تميزت السياسة الخارجية الإيرانية بموقف عدم الانحياز منذ الثورة الإسلامية عام 1979. وبالنسبة للقادة الثوريين، كان التدخل التاريخي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى سبباً كافياً لتنأى إيران بنفسها عن القوى العالمية من أجل الحفاظ على استقلالها، حيث سادت هذه العقلية على مدى العقود الأربعة التالية.
ومع ذلك، بعد أن وقّعت إيران على خطة العمل الشاملة المشتركة (الإتفاق النووي) مع الصين وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وروسيا في 14 يوليو 2015، تبنت إيران التعاون مع روسيا في الشرق الأوسط. وبالدرجة الأولى، تمثل الهدف من اتخاذ مثل هذه الخطوة بموازنة المنافسة بين الفصائل داخل إيران. وثانياً، كانت تلك الخطوة خيار فصيلٍ واحد داخل المؤسسة الإيرانية، وثالثاً، كان من المتوقع أن يقتصر الأمر على الحرب الأهلية في سوريا.
آنذاك، كان الرئيس باراك أوباما في سدّة الحكم في واشنطن، في حين أن خليفته، دونالد ترمب، كان أقل رغبةً في إشراك طهران بنفس المنطق الذي أدى إلى توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة. بل في الواقع، عمل على الإنسحاب من الإتفاق وأعاد فرض عقوباتٍ على إيران.
من خلال قيامه بذلك، قوّض ترمب أجندة السياسة الخارجية المعتدلة للرئيس الإيراني حسن روحاني. ترك هذا روحاني أمام ثلاثة خيارات: الأول، قبول مطالب ترمب وبالتالي خسارة أي رأس مالٍ سياسي اكتسبه على مدى الأربعين سنةً الماضية، ومن المرجح أن يخسر كرسيه كرئيسٍ أمام انقلابٍ ما أو حتى انتفاضةٍ شعبية. وثانياً، يمكنه أن يعلن عن تحولٍ كبير في مواجهة التهديد المتنامي الذي تفرضه إدارةٌ أمريكية معادية، ويعلن عن انتخاباتٍ مبكرة من المرجح أن ترى تولي أحد المحافظين السلطة. في حين يتمثل الخيار الثالث الذي يبدو أن العمل جارٍ عليه، بتعديل أولويات التنمية المحلية للإدارة ونهج السياسة الخارجية الموالية للغرب لتتماشى مع الواقع الجديد. وبالتالي، تعدّ روسيا جزءاً من إعادة التوجيه هذه.
لوضع سياسة إيران مع روسيا في سياقها الصحيح، يتعين على المرء أن يفهم التاريخ الذي يجمع بين البلدين. فلطالما استاء الإيرانيون من الحرب التي شنتها روسيا على سلالة القاجاريون مما قلّص الأراضي الإيرانية إلى حجمها الحالي. وبالإضافة إلى ذلك، وجهت إيران أنظارها صوب واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن حاولت موسكو ضم اثنتين من المحافظات الشمالية الغربية لإيران. كما أن هناك خللٌ آخر شاب علاقة الدولتين بعد توقيع المعاهدة السوفياتية الإيرانية عام 1921. وفقاً لشروط المعاهدة، امتلك الاتحاد السوفييتي الحق في اتخاذ إجراءاتٍ مباشرة على الأراضي الإيرانية إذا ما كانت تُستخدم من قبل أطرافٍ معادية لموسكو، شريطة ألا تكون الحكومة الإيرانية قادرةً على وقف التهديد. فقد استخدم الاتحاد السوفيتي، مراراً وتكراراً، ذلك للضغط على إيران. وفي ظل هذه الحقائق، بات الإيرانيون مع مرور الوقت يتوخون الحذر من روسيا. ومع ذلك، يبدو أن المشاركة الدولية الجديدة لإيران جعلت من روسيا قوة توازن أمام الولايات المتحدة. فقد حلت الحسابات الجيوسياسية محل المظالم التاريخية.
ونتيجةً لذلك، بدأت إيران وروسيا تقتربان من بعضهما البعض أكثر فأكثر، وأخيراً شكلتا تحالفاً لدعم نظام الأسد في سوريا. كانت هذه خطوةً غير مسبوقة من جانب إيران، ذلك أنها لطالما أصرت على ضرورة عدم سعي دول الشرق الأوسط للحصول على مساعدةٍ خارجية. بيد أن هذه الخطوة لم تأتِ من فراغ. فبعد عقودٍ من الدعوة إلى أطرٍ محلية لمعالجة القضايا الإقليمية، أدركت طهران الحقيقة المُرّة بأن هذه السياسة لا تحرم سوى إيران من التحالف مع قوةٍ عالمية. وبالإضافة إلى ذلك، وجدت روسيا نفسها في موقفٍ مماثل لإيران بعد أن فرضت الدول الغربية عقوباتٍ على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. فإلى جانب حقيقة أن مكانة روسيا في الشرق الأوسط قد واجهت تحدياتٍ بعد الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا ومحاولةٍ إقصاء بشار الأسد في سوريا، أصبح واضحاً لروسيا وإيران أن مصالحهما وأهدافهما في سوريا تصبان في نفس الطريق تقريباً، وأنهما بحاجةٍ إلى التعاون عسكرياً لتحقيق تلك الأهداف.
بالنسبة لإيران، كان التعاون مع قوةٍ عالمية يجمعهما تاريخٌ متوتر أمرٌ غاية في الصعوبة على الصعيد الداخلي. ولهذا السبب أوقِفت الطائرات الروسية من استخدام قاعدةٍ جوية إيرانية. ومع ذلك، كان يُنظر إلى التعاون في سوريا باعتباره علاقةً عابرة ستنتهي بعد تحقيق النتائج المرجوة. وبالرغم من العقبات التي واجهتها خطة العمل الشاملة المشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن إنهاء التعاون مع روسيا لا يبدو خياراً وارداً في الوقت الحالي. فقد رفع خطاب الولايات المتحدة المناهض لإيران إلى جانب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي والحملة الأمريكية الجديدة للضغط على طهران، من قيمة روسيا لدى إيران. ومع تزايد حاجة طهران لموازنة الضغط الأمريكي، تبدو روسيا مستعدةً لتقديم الدعم الذي قد تُحجم أوروبا عن تقديمه في مواجهة ترمب.
وبالتالي، يدفع ترمب إيران نحو أحضان روسيا، وبالتالي، فإنه يضعف أيضاً المعتدلين في إيران.فقد اضطر بعض هؤلاء المعتدلين، بمن فيهم روحاني، إلى تعديل خطابهم وسياساتهم لمواكبة الظروف الجديدة. بعبارةٍ أخرى، توجب عليهم أن يظهروا بمظهر المتشددين ليظلوا وثيقي الصلة بالواقع السياسي الجديد. ولفهم هذه المعادلة، لا يحتاج المرء إلا إلى النظر إلى التشابه بين خطاب روحاني، الذي دفع ترمب إلى نشر تغريدته التي تحمل نبرة التهديد، مع خطاب قاسم سليماني، رئيس الحرس الثوري الإيراني. فلم يسبق قط أن كانا بمثل هذا التقارب.
وكما ذكرنا أعلاه، يحمل التعاون مع روسيا بُعداً داخلياً أيضاً: تحقيق التوازن بين النزعة التي تميل إلى الغرب لجدول أعمال السياسة الخارجية لروحاني. ولكن في الوقت الراهن، باتت روسيا تتحول إلى عامل جذبٍ للنخب الإيرانية. وعليه، هناك ثلاثة مستويات يمكن لروسيا أن تكتسب من خلالها المزيد من القوة في الأشهر والسنوات القادمة:
اقتصادياً: إن الحفاظ على التعاون الاقتصادي، الذي شهد زيادةً ملحوظة بين إيران وروسيا في السنوات الأخيرة، في مواجهة العقوبات الأمريكية المتجددة هو أمرٌ حاسمٌ بالنسبة لطهران. وبالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من الاختلافات، أصبح التعاون الإيراني الروسي في سوق النفط أكثر أهميةً بالنسبة لإيران.
ففي الوقت الذي تحاول فيه المملكة العربية السعودية إبقاء أسعار النفط منخفضةً في الوقت الذي تنخفض فيه حصة إيران من سوق النفط، فإن التعاون مع عملاقٍ في مجال النفط مثل روسيا أمرٌ بالغ الأهمية لاقتصاد إيران. وعلى هذا النحو، كان هذا أحد الجوانب الرئيسية لكل مفاوضات رفيعة المستوى بين إيران وروسيا.
إقليمياً: تُقدّر كل من إيران وروسيا تعاونهما في سوريا، فبالنسبة لروسيا، لا يوجد أي جهةٍ فاعلة أخرى متحررة من النفوذ الغربي للتعاون في الشرق الأوسط، بما في ذلك في سوريا، غير إيران. وبالنسبة لإيران، تعتبر روسيا عمود الموازنة الذي يمكن أن يسند طهران في أوقات الضغط الأمريكي المتصاعد. وبالانتقال من التعاون العسكري إلى العملية السياسية في أستانا، يبدو أن كلا البلدين راغبين في مواصلة هذا التعاون. ففي نهاية المطاف، سوريا مجرد ملفٍ واحد يُظهر للنخب الحاكمة في كلا البلدين منافع التعاون في الشرق الأوسط.
دولياً: في الوقت الذي شن فيه ترمب حملة انتقاداتٍ لإيران، يُقدر الإيرانيون قيمة التعاون مع القوى العالمية المستقلة عن نفوذ واشنطن- بما في ذلك روسيا والصين. ففي حين أن الصين هي البديل الاقتصادي الرئيسي لطهران من فرار رؤوس الأموال والشركات الغربية من البلاد، تعدّ روسيا الحليف العسكري والسياسي الذي تفتقر إليه إيران على المستوى الدولي. وعلى الرغم من أن طهران لا تتوقع من موسكو دعمها في مواجهة هجومٍ أمريكي، إلا أنها لا تزال تعتمد على وارداتها من المعدات العسكرية بالإضافة إلى دعمها في مجلس الأمن الدولي. ولهذا السبب يعتبر وعد بوتين للمرشد الإيراني، آية الله خامنئي، بأني “لن أخونك،” أمرٌ في غاية الأهمية، فضلاً عن كونه يعزز مكانة موسكو في طهران في الوقت الذي قد يخبو فيه إصرار الأوروبيين على خطة العمل الشاملة المشتركة.
بالمحصلة، تدفع سياسة ترمب إيران نحو روسيا. ومن أجل الحفاظ على مكانتها في المنطقة، تدرك إيران حاجتها إلى حلفاء وداعمين دوليين. وبالتالي، تعدّ روسيا طرفاً دولياً ذو أهمية قد يتمتع بالقدرة على موازنة قوة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تدعم خصوم إيران في المنطقة. ووفقاً لمستشار خامنئي، علي أكبر ولايتي، “العلاقات بين إيران وروسيا استراتيجية وستحدد مستقبل المنطقة.” وبالتالي، فإن سياسة ترمب تعزز فحسب هذا الرأي وتعجّل بتحول إيران نحو روسيا والشرق بشكلٍ عام.