مع بدء الهجوم التركي على شمال شرق سوريا بعد ظهر يوم الـ9 من أكتوبر 2019، بضرباتٍ جوية داخل مدينة رأس العين وما حولها، ذكّر عدوٌ آخر قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الكردية العربية، بأنه لم يهزم بالكامل: ففي اليوم السابق لشن تركيا هجومها، نفذ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هجوماً في الرقة، عاصمة الخلافة السابقة.
الأمر المعروف لدى أي شخصٍ يألف الأوضاع في المنطقة، خاصة أن أي هجومٍ تركي سيؤدي إلى كارثةٍ بطرقٍ متنوعة، بدأ يتحول إلى واقعٍ مع إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، أن القوات الأمريكية لن تقف بعد الآن في وجه تركيا.
إن الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من الأراضي الواقعة شرق نهر الفرات ليس تغييراً في السياسة. فقد سبق وأعلن ترمب عن هذا الأمر في ديسمبر 2018، مما أثار رد فعلٍ عنيف لدرجة أنه قرر إبقاء بعض القوات متمركزة هناك على أي حال. كان هذا أمراً غاية في الأهمية لمنع أي هجوم تركي، نظراً لأن كل من تركيا والولايات المتحدة عضوان في حلف الناتو، مما يجعل وجود الجنود الأمريكيين درعاً واقياً فعالاً.
لكن ترمب قد ضاق ذرعاً، وبحسب قوله، حان الوقت ليتحمل الآخرون المسؤولية. فالأمر لا يتعلق بإيفاء ترمب بتعهده الانتخابي بسحب القوات الأمريكية من سوريا. فالأمور تجري دون أي استراتيجيةٍ واضحة، ودون أي حمايةٍ للقوات التي يتعاون معها الجيش الأمريكي في الحرب ضد داعش منذ عام 2014 ودون أي اهتمامٍ بحقوق الأكراد (والأقليات الأخرى) في سوريا بعد الحرب. يترك هذا وحدات حماية الشعب الكردي وقوات سوريا الديمقراطية عرضة للهجوم، كما يترك السكان المحليين عُرضة للتطهير العرقي.
ومن الجدير بالذكر أن شمال وشمال شرق سوريا تخضع لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردي منذ عام 2012، عندما انسحب الرئيس السوري بشار الأسد من هذا الجزء من البلاد للتركيز على جبهاتٍ أخرى. ومنذ ذلك الحين، تعمل وحدات حماية الشعب وحليفها السياسي، حزب الاتحاد الديمقراطي، على تنفيذ ما يسمونه “الكونفدرالية الديمقراطية،” وهو نظام لامركزي للحكم يحكم فيه الناس أنفسهم على مستوى الحي والقرية. تتمتع المرأة بتمثيلٍ متساوٍ، ويتم احترام حقوق المجتمعات العرقية والدينية واللغوية احتراماً كاملا. وإلى جانب الأكراد، يسكن المنطقة العرب والأرمن والآشوريون والتركمان وغيرهم.
من جهتها، شعرت تركيا بالقلق من هذا الكيان الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي على حدودها منذ ظهوره، وذلك لأن حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب الشعب الكردستاني يلتزمان بنفس الإيديولوجية ولهما نفس القائد الأيديولوجي (عبد الله أوجلان) الذي ينتمي إليه حزب العمال الكردستاني، الجماعة الكردية المسلحة التي كانت في حالة حرب مع تركيا منذ عام 1984. كما تعتبر تركيا حزب العمال الكردستاني منظمةً إرهابية، وبالتالي فإن وحدات حماية الشعب وحزب الإتحاد الديمقراطي منظمتان إرهابيتان بعيون تركيا. وعلى الرغم من أن وحدات حماية الشعب وحزب الإتحاد الديمقراطي يعملان بشكلٍ صارم داخل سوريا، ولم يحصل أن هاجموا تركيا قط أو هددوها بعملٍ عسكري، إلا أن الحكومة التركية نجحت في إقناع أصدقائها في المجتمع الدولي بأن المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في سوريا تشكل تهديداً لسلامة تركيا.
ولفهم الصورة بأكملها، فقد تم تأسيس قوات سوريا الديمقراطية في أكتوبر من عام 2015، وهي قوة عربية كردية مشتركة تشكل وحدات حماية الشعب جزءاً منها، وتم تشكيلها لطرد داعش من أراضيها في مدن ومناطق ذات غالبية عربية، مثل دير الزور ومنبج والرقة، بالتنسيق مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. وعليه، تُصنف تركيا أيضاً قوات سوريا الديمقراطية منظمةً إرهابية.
هذه ليست المرة الأولى التي تغزو فيها تركيا سوريا، ففي صيف عام 2016، دخلت المنطقة غرب الفرات. كان هذا لمنع قوات سوريا الديمقراطية من ربط العديد من المناطق الخاضعة لسيطرتها، أي عفرين في شمال غرب سوريا و”كانتونات” كوباني والجزيرة (حيث توجد القامشلي أكبر المدن). بينما جاء التوغل الثاني في يناير 2018، عندما تم غزو عفرين نفسها، ومنذ ذلك الحين، تحتل تركيا عفرين.
إن الأوضاع في عفرين تُقدم نظرةً ثاقبة لما ينتظر السوريين الذين يعيشون على طول الحدود التركية. فقد انتهك الجيش التركي ومعاونوه – مجموعة مختلطة من الجهاديين و”المتمردين” الآخرين – حقوق الإنسان على نطاق هائل: تم تهجير السكان الأكراد والإستيلاء على منازلهم ومزارعهم من قبل العرب (الذين تم تهجيرهم في الغالب من أجزاء أخرى في سوريا)، كما كان هناك أعمال نهبٍ وتعذيبٍ وقتلٍ وحالات اختفاء و”تتريك” في المنطقة. وبالنظر إلى خطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة توطين اللاجئين السوريين من تركيا في شمال شرق سوريا، فإن تغيير التركيبة السكانية أمرٌ لا مفر منه أيضاً.
فقد تم التغاضي عن محنة السكان المحليين إلى حدٍ كبير من قبل المحللين الذين يركزون على خرائط المنطقة بألوان وخطوط متنوعة للإشارة إلى من سيحكم مساحات الأراضي بعد أن يعبر الجيش التركي الحدود السورية بطريقةٍ غير قانونية – فالقانون الدولي لا يسمح بالغزو بلدٍ لآخر دون موافقة السلطات ذات السيادة لذلك البلد أو من دون ضوءٍ أخضر من الأمم المتحدة.
وفي ضوء هذه التطورات، أصدرت الإدارة المحلية بالفعل بياناً، دعت فيه الناس إلى التجمع في المناطق الحدودية و”القيام بأعمال المقاومة خلال هذا الوقت التاريخي الحساس.” ومن المحتمل أن يفر بعض السكان عندما يتقدم الغزو، على الأرجح إلى كردستان العراق، مما يساعد دون قصد خطة تركيا لتغيير التركيبة السكانية في المنطقة.
في هذه المرحلة، يبدو أن تركيا تركز على امتداد 100 كيلومتر من الأرض تقريباً بين رأس العين (مباشرة عبر الحدود من جيلان بينار في تركيا) وتل أبيض إلى الغرب (مباشرة عبر الحدود من أقجة قلعة في تركيا). السكان هنا مختلطون عرقياً أكثر من غيرهم في المناطق الأخرى.
بيد أن قلة من الناس يعتقدون أن تركيا ستتوقف عند هذا الحد، ففي اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، قال أردوغان صراحةً، وأظهر، أنه لا ينوي الاستيلاء على شريط من الأرض يمتد لمسافة 500 كيلومتر والذي يمتد لعمق 30 كيلومتراً داخل سوريا فحسب، بل يمكن أن يصل إلى دير الزور والرقة.
وحتى وقت كتابة هذا التقرير، تم الإبلاغ عن أول قتيلين مدنيين. ووصفت تركيا الهجوم باسم عملية “نبع السلام.”