إن مستقبل السلطة الفلسطينية أصبح غامضاً بشكل متزايد في ظل التحديّات الكبرى التي تواجهها من القوى الداخلية والخارجية على السواء.
علي نور الدين
منذ بداية الحرب على قطاع غزّة، أصبحت السلطة الفلسطينيّة التي يرأسها محمود عبّاس أمام تحديّات كبرى، تطرحُ أسئلة جديّة حول مستقبلها ودورها الوظيفي.
فإسرائيل ذهبت بعيدًا في اتخاذ خطوات قاسية تُجهض مشروع الدولة الفلسطينيّة، وهو ما أحبط الآمال باستكمال مسار المفاوضات، وإعطاء السلطة الفلسطينيّة دورًا سياسيًا جديًا في المرحلة المقبلة.
وفي غضون ذلك، باتت الأطراف الإقليميّة والدوليّة المؤثّرة في الملف الفلسطيني تطرحُ شكوكًا في فعاليّة أجهزة السلطة، وقدرتها على ممارسة وظائفها المُعلنة.
على المستوى الداخلي والمحلّي الفلسطيني، لم يكن الوضع أفضل حالًا. فالسلطة الفلسطينيّة لم تتمكّن من لعب أي دور مؤثّر، ولو على المستوى السياسي أو الدبلوماسي، للحد من وحشيّة الحرب على قطاع غزّة.
كما فشلت في نسج تفاهمات واسعة مع الفصائل الفلسطينيّة، للوصول إلى أهداف مشتركة بخصوص مستقبل القطاع بعد الحرب. وبشكلٍ عام، بات يُنظر للسلطة كلاعب محدود الدور، تقتصر مهامه على الهامش التي تسمح به إسرائيل، في الإدارة المدنيّة للضفّة الغربيّة.
تحديات إسرائيليّة مُستجدة خلال الحرب
في شهر تمّوز/يوليو 2024، وعلى وقع استمرار الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، قرّر الكنيست الإسرائيلي – وللمرة الأولى في تاريخه- إصدار قرار “يرفض” إقامة دولة فلسطينيّة. وكان من اللافت حصول القرار على تأييد 68 عضوًا، بما يشمل نوّاب المعارضة المنتمين لحزب “المعسكر الرسمي”، إضافة إلى نوّاب معسكر اليمين المؤيّد لنتيناهو وحكومته.
وفي المقابل، اقتصرت الأصوات المُعارضة للقرار على 9 نوّاب منتمين للكتل العربيّة واليساريّة. على هذا النحو، جاء هذا القرار مُعبّرًا عن توجّه إسرائيلي عام وإستراتيجي، وعابر للانقسامات السياسيّة الظرفيّة.
لا يمكن قراءة مدلولات هذا الحدث الاستثنائي والخطير، بعيدًا عن سياقه السياسي، وخصوصًا من جهة التوقيت. فهذا القرار، جاء استباقًا لزيارة رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، والتي بدأت بعد 5 أيّام من تصويت الكنيست.
بهذا المعنى، أراد الكنيست تحصين موقف نتنياهو التفاوضي، في وجه مطالب الإدارة الأميركيّة المتعلّقة بمسار الدولتين. كما أراد إلزام الدولة بأسرها بسقف صارم تحدده السلطة التشريعيّة لإسرائيل، كي لا تتم مطالبة نتنياهو بأي تنازلات لسلطة محمود عبّاس.
تلك الخطوة، جاءت استكمالًا لخطوات أخرى، أرادت من خلالها إسرائيل القضاء على أي أملٍ بتحويل السلطة الفلسطينيّة إلى دولة ذات سيادة، في إطار أي حل سياسي محتمل.
في شهر حزيران/يونيو 2024، قرّر المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي سحب الصلاحيّات التنفيذيّة الممنوحة للسلطة الفلسطينيّة، في مناطق واسعة من الضفّة الغربيّة، شرق بيت لحم وجنوب شرق مدينة القدس. كما قرّر تطبيق القانون الإسرائيلي، على مناطق يُفترض أن تكون خاضعة للسيطرة الإداريّة الفلسطينيّة، في الضفّة الغربيّة.
بموازاة ذلك القرار، وخلال الشهر عينه، أقرّ مجلس التخطيط الأعلى الإسرائيلي خططًا لبناء 5300 وحدة سكنيّة استيطانيّة في الضفّة الغربيّة، في مواقع إستراتيجيّة تسمح بتقطيع أوصال المناطق المأهولة من قبل الفلسطينيين هناك.
كما تزامن ذلك مع صدور قرارات تقضي بالاستحواذ على 12.7 كيلومترًا مربعًا من أراضي منطقة الأغوار شرق الضفّة الغربيّة، واعتبارها “أراضي دولة” لإسرائيل، وهو ما شكّل أكبر عمليّة مصادرة لأملاك خصوصيّة فلسطينيّة منذ نشوء السلطة الفلسطينيّة.
جميع هذه الإجراءات، تزامنت مع استمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على مُدن وقرى الضفّة الغربيّة، منذ بداية الحرب في تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، بما يمنع العمّال الفلسطينيين من الخروج للعمل وممارسة النشاط الاقتصادي. كما ترافقت مع حملات عسكريّة واقتحامات، في مختلف أنحاء الضفّة، مما أدّى إلى مقتل أكثر من 700 فلسطيني لغاية منتصف شهر أيلول/سبتمبر 2024.
باختصارٍ، كانت إسرائيل تحاول –خلال فترة الحرب- خلق واقع أمني وسياسي جديد في الضفة الغربيّة، لضرب حل الدولتين. كما عملت على خلق بيئة ضاغطة عسكريًا على الفلسطينيين، لتنفيذ تغيير ديمغرافي تدريجي يؤدّي إلى هجرتهم.
وكل هذه التطوّرات، كانت تنسف بشكلٍ نهائي الصيغة الرئيسة التي تشكّلت على أساسها السلطة الفلسطينيّة، بوصفها نواة الدولة الفلسطينيّة الموعودة. كما كانت تؤدّي إلى فقدان الفلسطينيين الثقة بالمسار الذي نصّت عليه اتفاقيّات أوسلو، التي نشأت بموجبها هذه السلطة.
الواقع الإقليمي والدولي الضاغط
فضلًا عن المخطّطات الإسرائيليّة، تواجه السلطة الفلسطينيّة واقعًا إقليميًا ودوليًا شديد التعقيد. الولايات المتحدة الأميركيّة، الداعم التقليدي والدائم لمسار الدولتين، باتت ترى –منذ بدء الحرب- في سلطة محمود عبّاس “شريكًا” ضعيفًا يصعب الاعتماد عليه.
وفي شهر آذار/مارس 2024، أعلن وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن بشكلٍ صريح أنّ إدارته لم تعد مقتنعة بمسار الإصلاح الذي تقوم به داخليًا السلطة الفلسطينيّة.
ما تريده الإدارة الأميركيّة على وجه الدقّة، هو تعديل نموذج الحكم المتّبع من قبل السلطة، عبر نقل الصلاحيّات التنفيذيّة الفعليّة لحكومة “أفضل وأكثر تمثيلًا”، على حد قول بلينكن، بدل حصر الصلاحيّات –كما هو الحال الآن- بيد محمود عبّاس وحده. وهذا المسار سيفرض تعيين شخصيّة ذات وزن شعبي في رئاسة الحكومة، وبهامش معتبر من الاستقلاليّة، بدل أن يكون هذا المنصب جزءًا من فريق عمل عبّاس.
ببساطة، تنطلق واشنطن هنا من حسابات براغماتيّة جدًا. إذ أنّ تركّز الصلاحيّات بيد عبّاس والفريق المحيط به، وترهّل جميع الإدارات المدنيّة الأخرى، يحد من فعاليّة أجهزة السلطة إلى حدٍ بعيدٍ، ويفقدها المصداقيّة والمشروعيّة أمام الشارع الفلسطيني. وهيمنة حركة فتح وحدها على الحكومة، يفاقم من هذه الأزمة. ولذلك، انتقلت الإدارة الأميركيّة إلى المطالبة بإعادة هيكلة السلطة نفسها، قبل الدخول في مسارٍ سياسي جديدٍ معها.
وما يخشاه محمود عبّاس اليوم لم يعد يرتبط فقط بهذه المطالب، التي يفترض أن تهمّشه وتحد من صلاحيّاته. حيث يخشى عبّاس اليوم من سيناريو عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما سيعني تبنّي الإدارة الأميركيّة المقبلة لخيارات تُسقط مبدأ “الدولتين على أساس حدود العام 1967”.
فخطّة السلام التي تبنّاها ترامب وأيّدها نتنياهو عام 2020، تقوم على استمرار السيطرة الإسرائيليّة على معظم أنحاء الضفّة الغربيّة، وتشريع المستوطنات القائمة هناك. وهذا ما يجرّد السلطة الفلسطينيّة من حُلم الدولة، ويضرب أسباب وجودها.
في الوقت ذاته، تتوجّس السلطة الفلسطينيّة –وحركة فتح، عامودها الفقري- من تبنّي بعض الدول العربيّة لمشاريع حكم فلسطينيّة بديلة. وهذا ما ينطبق مثلًا على الإمارات العربيّة المتحدة، التي انتقلت خلال العقد الماضي من دعم السلطة الفلسطينيّة إلى دعم القيادي الفلسطيني المنشق عن حركة فتح محمّد دحلان.
وفي الوقت الراهن، تسعى الإمارات لإعطاء دحلان دورًا في إدارة قطاع غزّة بعد الحرب، بالاستفادة من المساعدات الإغاثيّة الإماراتيّة.
أمّا المحور المدعوم من طهران في المنطقة، فعزّز خلال الحرب الراهنة تحالفه مع حركة حماس، بعدما عملت الحركة خلال السنتين السابقتين على تصحيح علاقتها مع هذا المحور تدريجيًا.
وبذلك، تجاوزت حركة حماس الاضطرابات التي طرأت على هذه العلاقة، منذ بداية الثورة السوريّة عام 2011. وهذا ما سيشكّل حتمًا عاملًا ضاغطًا على السلطة الفلسطينيّة، التي ترى في حركة حماس بديلًا عن نموذجها السياسي والتنظيمي في منطقتي قطاع غزّة والضفة الغربيّة.
فقدان الدور المحلّي
لكل ما سبق ذكره من أسباب، لم تتمكّن السلطة الفلسطينيّة من لعب أدوار حقيقيّة تؤثّر على مسار الحرب. وهذا التطوّر، كان استكمالًا للمسار المُستمر منذ تعثّر عمليّة السلام واتفاقيّات أوسلو، والذي حوّل السلطة إلى منظومة إدارة مدنيّة وتنسيق أمني، بدل أن تكون مشروعًا للدولة الفلسطينيّة.
هكذا، باتت شرائح واسعة من الفلسطينيين ترى أن السلطة أصبحت تعمل في المربّع الذي رسمه أو تركه الإحتلال لها، ولو دون قصد، بدل أن تلعب دورها كجزء من حركة التحرّر الوطني الفلسطيني.
استطلاعات الرأي التي قام بها “المركز الفلسطيني للدراسات المسحيّة” تؤشّر إلى أنّ 84% من الفلسطينيين باتوا يفضّلون استقالة رئيس السلطة محمود عبّاس، بينما يرى 65% منهم أنّ السلطة نفسها تحوّلت إلى عبء على الشعب الفلسطيني.
بل وأكثر من ذلك، عكست الأرقام رفض 73% من الفلسطينيين للخطط الأميركيّة أو العربيّة لإصلاح السلطة، بهدف استكمال المفاوضات مع إسرائيل، وهو ما يؤشّر إلى تشاؤم الشارع الفلسطيني بخصوص مستقبل المبادرات الإصلاحيّة المطروحة.
وفي الواقع، يمكن القول أن السلطة لا تملك فعلًا القدرة على استعادة دورها المأمول، حتّى لو امتلكت نيّة “الإصلاح”، كما تقترح بعض الخطط اليوم. فترهّل الإدارة المدنيّة وتراجع فعاليّة الوزارات لم يرتبط فقط بعوامل ذاتيّة، مثل الفساد وضعف معايير الحوكمة، بل نتج أيَضا عن ظروف موضوعيّة مثل وجود الاحتلال الإسرائيلي وتقليص هامش الصلاحيّات السياديّة الممنوحة للفلسطينيين.
وبذلك، لم يعد من الواقعي تصوّر وجود سلطة قادرة على تأسيس دولة حقيقيّة، أمام هذه الظروف، حتّى لو امتلكت النيّة.
لكل هذه الأسباب، بات الرأي الشائع في معظم الأوساط الشعبيّة والسياسيّة الفلسطينيّة، بما فيها القريبة من حركة فتح نفسها، يركّز على استعادة دور منظمة التحرير الفلسطينيّة، كإطار جامع وموحّد للفصائل السياسيّة والشرائح الاجتماعيّة الفلسطينيّة.
وعلى هذا الأساس يمكن أن تلعب المنظّمة دورًا كحركة تحرّر، بعد توسيع نطاق عملها، وانضمام جميع الفصائل الفلسطينيّة إليها، لتحقيق أو فرض مكاسب سياسيّة في المستقبل. وهذا ما يمكن اعتباره خيارًا أكثر فعاليّة، بدل التركيز على دور السلطة الفلسطينيّة المحكومة بأدوار أمنيّة محدودة جدًا، تحت سقف وإرادة الاحتلال الإسرائيلي نفسه.