حسين علي الزعبي
فرضت تداعيات الربيع العربي تأثيراتها على نمط العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما بين الدول الإقليمية الفاعلة كتركيا والسعودية وإيران. ففي الوقت الذي حملت فيه حالة التنافس بين الرياض وطهران طابع المواجهة الباردة بين طرفٍ سنّي وآخر شيعي على زعامة العالم الإسلامي، فإن المنافسة بين الرياض وأنقرة كانت على زعامة الإسلام السنّي.
حالة التنافس على زعامة العالم الإسلامي تعمّقت عندما استطاعت إيران استثمار تقاطع المصالح بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة الغزو الأمريكي للعراق. أما تركيا فرفضت دخول القوات الأمريكية عبر أراضيها إلى العراق وهو ما أكسبها زخماً في الأوساط الشعبية العربية. في تلك الفترة، شكلت تركيا حالة وجدانية للشعوب العربية عبر مجموعة عوامل منها النهضة التي حققها الحكام الجدد لتركيا عبر حزب العدالة والتنمية، بالإضافة لما هو معلن من موقف بشأن القضية الفلسطينية. ويمكن أن نشير أيضا إلى القوة الناعمة المتمثلة بالدراما التركية التي اجتاحت البيوت العربية بما تحمله من مضامين سياسية.
ما سبق عام 2011 من حضور نفسي للنموذج التركي، وما تبعه من أحداث الربيع العربي شكّل نقطة انطلاق لتركيا العدالة والتنمية، باعتبارها وريثة الإمبراطورية العثمانية التي حكمت المنطقة لـ 400 عام من الزمن. تركيا تخلّت حينذاك عن نظرية “صفر مشكلات” التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داوود أغلو، لتدخل في عمق التصدعات التي فرضتها أحداث الربيع العربي. وتماهت تركيا مع طروحات الإخوان المسلمين الذين شكلوا قوة فاعلة على الأرض. وكان هؤلاء قد تسلّموا الحكم في مصر، وكذا في تونس عبر حركة النهضة. كما كانوا أحد طرفي المواجهة في ليبيا. وفي نفس الاتجاه، لم يغب الإخوان عن المشهد السوري الأكثر تعقيدا من غيره من الملفات والأكثر قربا من الجغرافية التركية.
براغماتياً، شكّلت الأحداث الجديدة في حينه فرصة لإحياء الحلم العثماني ولو بصيغة تتناسب مع مقتضيات العصر، فضلا عمّا كان سيترتب من فوائد استراتيجية لأنقرة لو أن حلفاءها وصلوا سدّة الحكم. وهذا ما جعلها تدخل في مواجهة مع السعودية ومن خلفها دول الخليج الرافضة لفكرة الإسلام السياسي، ما عدا قطر. وجاء ذلك في الوقت الذي تم فيه إسقاط حلفاء أنقرة في مصر وباتت القاهرة قوة ضاربة في المحور السعودي.
وفي ليبيا، دخل الجانبان في مواجهة شبه مباشرة عبر دعم كلّ محور لحلفائه على الأرض، الأمر الذي فجر اقتتالا لم يحسمه أيٌّ من الطرفين. وينطبق الأمر نفسه على تونس وإن اختلفت الأدوات، إذ تم إسقاط حكومة حركة النهضة، الجناح الإخواني في تونس والمقرب من تركيا. وما زالت تلك الدولة في حالة انقسام سياسي، هو بأسوأ حالاته أفضل من النموذج الليبي الدموي.
في الملف اليمني، لم تكن تركيا قادرة على التمتع بقدرة كبيرة على التأثير لأسباب عدّة. ويكمن أبرز الأسباب في أن اليمن يعد أكثر الملفات سخونة بالنسبة للسعودية. وفي ضوء نجاح الرياض في تشكيل تحالف دولي للحرب هناك، لم يكن من مصلحة أنقرة أن تدخل في عداء مع كافة أعضائه. ويتمثل السبب الثاني في ضعف حلفاء أنقرة على الأرض. أما ثالث الأسباب ولعلّه أهمها فيتمثّل في عدم تقاطع مصالح تركيا وإيران صاحبة القوة الضاربة على الأرض في اليمن.
في سوريا، ورغم عداء الرياض وأنقرة المعلن لنظام الأسد، إلا أن ذلك لم يقف دون وقوع مواجهات بين الدولتين هناك. وبحسب بعض المصادر، فقد دعمت أطراف محسوبة على المحور السعودي قوى مناهضة لتركيا. ومن أبرز هذه القوى قوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني المصنف في تركيا كمنظمة إرهابية. بالمقابل، تحرّكت تركيا عسكريا وسيطرت برفقة فصائل سورية موالية لها على مناطق من الشمال السوري في سياق عمليتين عسكريتين هما درع الفرات وغصن الزيتون وتمتا بتوافق روسي تركي.
أزمات داخلية وخارجية
الاستقطاب بين المحورين بلغ أوجه إثر بروز ثلاثة ملفات. ويتمثل الملف الأول في الأزمة الخليجية وإعلان السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصار قطر. وعزز الحصار من التواجد التركي في قاعدة الريان العسكرية التي أنشئت في قطر عام 2014. كما أنّ قطر ضخت أموالا في السوق التركية بشكل لافت، الأمر الذي جعل المعارضة التركية تتهم حكومة الرئيس أردوغان بأنها تبيع البلاد للقطريين. أما الملف الثاني الأكثر صخبا، فيتمثل في أزمة غاز شرق المتوسط وخلافات حقوق التنقيب عن الغاز وترسيم الحدود البحرية. وهنا، كانت مصر رأس حربة في مواجهة تركيا عبر عقد اتفاقات مع اليونان، الخصم التاريخي للأتراك. وبين هذين الملفين كانت العلاقات السعودية التركية قد بلغت أوج تأزّمها إثر مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول. وأسفر هذا الملف عن تشكيل ضغط دولي غير مسبوق على القيادة السعودية، وبشكل خاص على ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
ما سبق من ملفات كان يخبو حينا ويشتدّ حينا آخر. إلا أن الحملة الخليجية بقيادة سعودية مصرية على قوى الإسلام السياسي، وبشكل خاص الإخوان المسلمين، بقيت مستمرة منذ الإطاحة بالرئيس المصري الراحل محمد مرسي. وفي سياق هذه الحملة، اعتقل العديد من الشخصيات السعودية الدينية. كما جاءت في نفس السياق الأزمة الخليجية ومقاطعة قطر لاستضافة هذه الأخيرة شخصيات وقيادات إخوانية فاعلة وفّرت لها الدوحة منبرا إعلاميا قويا وإطلالات إعلامية يومية.
تركيا حملت راية مناهضة حكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وتحوّلت إسطنبول إلى مستقر لقادة الإخوان المسلمين ومركز إعلامي لفضائيات مصرية معارضة سجلت تأثيرا في الشارع المصري. بيد أن الموقف السعودي المصري من الإسلام السياسي وضع أنقرة في مواجهة سياسية مفتوحة مع القاهرة والرياض. وعادت هذه المواجهة بانعكاساتٍ أصابت الداخل التركي، فكانت محاولة الانقلاب الفاشلة 2016، وقد اتهمت شخصيات تركيا دولا عربية بلعب دور في تلك المحاولة.
السياسة التي انتهجها الرئيس أردوغان وضعته في مواجهة مع قياداتٍ في حزب العدالة والتنمية أعلنت في نهاية المطاف انشقاقها عن الحزب وتحولها إلى المعارضة. وأبرز هؤلاء وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، صاحب كتاب العمق الاستراتيجي ونظرية تصفير المشاكل. هذا الأخير شكل حزب المستقبل وتحوّل لمعارض شرس لرفيق دربه أردوغان. تبعه في ذلك وزير الاقتصاد علي باباجان الذي شكل هو الآخر حزب الديمقراطية والتقدم.
الأزمات في العلاقات السياسية الخارجية التركية، كان يقابلها اشتداد الأزمة الاقتصادية محلياً. وبدأت الليرة تفقد من قيمتها جراء خسارة تركيا لعلاقات تجارية كانت مزدهرة مع دول الخليج الغنية. وبلغت تلك الخسائر أوجها عندما أطلقت السعودية حملة غير رسمية لمقاطعة البضائع التركية أدّت إلى انخفاض الشحنات التركية إلى المملكة في أواخر العام 2020. ووفقاً لبيانات تركية رسمية، لم تزد الصادرات التركية إلى السعودية في تلك الفترة عن 200 مليون دولار، مقارنة بنحو 3.2 مليار دولار في العام 2019.
وفي ديسمبر 2021، ارتفعت الأسعار بنسبة 36٪ مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي 2020. وهذا هو أعلى معدل تضخم سنوي منذ سبتمبر 2002، وكذلك منذ وصول أردوغان إلى السلطة. ويهدّد هذا الأمر بخسارة العدالة والتنمية وكذلك أردوغان في الانتخابات المقبلة، إذ أن العامل الاقتصادي في تركيا يتقدم على غيره من العوامل المحددة لتوجهات الناخبين. كما أن وتر الوضع الاقتصادي هو أكثر ما دندنت عليه الأحزاب المعارضة التي ازدادت قوّتها بفعل انشقاقات حلفاء أردوغان.
السعودية هي الأخرى، ومع قدوم الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، لم تكن بأحسن حالاتها. فمنذ اليوم الأول لتوليه لمنصبه، أبدى الرئيس الأمريكي حماسته لإنجاز اتفاقٍ نووي مع إيران. ولم يبدُ أن هذا الاتفاق – خصوصا في الأيام الأولى لبدء المفاوضات – وكأنّه سيراعي مصالح المملكة الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة. واستغلت إيران هذه الجانب وسخنت الأجواء عبر الضربات المستمرة التي استهدفت المنشآت النفطية عبر حلفائها الحوثيين في اليمن. واستهدف الحوثيون المنشآت النفطية الحيوية التابعة لشركة أرامكو السعودية وكذلك المطارات المدنية في جنوب البلاد. وتطورت العمليات العسكرية لتستهدف الإمارات بالتزامن مع تهديدات مباشرة من قبل المليشيات الموالية لها في العراق وربما بات لزاما البحث عن مزيد من الحلفاء.
هذه التطورات كانت قد سبقتها محاولاتٌ تركية لتحسين العلاقات مع الإمارات والسعودية ومصر. وربما ساهم في ذلك إنجاز حليفها القطري مصالحته مع الدول الخليجية ومصر خلال القمة الخليجية التي عرفت بمسمى “قمة العلا“. كما بدأت أنقرة بممارسة ضغوطها على قيادات الإخوان المسلمين وصولا إلى إغلاق فضائياتهم في إسطنبول لإنجاز مصالحة مع القاهرة. وحقّق الرئيس التركي أولى الاختراقات عبر إعادة العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة وإنجاز نحو 27 اتفاقية ومذكرة تفاهم خلال فترة وجيزة لم تتجاوز الـ78 يوما. وأعلنت دولة الإمارات خلال هذه الفترة عن تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا.
أما سعودياً، فكانت الزيارة التي قام بها أردوغان مؤخرا إلى السعودية بمثابة إذابة ثليج العلاقات بين الجانبين. وفي هذا السياق، نقلت وسائل إعلام خليجية عن مصادر في مجلس الغرف التجارية السعودية أن استيراد التجار للسلع التركية سيعود لطبيعته بشكل متسارع. بيد أنّ هذا التطوّر فرض على تركيا التحرّك لإغلاق ملف الصحفي جمال خاشقجي، وهو ما حدث بالفعل. وقضت محكمة تركية بوقف المحاكمة في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية المملكة بإسطنبول عام 2018. وتم نقل القضية إلى السلطات السعودية. يأتي ذلك في الوقت الذي نقلت فيه وكالة رويترز عن مصادر سعودية عزم ولي العهد السعودي القيام بزيارة إلى عدد من الدول على رأسها تركيا في الأيام المقبلة.
الرئيس التركي ذهب بعيدا في واقعيته السياسية، لتتفوق البراغماتية على الأيديولوجية ويعيد الحياة للعلاقات مع إسرائيل على أعلى مستوياتها بعد فترة طويلة من الانقطاع. وفي هذا السياق، تحدثت وسائل إعلام متعددة عن ضغوط تمارسها أنقرة على شخصيات من حركة حماس، والتي باتت أقرب إلى إيران من أي وقت مضى.
وخلاصة القول، قد تخوض السعودية وتركيا في مساراتٍ تنافسية متعدّدة، لكنّ متطلبات الواقع ترخي بظلالها على هذا التنافس. فما كان غيرَ ممكنٍ قبل سنوات، بات الآن ضرورة ويتطلب تعاون الطرفين مع بعضهما البعض وسط ما يعيشه الآن العالم والمنطقة من تغيّرات جيو-استراتيجية سريعة.