدة على قطاع غزة على الرغم من الاتفاق الاخير، بهدف خلق ازمة إنسانية في قطاع غزة، مما يجبر الشعب على التظاهر ضد حركة حماس واسقاطها.
ومن ناحيةٍ أخرى أدركت حماس بان مصطلح “التمكين” الذي تنادي به حكومة الحمد لله، يهدف الى تركيع حركة حماس. فقد رفضت قيادة حماس التخلي عن سلاح المقاومة ذلك أن لديها تجارب سابقة سيئة مع السلطة الفلسطينية بهذا الصدد. فمنذ عام 1996 وحتى عام 2005، زُج بالكثير من قيادات حماس ومؤيديها في سجون السلطة الفلسطينية لعدة أشهر، وأحياناً لسنوات.
وبالتالي، لتجنب خوض تجربةٍ مماثلة، أبقت حماس على المفاصل الحيوية في قطاع غزة بين يديها، بما في ذلك قطاع الأمن والجباية المالية. استثنى هذا القرار معابر رام الله الرئيسية، أي معبر إيرز- بيت حانون مع الجانب الإسرائيلي، ومعبر رفح مع الجانب المصري، اللذان تم تسليمهما الى السلطة الفلسطينية تحت قيادة وزارة الداخلية في رام الله. بيد أن حماس أقامت نقاط تفتيشٍ خارج معبري إيرز ورفح، وبالتالي تتحكم حماس ظاهرياً بالمعابر عن بعد، وعليه تستطيع التحكم بحركة المسافرين الذي يدخلون ويغادرون القطاع.
فالحصار الإسرائيلي على القطاع منذ أكثر من 11 عاماً، بالإضافة الى الحروب الإسرائيلية الثلاثة المدمرة في السنوات الأخيرة، وإغلاق معبر رفح لسنواتٍ عديدة، وأخيراً جملة العقوبات التي فرضها الرئيس الفلسطيني محمود عباس على القطاع، أدى كل ذلك الى انهيارٍ تام في الاقتصاد الفلسطيني بقطاع غزة. فقد أصبح ما يقارب من 70% من سكان قطاع غزة يعتاشون على المساعدات المقدمة من قبل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي أصبحت تعاني عجزاً مالياً كبيراً بعد ان جمدت الولايات المتحدة الكثير من ميزانيتها في يناير 2018.
ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، ارتفعت معدلات الفقر في قطاع غزة من 28,8% في عام 2011 إلى 53% بحلول نهاية عام 2017. وعليه فأن أكثر من نصف الفلسطينيين في قطاع غزة يعيشون بدون اكتفاءٍ غذائي ومائي. بل إن إنعدام اﻷﻣﻦ الغذائي واﻧﻌﺪام اﻟﺮﻋﺎﻳﺔ اﻟﺼﺤﻴﺔ، والنقص الحاد في الكهرباء، جعل الحياة لا تطاق في قطاع غزة.
فقد عبّر المحتجون في رام الله، على الرغم من عددهم المحدود، عن تضامنهم مع قطاع غزة المحاصر وعن استيائهم حيال السياسة المتبعة من قبل القيادة الفلسطينية تجاه شعبهم الفلسطيني. ففي حين التزمت السلطة الفلسطينية الصمت تجاه احداث المظاهرات في رام الله، سارعت كل من حركتي فتح وحماس الى تحميل الطرف الاخر المسؤولية عن حالة الغليان التي أصبحت تسود الشارع الفلسطيني.
فقد عبرت حركة فتح في بيانٍ رسمي من جانبها بأن المظاهرات في رام الله هدفها اشعال الفتنة، وبأنها ستضرب بيدٍ من حديد حال المساس بالقيادة الشرعية. وأضاف البيان أنه كان من الأولى بهؤلاء المتظاهرين، الذين وصفتهم “بالمرتزقة،” أن يرفعوا شعاراتٍ لإجبار حماس على التخلي عن الحكم وتمكين حكومة الحمد لله في قطاع غزة، من اجل انهاء الانقسام.
حركة حماس وعلى لسان الناطق باسمها حازم قاسم ادانت بشدة الهجوم على المتظاهرين، واعتبرت ان السلطة تمارس سياسية القمع، وكبت الحريات وأن السلطة تعمل على اسكات الأصوات الرافضة للعقوبات الإجرامية، على حد قوله.
كما أدانت العديد من الفصائل السياسية اليسارية والمستقلة بشده قمع المظاهرة بالقوة. فقد نددت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بالقمع الوحشي الذي مارسته الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضد المتظاهرين المطالبين برفع الإجراءات العقابية عن قطاع غزة، ودعت الجبهة إلى تشكيل لجنة تحقيق وطنية في أسرع وقتٍ ممكن.
كما أدانت الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الانسان القمع الوحشي للمظاهرات وطالبت بمحاسبة المسؤولين، وحماية حق الناس في التظاهر والتعبير عن الرأي. أما عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، السيدة حنان عشراوي، فقد استهجنت قرار مستشار الرئيس غير الدستوري بمنع الفعاليات خلال فترة الأعياد، وادانت بشدة استخدام القوة من قبل الشرطة ضد المتظاهرين.
الحراك الذي بدأ في رام الله، انتقل سريعاً الى الخارج، حيث جرت العديد من المظاهرات في الأردن ولبنان وبعض الدول الأوروبية بتاريخ 23 يونيو، تطالب الرئيس عباس برفع العقوبات الجماعية المفروضة على قطاع غزة. وبالإضافة الى رام الله، جرت عدة مظاهراتٍ في عواصم عربية وغربية. فقد تم تنظيم مظاهراتٍ أمام السفارات الفلسطينية في كلٍ من العاصمة اللبنانية بيروت، وعمّان في الأردن، ونيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي أوروبا في يونيو 2018، أقيمت احتجاجاتٌ أمام مبنى البرلمان الأوروبي في بروكسل- بلجيكا، وفي مونبلييه- فرنسا، وفي ميلان- إيطاليا، وفي أثينا- اليونان وأمستردام في هولندا.
ومن الجدير بالذكر، بأن قمع المظاهرات في رام الله يعتبر سياسيةً ممنهجة، فقد صدر تقريرٌ لجمعية هنري جاكسون لعام 2016 عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، يفيد بأن رد الفعل العنيف للسلطة الفلسطينية ليس الأول من نوعه، ولكنه جزء من سلسلة من الإجراءات القمعية ضد المعارضة ومنتقدي حركة فتح والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وبتاريخ 18 يونيو حاولت حركة فتح تنظيم مظاهرةٍ في مدينة غزة، التي كانت تهدف ظاهرياً إلى المطالبة برفع العقوبات عن غزة، ولكن فعلياً بدأت المظاهرة بتأييد الرئيس عباس في خطواته العقابية. وعليه تدخلت مجموعة من الشباب بزي مدني وفرقوا المظاهرة عنوة ولكن دون استخدام العنف، ومع ذلك، تم مسح محتوى التوثيق الإعلامي للحادثة. فقد اتهم العديد من المتظاهرين بأن القوة الشرطية التابعة لحكومة غزة (التابعة لحماس) هي من فضت المظاهرة.
طالما أن نظام الحزب الواحد هو الحاكم الوحيد، سواء حركة فتح في الضفة الغربية، او حركة حماس في قطاع غزة، فان حالة الحريات العامة والحق بالتظاهر لن تكون مكفولة في شطري الوطن. فحركة فتح والسلطة الفلسطينية تمارسان شتى أنواع الاضطهاد ضد المعارضة الحمساوية وقوى اليسار، ومن جهتها، تمارس حكومة حماس أيضاً الاضطهاد ضد المعارضة الفتحاوية في قطاع غزة، مع أن الفارق بسيط: تمتلك قوى اليسار في قطاع غزة هامشاً أكبر من الحرية مقارنةً بما عليه الحال في الضفة الغربية.