تدفق الآلاف من السودانيين إلى شوارع الخرطوم مساء الرابع من أغسطس 2019 للاحتفال بالاتفاق الذي طال انتظاره بين جنرالات المجلس العسكري الانتقالي الحاكم وقيادة تحالف قوى الحرية والتغيير الذي قاد حركة الاحتجاجات التي استمرت لتسعة أشهر. قدم عمر الدقير القيادي بقوى الحرية والتغيير والمفاوض البارز نيابة عنه الاتفاق للألاف من أنصاره المتحمسين في شارع النيل في خطبة شاعرية عاطفية تخللتها الدموع. الاتفاق النهائي الذي تم التوصل إليه بشأن الإعلان الدستوري يمهد الطريق للتغيير والمضي قدما، بعد أشهر من التوتر والصدامات الدامية منذ سقوط الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل 2019. وتعتمد الوثيقة التي تم الحصول عليها بشق الأنفس على اتفاق سياسي هام تم توقيعه بين الطرفين في 17 يوليو.
يحدد الإعلان الدستوري الذي تم التوصل إليه بوساطة من الاتحاد الأفريقي الصلاحيات السلطات السيادية والتنفيذية والتشريعية والعلاقات المتقاطعة بينها خلال الفترة الانتقالية. وينص الإعلان على ترتيبات تقاسم السلطة لفترة انتقالية تبلغ 39 شهرا تليها انتخابات عامة.
يتكون هيكل السلطة الانتقالية من ثلاثة مستويات تضم مجلس سيادي مكون من 6 مدنيين و5 أعضاء عسكريين. ثم رئيس وزراء تسميه قوى الحرية والتغيير ويعين حكومته بالتشاور معها. ومجلس تشريعي معين من 300 عضوا تسمى قوى الحرية والتغيير ثلثيهم فيما يعين البقية من قبل المجلس العسكري الانتقالي وسيتم تشكيل المجلس التشريعي بعد ثلاثة أشهر من تشكيل الوزارة.
القضايا الخلافية
عالجت الوثيقة بحذر قضية مليشيا قوات الدعم السريع المثيرة للجدل التابعة للجيش السوداني والتي يقودها محمد حمدان دقلو حيمتي نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي الحاكم. وتواجه قوات الدعم السريع اتهامات بارتكاب جرائم وفظائع أثناء فض اعتصام المحتجين أمام القيادة العامة للجيش في الثالث من يونيو 2019 ومن قبله أثناء الحرب الأهلية في دارفور بين عامي 2003 و2009.
كرس الإعلان الدستوري تبعية قوات الدعم السريع للقوات المسلحة وهو الأمر الذي كان يعترض عليه الكثير من المحتجين. ويضع الاتفاق قوات الدعم السريع تحت قيادة القائد الأعلى للجيش السوداني وهو وزير الدفاع الذي يعينه الجيش ولكن تحت إشراف رئيس الوزراء المدني.
وكان المجلس العسكري الانتقالي قد أعاد تسمية جهاز المخابرات والأمن الوطني سيئ السمعة باسم جهاز المخابرات العامة وعدل قانونه ليعمل فقط على جمع وتحليل الاستخبارات والمعلومات وتقديمها للحكومة دون أن تكون له صلاحيات اعتقال المواطنين واستخدام العنف المسلح على أن يكون الجهاز تحت إشراف المجلس السيادي ومجلس الوزراء معا.
وقع الاتفاق بالأحرف الأولى عن المجلس العسكري نائب رئيسه حميتي وعن تجمع المهنيين السودانيين محمد ربيع ممثل المعلمين في التجمع. سيتم التوقيع النهائي بواسطة الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري في 17 أغسطس في حفل يحضره العديد من رؤساء دول الجوار وخاصة إثيوبيا التي لعبت دورا حيويا في الوساطة بين المحتجين والمجلس العسكري.
اعتراضات
كما هو معتاد في السياسية السودانية كان لابد من منغصات لفرحة التوصل لاتفاق، حيث اتخذ الحزب الشيوعي الذي يتمتع بنفوذ وسط المهنيين على الاتفاق إضافة للجبهة الثورية، التي تمثل تحالفا من ثلاثة فصائل من حركات التمرد في إقليمي دارفور وجنوب النيل الأزرق.
ينتقد الشيوعيون دور ومستقبل قوات الدعم السريع وفقا للإعلان الدستوري، إلى جانب الاتفاق على رئاسة العسكريين للمجلس السيادي خلال الواحد وعشرين شهرا الأولي من الفترة الانتقالية. ويطالب الشيوعيون أيضا بتحقيق دولي حول احداث العنف في فض الاعتصام الذي أودى بحياة عشرات المحتجين في يونيو الماضي فما نص الاتفاق السياسي على لجنة وطنية للتحقيق.
أما حركات التمرد المسلحة فترى أن الإعلان الدستوري لم يشدد بما يكفي على تحقيق السلام في المناطق المضطربة خلال الفترة الانتقالية، كما أنها تطالب بتمثيل قيادتها في مؤسسات الحكم أثناء الفترة الانتقالية وفقا لتقارير وسائل الإعلام المحلية وتقول إن نصوص الاتفاق الذي وقع بين الجبهة الثورية مع قوى الحرية والتغيير في 25 يوليو 2019 في أديس أبابا لم يتضمن في الاتفاق الدستوري بشكل واضح.
وهنالك فصيلان متمردان في جبال النوبة ودار فور لم تقبل بالإعلان وهما حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور في دارفور والحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو، كلاهما يسيطر على مناطق صغيرة في منطقته. امتنعت الحركتان عن المشاركة في أي مباحثات ورفض عبد الواحد الاعتراف أو التعامل مع كل مع قوي الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي وتعهد بمواصلة النضال، في حين وعد عبد العزيز الحلو بالتفاوض مع الحكومة المدنية بعد تشكيلها.
بقية الطيف السياسي السوداني العريض، أيد الاتفاق بأغلبية ساحقة واعتبره جيدًا بما فيه الكفاية للمضي قدما نحو الحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطيا في ثلاث سنوات، بما في ذلك حزب الأمة، الحزب الديمقراطي الاتحادي وحزب المؤتمر السوداني الحديث نسبيا والذي يمثل تيار يسار الوسط بالإضافة إلى تجمع المهنيين السودانيين ذو النفوذ الواسع الذي قاد الاحتجاجات.
الدعم الدولي والإقليمي
إقليميًا ودوليًا، استقبلت الاتفاقية بارتياح واسع، في جو كانت تسوده مخاوف من أن ينجر السودان لمسار مشابه لما جرى ليبيا وسوريا واليمن في وقت كانت البلاد تدخل شهرها الثامن من الاضطرابات والعنف المتقطع بدون حكومة حقيقية وخصوصا أن دول المنطقة الغنية بالنفط، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة وقطر قد بدأت تتدخل في الشأن السوداني علنا وسرا بنفس الطريقة التي تدخلت بها في البلدان الثلاثة ودفعت بها في أتون الحرب الأهلية.
دعم الاتحاد الأوروبي بشكل قاطع مبادرة الاتحاد الأفريقي الوساطة الأفريقية في السودان منذ البداية. وأشاد المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي بتوقيع الإعلان الدستوري قائلا “هذا الإنجاز يوفر فرصة فريدة لقيادة مدنية حقيقية للمرحلة الانتقالية وتحقيق تطلعات الشعب السوداني إلى السلام والازدهار. في هذه اللحظة التاريخية، نثني على التصميم والشعور بالمسؤولية الذي ابدأه الطرفان وكذلك جهود الاتحاد الأفريقي الحثيثة للتوصل للاتفاق.” وأكد المتحدث الأوربي التزام الاتحاد الأوروبي بدعم السودان في طريقه نحو السلام والديمقراطية والرخاء وانه سيعمل على مع الحكومة الانتقالية التي يقودها المدني لتحقيق هذه الغاية ”
ورحب الأمين العام للأمم المتحدة ترحيبا حارا بالاتفاق ودعا جميع الأطراف السودانية “لضمان التنفيذ الشامل والشفاف والفوري للاتفاق وحل أي مشاكل عالقة من خلال الحوار”. كما أبدت بقية القوى الإقليمية والدولية ترحيبا مماثلا باتفاق السودانيين على الإعلان الدستوري.
ومع ذلك، فإن السودان ينتظره مسار معقد وطويل وحافل بالعقبات لتحقيق قدر معقول من السلام والاستقرار ومواجهة مشاكله الاقتصادية الهائلة.