وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إسرائيل تُشعل الشرق الأوسط على ثلاث جبهات

في أقل من أسبوعين، صعّدت إسرائيل عملياتها العسكرية بشكل كبير من خلال ضرب أهداف في اليمن ولبنان وإيران، مما دفع حدود المواجهات الإقليمية إلى أقصى حد.

إسرائيل تُشعل الشرق الأوسط
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. درو أنجرير / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

خلال فترة أقّل من أسبوعين، قامت إسرائيل بثلاث عمليّات تصعيديّة خطيرة، ومن خارج الضوابط الإقليميّة المألوفة منذ اندلاع حربها على قطاع غزّة.

كانت البداية من الغارة التي استهدفت ميناء الحديدة في اليمن، ثمّ تلك التي أفضت إلى اغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبيّة، وصولًا إلى تفجير مكان استضافة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة، في إيران.

مثّلت جميع هذه العمليّات تجاوزًا لسقوف المواجهة المألوفة، وحملت كلٌّ منها رسائل وأهداف عدّة ومختلفة في الوقت عينيه، بحسب طبيعة الهدف وموقعه.

لكن في النهاية، كان ثمّة قاسم مشترك أساسي ما بين هذه الأحداث، من جهة رفع مخاطر تحويل المواجهات القائمة، على الجبهات الثلاث، إلى حرب إقليميّة شاملة ومفتوحة. بهذا المعنى كان رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو يمارس مجددًا سياسة المقامرة والذهاب إلى حافّة الهاوية، لمحاولة الوصول إلى مكتسبات سياسيّة وأمنيّة جديدة.

استهداف الحديدة: الرسائل والأهداف

في الشكل، جاء الهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة في 20 تمّوز/يوليو 2024 ردًا على وصول مسيّرة أطلقها الحوثيون إلى تل أبيب. وكانت تلك المسيّرة جزءًا من “جبهة المساندة” التي تخوضها الجماعات الحليفة لإيران إلى جانب حركة حماس، منذ بدايات الحرب على قطاع غزّة.

غير أنّ إسرائيل اختارت هذه المرّة أنّ يتّسم ردّها برمزيّة استثنائيّة، سواء من ناحية الأبعاد العسكريّة، أو من حيث المشهديّة والتبعات السياسيّة والاقتصاديّة. وبصورة أوضح، أرادت إسرائيل أن تحمل ضربتها رسائل خطيرة ومتعدّدة، تتجاوز بمفاعيلها وأهدافها الجانب المتعلّق بالرد نفسه.

فالضربة الإسرائيليّة أفضت عمليًا إلى تفجير منشآت تخزين البترول في الميناء، التي تُستخدم لتصدير النفط الخام، واستيراد المحروقات المُكرّرة والجاهزة للاستهلاك. وبهذا الشكل مثّلت الضربة استهدافًا لأحد أبرز مصادر تمويل حكومة الحوثي في صنعاء، كما شكّلت تهديدًا لمقوّمات الإدارة المدنيّة في مناطق سيطرة الحوثيين. ومن المعلوم أنّ ميناء الحديدة يمثّل المنفذ البحري الإستراتيجي الوحيد، الذي يربط المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين بالعالم الخارجي.

أسفرت الغارة عن اشتعال خزّانات النفط لأكثر من يومٍ، فيما أفادت وزارة الصحّة في صنعاء بسقوط ستّة قتلى و83 جريحًا، كحصيلة أوليّة للهجوم “غير المسبوق” على حد قول جماعة الحوثي. وبمجرّد حصول الضربة، جرى تداول المشاهد المخيفة، التي أظهرت حجم وقوّة النيران التي اندلعت في الميناء.

هذه المشاهد بحد ذاتها، كانت جزءًا من الرهبة التي أرادت إسرائيل بثّها عبر تلك الخطوة التصعيديّة، كرسالة ونوع من الحرب النفسيّة. وكان ذلك بالضبط ما أشار إليه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، حين صرّح بعد العمليّة مباشرةً قائلًا إن الحريق “يمكن رؤيته في مختلف أنحاء الشرق الأوسط”.

بخلاف حالات سوريا ولبنان، لا يتمتّع الحوثيون في اليمن بترف التمايز الواضح بين الدولة والمؤسّسات الدستوريّة من جهة، والجماعات المسلّحة غير الحكوميّة من جهة أخرى.

في مناطق سيطرة الحوثيين، ثمّة سيطرة واضحة ومباشرة من قبل الجماعة المُسلّحة على أجهزة الحُكم ومؤسّسات “حكومة صنعاء”، وهو ما يفرض نوعًا من التماهي السياسي الشديد ما بين الطرفين. مع الإشارة إلى أنّ “حكومة صنعاء” غير معترف بها دوليًا كسلطة شرعيّة.

على هذا الأساس، يمكن فهم رسالة أخرى من العمليّة الإسرائيليّة، التي تمادت للمرّة الأولى باستهداف البنية التحتيّة الحيويّة اليمنيّة. فمن خلال هذه الضربة، تحاول إسرائيل تثبيت معادلة جديدة، مفادها أنّها ستضع مقوّمات الحياة في مناطق سيطرة الحوثي في دائرة الاستهداف، مقابل العمليّات التي تقوم بها الجماعة. ومن البديهي أن تمثّل هذه المعادلة عاملًا ضاغطًا وبقوّة على اليمنيين، الذين يعانون أساسًا من تبعات التهجير ومخاطر المجاعة.

الرسالة الأخيرة والأهم، ترتبط بوسائل الاستهداف نفسها. فإسرائيل حرصت على تنفيذ الضربة من خلال غارات جويّة، عبر مقاتلات عبرت أكثر من 1,900 كيلومتر ذهابًا وإيابًا، كي تتمكنَ من الوصول إلى أهدافها.

بهذه الصورة، أرادت إسرائيل أن تستعرض قدرتها على تنفيذ هذا النوع من الهجمات، التي يمكن أن تطال مرافق تصدير البترول الإيرانيّة، الأقرب إليها جغرافيًّا من ميناء الحديدة.

تجاوز الخطوط الحمر في الضاحية الجنوبيّة

تصاعدت الأمور على جبهة لبنان مساء 27 تمّوز/يوليو 2024، مع سقوط مقذوف مجهول المصدر على ملعب في قرية مجدل شمس في الجولان السوري المُحتل، وهو ما أدّى إلى مقتل 12 طفلًا عربيًا سوريًا وإصابة 30 آخرين.

وبطبيعة الحال، نفى حزب الله بشكل قاطع مسؤوليّته عن الحادث، فور حصول الحادثة. وبمعزل عن هذا النفي، رجّحت الكثير من التحليلات العسكريّة أن يكون الانفجار قد نتج عن سقوط صواريخ اعتراضيّة أطلقتها منظومة القبّة الحديديّة التابعة للجيش الإسرائيلي، كما يحصل في العادة عندما تُضل هذه الصواريخ أهدافها الجويّة. وهذا ما حصل بالضبط بعد أيّام من ذلك الحادث، في مدينة نهاريا داخل إسرائيل.

باختصار، لم يكن هناك ما يؤشّر إلى امتلاك الحزب المصلحة في استهداف منشآت مدنيّة في قرية عربيّة مُحتلّة، بعيدة نسبيًا عن المواقع العسكريّة التي يقوم باستهدافها في هضبة الجولان.

وفي جميع الحالات، لم يكن الحزب قد دخل –منذ بداية الحرب- في أي عمليّة استهداف لمنشآت حيويّة ومأهولة ذات طابع مدني، كحال ملعب الأطفال، حتّى في المناطق التي يسكنها إسرائيليون.

وأخيرًا، لم يكن الضحايا من الإسرائيليين كما زعم المتحدّث بإسم الجيش الإسرائيلي، بل من مجتمع الدروز الجولانيين المناهضين تقليديًا للاحتلال في منطقتهم، والرافضين للجنسيّة والسيادة الإسرائيليّة نفسها.

ومع ذلك، وجد نتنياهو الفرصة ملائمة لاستخدام الحدث كذريعة للتصعيد، فتصرّف مع العمليّة بوصفها اعتداءً على مواطنين إسرائيليين من جانب حزب الله.

وفي هذه المقاربة، تجاهل نتنياهو حقيقة أنّ أهالي الضحايا الجولانيين أنفسهم قد اعترضوا على حضوره وحضور وزرائه إلى القرية، كي لا يتم التصوير الحادث كمساس “بالسيادة الإسرائيليّة”، كما روّجت الحكومة الإسرائيليّة منذ حصول الحادثة. وهذا ما أشار إلى أنّ نتنياهو كان يبحث فعليًا عن ذريعة، مهما كانت طبيعتها وشكلها، لتنفيذ التصعيد المُخطّط له أصلًا ضد حزب الله.

في هذا السياق، جاءت عمليّة اغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر، بغارة جويّة على الضاحية الجنوبيّة في بيروت، وبوصفها ردًا على حادثة مجدل شمس. لم تكن تلك المرّة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل الضاحية الجنوبيّة للعاصمة بيروت، معقل حزب الله. إذ سبق أنّ نفذّت إسرائيل ضربة مماثلة أفضت إلى اغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري، في كانون الثاني/يناير 2024. لكنّ إسرائيل شدّدت يومها علنًا على أنّها لم تستهدف الحزب أو قياداتها، داخل الضاحية.

إلا أنّ الغارة الجديدة مثّلت خرقًا للخطوط الحمراء من ناحية استهدافها أهم قيادي عسكري في الحزب، في منطقة بعيدة جدًا عن خطوط المواجهة التقليديّة في جنوب لبنان. ونظرًا لطبيعة المكان المكتظّة بالسكّان، أسفرت الغارة عن سقوط سبعة قتلى من المدنيين، وأكثر من 80 جريحًا.

وبهذا الشكل، كانت إسرائيل تحاول نمطًا جديدًا في مواجهتها مع الحزب، بما يفتح المجال مستقبلًا أمام ملاحقة قيادات الحزب العسكريّة في أي منطقة لبنانيّة من دون استثناء، ومنها الضاحية الجنوبيّة.

وعلى هذا الأساس، وتمامًا كما أعلن الأمين العام للحزب حسن نصر الله بعد العمليّة، وجد الحزب نفسه معنيًا بالرد على العمليّة، ومن خارج إطار العمليّات اليوميّة التي تجري يوميًا في جنوب لبنان، منعًا لتثبيت هذا النمط الذي تحاول إسرائيل فرضه.

التصعيد الكبير في طهران

أمّا التصعيد الأكبر فقد حصل في اليوم الذي تلى اغتيال شكر، عبر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة في قلب طهران، في دار الضيافة المخصّص للزوّار السياسيين. لم تُعلن الحكومة الإسرائيليّة علنًا مسؤوليّتها عن تنفيذ الاغتيال، لكنّها لم تقدّم في الوقت عينيه أي نفي قاطع. وبعد أسبوع من العمليّة، كشفت العديد من وسائل الإعلام، ومنها الـ “واشنطن بوست”، أنّ الحكومة الإسرائيليّة أبلغت الإدارة الأميركيّة بمسؤوليّتها عن العمليّة.

وقد حملت العمليّة دلالات ورسائل عدّة في الوقت عينيه. فإسرائيل تعمّدت اغتيال هنيّة على الأراضي الإيرانيّة، وبقذيفة قصيرة أطلقها فريق من مكان محاذٍ لموقع الاستهداف. وهذا ما مثّل إهانة سياسيّة للنظام الإيراني أولًا، ومسًّا مباشرًا بالأمن القومي والسيادة ثانيًا.

بل وثمّة ما يشير إلى أنّ إسرائيل أرادت من العمليّة حشر الرئيس الإصلاحي الجديد مسعود بزشكيان، الذي حمل منذ البداية برنامجًا يدعو إلى تعميق قنوات التفاوض مع الغرب، وإحياء الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة الأميركيّة.

بهذا المعنى، ما تمَّ استهدافه هنا هو المقاربة الإيرانيّة الأكثر انفتاحًا على التسويات، وهو ما ينسجم مع مشروع نتنياهو الذي لطالما عارض الاتفاق النووي قبل إسقاطه من قبل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

إلا أنَّ طبيعة الشّخصيّة الفلسطينيّة المستهدفة، تذهب بالسياق التفجيري عينيه. فالعمليّة أفضت إلى قتل المفاوض الأوّل في الحركة، والذي لطالما مثّل وجهها السياسي، بموازاة الوجوه العسكريّة الموجودة في قطاع غزّة.

وبهذا الشكل، كانت العمليّة ضربة مباشرة لمسار المفاوضات القائمة، حول الهدنة وتبادل الأسرى والرهائن. كما كانت نكسة لكل المحاولات التي قامت بها الحركة سابقًا، لتقديم قيادة منفتحة ذات علاقات دوليّة ودبلوماسيّة في الخارج.

وبعد اغتيال هنيّة، خلفه في منصبه مُخطط عمليّة “طوفان الأقصى” ومسؤول حماس في قطاع غزّة يحيى السنوار، وهو ما رآه البعض اتجاهًا طبيعيًا نحو المزيد من التصلّب من قبل حركة حماس، كنتيجة بديهيّة ومتوقّعة لقتل وجهها السياسي المفاوض. هكذا، كان نتنياهو يدفع جميع الملفّات نحو المزيد من التعقيد، بخطواته التصعيديّة.

أهداف نتنياهو وخيارات الرد

على هذا النحو، يصبح من الواضح أنّ نتنياهو امتلك أهدافًا ورسائل مختلفة، من كلّ عمليّة على حدة. ومع ذلك، يبدو أن ثمّة غاية رئيسة تريدهها إسرائيل، من التصعيد على الجبهات الثلاث بشكلٍ متزامنٍ.

فضرب إيران بهذا الشكل المُحرج، إلى جانب استهداف الضاحية الجنوبيّة في بيروت وميناء الحديدة، يضغط بشكلٍ مباشر باتجاه إقحام الحرس الثوري الإيراني في المواجهة الإقليميّة. وهذا ما يعني تلقائيًا إقحام حلفاء إسرائيل الغربيين، وخصوصًا الولايات المتحدة، في هذا التصعيد الخطير، تمامًا كما حصل عندما ردّت إيران على استهداف قنصليتها في دمشق.

وبالنسبة لنتنياهو، الهدف من توسيع نطاق المواجهة بهذا الشكل هو إنهاء فكرة تحييد طهران ومصالحها المباشرة عن الحرب القائمة، والتخلّص من نمط حصر المواجهة بين إسرائيل والجماعات المسلّحة المدعومة من إيران. وعبر جرّ إيران إلى التصعيد الواسع النطاق، يمكن تحميلها كلفة مباشرة مقابل الدعم الذي تؤمّنه لحلفائها في لبنان وسوريا واليمن والعراق.

عندها، يمكن وضع المصالح الإيرانيّة في مواجهة الغطاء العسكري الأميركي الممنوح لتل أبيب، وهو ما قد يمكّن نتنياهو من تحقيق مكاسب أفضل في سياق أي تسوية مستقبليّة.

مقابل طموحات نتنياهو هذه، تحاول إيران التحضير لردّها دبلوماسيًا وسياسيًا، عبر التواصل والتفاوض مع الدول العربيّة والإسلاميّة المتحالفة مع الولايات المتحدة الأميركيّة في المنطقة.

والهدف الواضح هو تحضير رد مؤلم يحمّل إسرائيل كلفة اغتيال هنيّة في طهران، ويمنعها من تكرار هذه العمليّة، لكن دون الانجرار إلى حرب إقليميّة مع الولايات المتحدة في المنطقة. وهذا ما قد يحول دون تحقيق هدف نتنياهو من إشعال الجبهات الثلاث في الوقت عينيه.

وإلى جانب ذلك، تركت إيران وحلفاؤها في لبنان واليمن العديد من الاحتمالات والخيارات مفتوحة وغامضة.

إذ لم يتضح ما إذا كان “المحور” سيرد من الجبهات الثلاث بشكلٍ متزامن، أو بضربات متفرّقة من كل جبهة على حدة. كما لم يتضح ما إذا كانت الرد سيكون عبارة عن ضربة مركّزة، أو ضربات عدّة تمثّل استنزافًا تدريجيًا في القدرات الدفاعيّة الإسرائيليّة.

وبانتظار انجلاء الصورة، يبقى الاستنفار من جهة إسرائيل سيّد الموقف.