هناك عدة أسباب تجعل السّنّة في لبنان يدعمون أردوغان، بما في ذلك العلاقات التاريخية بين البلدين، والمساعدات السخية من تركيا، والرغبة في قيادة قوية.
دانا حوراني
اكتظّت شوارع لبنان بالمجتمعين المحتفلين بنصر رئيس الجمهوريّة التّركيّ رجب طيّب أردوغان في الانتخابات الرّئاسيّة الحديثة. التفّ النّاس بالعلم التّركيّ وعبّروا عن فرحهم بالرّقص وغناء الألحان التّقليديّة والمفرقعات. وعلت صيحات “اللّه أكبر” ومعناها “اللّه عظيم” فيما اجتمع النّاس في المطاعم لاستكمال احتفالاتهم.
إلّا أنّ لبنان واحد من البلدان المتعدّدة الّتي شهدت الاحتفالات نفسها. فبحسب موقع الأخبار التّركيّة الإلكترونيّ، ديلي صباح (Daily Sabah)، لقد امتلأت أحياء بروكسل وألمانيا ومدنهما الرّئيسة بأعداد هائلة من المهاجرين التّركيّين وآلاف من مناصري أردوغان الملوّحين بالأعلام. كما شاركت في الاحتفالات دول متنوّعة من أوروبّا الغربيّة، منها روتردام في هولندا، وزيورخ في سويسرا، وستراسبورغ في فرنسا.
وملأ الغناء والموسيقى أجواء مدينة رومورانتين لانثيناي في فرنسا.
شهدت السّويد، والنّمسا، وإيطاليا، والجبل الأسود (مونتينيغرو)، وصربيا، وكوسوفو، وجمهوريّة شمال قبرص التّركيّة الأحداث نفسها أيضًا.
فقد ضمن أردوغان فترة ولاية جديدة مدّتها خمس سنوات بحصوله على 52.14 في المئة من الأصوات فقط، منتصرًا على منافسه كمال قلجدار أوغلي بفارق ضئيل في 28 أيّار.
وقال: “المنتصر الوحيد اليوم هو تركيا”.
غير أنّ مناصريه اللّبنانيّين السّنّة الّذين دعموه منذ ولايته الأولى اعتبروا أنفسهم منتصرين أيضًا لأسباب يعتقد الخبراء والمراقبون بأنّها مرتبطة بالإحباط من الطّائفيّة، وغياب القوى الحاكمة الكفوءة في لبنان، والحاجة المستمرّة إلى المساعدات الإنسانيّة الّتي تؤمّنها تركيا بدلًا من الدّولة اللّبنانيّة.
الارتباط التّاريخيّ
حصلت غالبيّة الاحتفالات دعمًا للرّئيس التّركيّ في مدينة طرابلس الشّماليّة، وفي منطقة عكّار، وفي أجزاء من العاصمة بيروت، وهي تُعتبَر من أهمّ المناطق ذات الهيمنة السّنّيّة في لبنان. إنّ ذلك غير مفاجئ، إذ لطالما كانت هذه المناطق من المعجبين بتركيّا وسلفها السّلطنة العثمانيّة.
لعبت طرابلس وهي ثاني أكبر مدينة لبنانيّة، دورًا رئيسيًّا في السّلطنة العثمانيّة، إذ عُيّنت العاصمة الإقليميّة والبلدة الرّئيسة لإيالة طرابلس (الشّعبة الإداريّة الأولى). وامتدّت هذه المنطقة الواسعة من جبيل إلى طرسوس وضمّت بلدات مهمّة من سوريا مثل حمص وحماة.
قبل عام 1612، كانت علاقة طرابلس بسوريا وطيدة إذ كانت ترتكز على تجارتها الدّاخليّة وعلى جني الضّرائب من مناطقها الجبليّة. وكان التّجّار الفرنسيّون مسيطرون بشكل خاصّ خلال القرنين 17 و18، ما أدّى إلى احتدام المنافسة بين القوى الأوروبّيّة للسّيطرة على المرفأ. لكن لم تدم هذه المكانة أكثر من عام 1918 عندما احتلّت القوى البريطانيّة طرابلس، وذلك بعد أن صارت سنجقًا (مقاطعة) ضمن ولاية بيروت (شعبة إداريّة من المستوى الأوّل) بحلول القرن التّاسع عشر. تعدّدت المشاريع في طرابلس في ظلّ الحكم العثمانيّ كوسيلة لقمع الثّورات، وتضمّنت ترميم قلعة السّلطان سليمان الأوّل، وإضافة الثّكنات العسكريّة -خان الصّابون- في قلب المدينة.
أمّا في عكّار فتبقى قرية كوشرة تذكيرًا دائمًا لما كان يومًا أثناء حكم السّلطنة العثمانيّة في المحافظة الشّماليّة. يُعتقد أنّ سكّانها يتحدّرون من قبيلة غوزر في قونية، تركيا، الّتي سافرت عبر سوريا ولبنان قبل أن تستقرّ. ويكرَّم هذا النّسب البالغ من العمر 400 سنة، باستخدام اللّغة التّركيّة المختلطة باللّغة العربيّة المحكيّة اللّبنانيّة، وبارتداء الملابس التّركيّة التّقليديّة مثل غطاء الرّأس (الكوفيّة) والسّراويل الفضفاضة (الشّروال). بالإضافة إلى المنازل الحجريّة السّوداء الرّائعة الموجودة في كلّ أنحاء هذه المنطقة الصّغيرة، والّتي تحيي ذكرى العمارة التّقليديّة.
غير أنّ طرابلس اليوم تُعتبَر من أفقر المدن السّاحليّة على البحر الأبيض المتوسّط، وعكّار من أفقر المحافظات في لبنان.
مدّ يد المساعدة
حدّدت زيارة أردوغان إلى بيروت عام 2010 بداية استثمار تركيا برموز العهد العثمانيّ، وأحد الأمثلة على ذلك ترميم محطّة القطار في طرابلس على سكّة حديد الحجاز التّاريخيّة، وافتتاح مراكز ثقافيّة في جميع أنحاء لبنان، حيث يتعلّم الآلاف اللّغة والثّقافة التّركيّة.
إضافة إلى ذلك، سعت تركيا إلى إحياء الهويّة التّركمانيّة لدى آلاف الأشخاص من الأقلّيّات الّذين يعيشون بين شمال لبنان وشرقه. قبل إفصاح تركيا عن اهتمامها بهذا المجتمع منذ أكثر من عقد، كانت الرّوابط بين الأقلّيّات التّركمانيّة وتركيا قد ضعفت بشكل ملحوظ. واليوم يصرّح سكّان القرى اللّبنانيّة المهملة، ذات الأعداد الكبيرة من التّركمانيّين، علنًا بشعورهم بتلقّي الدّعم من الدّولة التّركيّة أكثر من تلقّيه من الحكومة الوطنيّة.
يضمّ لبنان أيضًا عددًا كبيرًا من السّوريّين التّركمانيّين والآلاف من اللّبنانيّين الّذين يدّعون أنّهم من أصول تركيّة أو أنّهم تركمانيّون. زار وزير خارجيّة تركيا، مولود جاويش أوغلو، بيروت بعد فترة قصيرة من انفجار المرفأ عام 2020، مصرّحًا أنّ أردوغان طلب منه منح الجنسيّة لكلّ اللّبنانيّين التّركمانيّين أو الّذين يتمتّعون بأصول تركيّة.
شهدت شوارع طرابلس عام 2021 تزايدًا لانتشار الأعلام التّركيّة وصور أردوغان، وذلك جزئيًّا نتيجة الأزمة الاقتصاديّة المتشبّثة بلبنان منذ عام 2019 مع محدوديّة الإمداد بالكهرباء والماء والنّفط. إلّا أنّ العديد من المواطنين اللّبنانيّين كانوا قد عبّروا عن رغبتهم في الحصول على الجنسيّة التّركيّة قبل الأوضاع الحاليّة. وبحسب تقديرات مصادر غير رسميّة، قُدِّم ما يقارب 18000 طلب منذ عام 2019 مع نجاح 9600 حالة منها بالحصول على القبول.
ليس كلّ من حاول الحصول على الجنسيّة التّركيّة من العرق التّركيّ أو التّركمانيّ.
وفي ظلّ الوجود المسبق لهذا العدد الهائل من داعمي أردوغان والرّعايا التّركيّة في البلد، وصفت منصّات إعلاميّة فرنسيّة وتركيّة متعدّدة لبنان بمنحه أردوغان عدد الأصوات “الأعلى في العالم“.
إضافة إلى ذلك، أمّنت تركيّا مساعدات للتّعليم العالي في لبنان من خلال آلاف المِنَح الجامعيّة.
السّعوديّة مقارنة بتركيا
لطالما كان لدول الخليج تأثير أكبر ولمدّة أطول من تركيا في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبشكل خاصّ المملكة العربيّة السّعوديّة المهيمنة على السّياسة السّنّيّة في لبنان. إضافة إلى ذلك، يتلقّى لبنان الدّعم من خلال المساعدات الإنسانيّة الخاصّة بالإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة العربيّة السّعوديّة منذ سنين طويلة.
إلّا أنّ مع تزايد عدم رضى المملكة العربيّة السّعوديّة عن المشهد السّياسيّ المحلّي، بعبارة أخرى، هيمنة حزب اللّه الّتي تبدو من دون منافس على البلد، بدأت علاقة البلدين تتدهور. وعام 2021، كانت تعليقات وزير الإعلام جورج قرداحي حول اليمن القشّة الّتي قصمت ظهر البعير بالنّسبة إلى المملكة العربيّة السّعوديّة، فسحبت الرّياض سفيرها من لبنان فاتحة المجال أمام أنقرة لملء هذا الفراغ.
كما استقال رئيس الوزراء اللّبنانيّ السّابق والشّخصيّة السّنّيّة الشّهيرة سعد الحريري من منصبه عام 2021، منهيًا مسيرته السّياسيّة أشهرًا بعد ذلك، فتركت استقالته فراغًا قياديًّا في المجتمع السّنّيّ لم يملأه أحد حتّى اليوم.
وباستثمار تركيا المكثّف في المؤسّسات التّجاريّة اللّبنانيّة، نالت حظوة عند السّنّة. بحسب إصدار صحيفة L’Orient Today (الشّرق اليوم) المحلّيّة من الصّعب تحديد أو تقدير مدى هذه المشاريع أو قيمتها، لأنّ أنقرة أبقت عمليّاتها سرّيّة وسط مزاعم حول التّدخّلات في الشّؤون الدّاخليّة.
إنّما عندما اختارت الرّياض إعادة إرسال ديبلوماسيّيها إلى بيروت العام الماضي، بدأ الجليد بين المملكة العربيّة السّعوديّة ولبنان بالذّوبان، وكانت هذه خطوة ضروريّة في عمليّة إصلاح العلاقة المتوتّرة بين البلدين.
نطاق السّلطة
نقلًا عن مصطفى حموي، محلّل اجتماعي ومدوِّن لبنانيّ سنّيّ، إنّ الاحتفالات المكرِّمة لنجاح الرّئيس أردوغان “مخزية ومحرجة”.
قال حموي لفناك: “بعد استقالة سعد الحريري الرّسميّة، لاحظ السّنّة في لبنان غياب قيادة موحِّدة، وشعروا بأنّ دورهم في مشاركة السّلطة الطّائفيّة الإقليميّة والوطنيّة قد تضاءلت.”
وكرّرت هذا الرّأي المراقبة الاجتماعيّة والمدوِّنة الطّرابلسيّة شيرين عبداللّه، مصرّحة بخسارة الطّائفة السّنّيّة سلطتها في البلد.
وقالت لفناك: “آخذين في الاعتبار النّظام الطّائفيّ الّذي يحكم لبنان، يرى السّنّة افتقارهم إلى الرّوابط الّتي كانت متوفّرة خلال ولاية الحريري، وأنّ الطّوائف الأخرى تزداد قوّة فيما هم يضمحلّون.”
يعتقد الخبير السّياسيّ كريم بيطار أنّ هذا الدّعم الشّديد للقادة السّياسيّين الأجانب ثابت خلال التّاريخ اللّبنانيّ وغير محصور بطائفة معيّنة.
وفسّر بيطار: “رداءة القادة اللّبنانيّين مسؤولة جزئيًّا عن ذلك. فالنّاس في ترقّب دائم لشخصيّات سلطويّة قويّة وغالبًا ما يخضعون لتأليهها.”
وفي حالة أردوغان، يقول بيطار إنّ الجاذب هو في فكرة أنّ رئيس الجمهوريّة التّركيّ أعاد إحياء الوجود التّركيّ في المنطقة كلّها. علاوة على ذلك، يعتقد مناصروه أنّه نجح في تحقيق نسبة من النّموّ الاقتصاديّ -حتّى السّنوات الأخيرة- من خلال إرساء درجة من الدّيمقراطيّة المختلطة بعنصر من التّحفّظ الإسلاميّ. كما يُنظَر إليه كشخصيّة مواجهة للتّدخّلات الأجنبيّة في المنطقة.
في ما يتعلّق بنطاق توسّع السّلطة التّركيّة المسالمة في لبنان، يؤمن حموي وبيطار أنّ لبنان ليس ضمن أولويّات تركيا، ويقول بيطار إنّ العنصر الحاسم في هذا الصّدد هو حرب الثّقافات في لبنان.
يقول بيطار: ” لدينا معسكر محافظ يدعم أردوغان ويعجب بالقومية الاستبدادية، ومعسكر ليبرالي أكثر ارتباطًا بالحداثة والديمقراطية (هناك شرائح كبيرة في طرابلس من الليبراليين)، وكان هؤلاء الليبراليون يفضّلون فوز كمال قلجدار أوغلي.”
ملء الفراغ وإحداث المشاكل
بالنّسبة إلى عبدللّه، يُظهِر الرّئيس التّركيّ نفسه “كقائد مهتمّ وعطوف ومتواضع” في مقابل القادة اللّبنانيّين الّذين لا يولون اهتمامًا إلّا لمصالحهم الشّخصيّة.
وتقول: “نحن اللّبنانيّون لا نملك قادة يشعرون بمشاكل الشّعب لذا نلجأ إلى الشّخصيّات الأجنبيّة الّتي تفعل ذلك بالضّبط.”، ذاكرة المساعدات والمساهمات التّركيّة للبنان كأمثلة رئيسة على ذلك.
فسّرت عبداللّه أنّ التّحفّظ الإسلاميّ جهة أخرى تعطي أردوغان الأفضليّة على خصمه الّذي يعتمد مقاربة علمانيّة لا تجذب المحافظين من اللّبنانيّين السّنّة.
إذ نشأ جدال مثلًا، عندما صُوِّر كمال قلجدار أوغلي وهو يقف على سجّادة صلاة مرتديًا حذاءه، وذلك أمر محرّم لدى الإسلام.
أمّا بالنّسبة إلى أليس، فتاة أرمنيّة لبنانيّة بالغة من العمر 27 عامًا، فكانت الاحتفالات بإعادة انتخاب أردوغان تجربة مزعجة.
ويعود ذلك إلى الجرح غير الملتئم الّذي خلّفته الإبادة الجماعيّة الأرمنيّة خلال الحرب العالميّة الأولى (1914-1918). فبعد حملات التّهجير والقتل الجماعيّ الّتي أجرتها دولة تركيا الفتاة ضدّ الرّعايا الأرمنيّة التّابعة للسّلطنة العثمانيّة، لا تزال تركيا متردّدة بالاعتراف بهذه الفظائع كإبادة جماعيّة.
قالت أليس لفناك: “ينبذ بعض المتحمّسين العثمانيّين وجودنا، لمجرّد واقع أنّ الأرمن اللّبنانيّون دليل على فشل سلطنتهم المحبوبة في تحقيق مهمّة محونا، وعلى بقائنا تذكيرًا بصمودنا ومطالبتنا بالتّعويضات والعدالة.”
في هذه الأثناء يبقى مستقبل ولاية أردوغان الثّانية مجهولًا، إذ يتعامل الرّئيس حاليًّا مع تضخّم جامح وانهيار اللّيرة اللّذين تركا ملايين الأتراك في خطر الإفلاس. لكن لا شكّ أنّه سيبقى “الزّعيم السّنّيّ القويّ” المفضّل إلى أن يُعيَّن مرشّح جديد.