وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أرناؤوط العالم العربي: بين الاندماج ونداء الهوية

في حين نجح أرناؤوط العالم العربي في الاندماج في المجتمعات العربية، لا سيما من حيث اللغة والعادات، إلا أن بعض التحديات لا تزال قائمة.

أرناؤوط العالم العربي
صورة تم التقاطها يوم 8 يونيو 1948 ويظهر فيها الملك فاروق، ذو الأصول الأرناؤوطية، محاطاً بضباط الحرس الملكي في القاهرة أثناء حرب عام 1948 في فلسطين. المصدر: AFP.

يوسف م. شرقاوي

تحتاج الكتابة عن الألبان، أو الأرناؤوط كما هم معروفون في العالم العربي، إلى دراسات واسعة، من أجل تغطية تاريخهم ووجودهم واندماجهم في المجتمعات العربية. ويعود السبب في ذلك إلى خصوصية كلّ مجموعة من مجموعات الأرناؤوط، سواء أكانت تلك الموجودة في سوريا أو الأردن أو مصر، أو غيرها من البلدان العربية التي قدموا إليها.

ومع تمكّن الأرناؤوط من الاندماج إلى حدٍّ كبير في المجتمعات العربية التي يعيشون فيها، إلا أنهم احتفظوا بهويتهم وخصوصيتهم. ويمكن القول إنّ هذه الأقلية ما زالت تواجه بعض العقبات المتعلقة بالاندماج في بعض الدول العربية، لا سيّما في الأردن.

على الطرف الآخر، فقد شهدت العقود الأخيرة محاولاتٍ متعددة لتقريب العلاقات العربية البلقانية، لا سيّما مع الألبان والأرناؤوط. وعلى سبيل المثال، فقد استضافت العاصمة القطرية الدوحة في عام 2014 الندوة الدولية الأولى عن العلاقات العربية – البلقانية، والتي تناولت بطبيعة الحال العلاقات بين العرب والألبان وسبل تعزيزها.

الأصول والتسمية

في حديث خاص لفنك، يتناول مهند الأرناؤوط، المشرف العام على مجالس الإدارة لمؤسسات الأرناؤوط العالمية، أصول الأرناؤوط وتسميتهم ومراحل تواجدهم في البلدان العربية.

ويشير بدايةً إلى أنّ الأرناؤوط أقليةٌ عرقية من أصل ألباني، انتشرت في العالم العربي على مرحلتين هما: حقبة محمد علي باشا، والي مصر الشهير ذي الأصول الألبانية، ومرحلة سقوط الدولة العثمانية وسيطرة الصرب على المناطق الألبانية.

وجاءت مرحلة الهجرة الأولى للأرناؤوط باتجاه العالم العربي مع تولي محمد علي باشا لولاية مصر. ففي عام 1801، أرسل السلطان العثماني سليم الثالث القوات العثمانية للتصدي لحملة نابليون من ضمنها كتيبةٌ ألبانية فيها 300 مقاتل وكان نائب قائدها محمد علي. وفي عام 1805، تولى محمد علي ولاية مصر وخلفته سلالته وصولاً إلى الملك فاروق وإسقاط الملكية في مصر عام 1952.

كما لا بد من الإشارة إلى توجه قسم آخر من الألبان إلى فلسطين ولبنان وسوريا والأردن أثناء حملة إبراهيم باشا، ابن محمد علي، على بلاد الشام. واستقرّ هؤلاء في تلك الدول وحملوا لقب الأرناؤوط.

أما المرحلة الثانية لهجرة الأرناؤوط باتجاه الدول العربية، فكانت في بدايات القرن العشرين. فمع سقوط الدولة العثمانية، احتلت القوات الصربية الأراضي الألبانية وسعت لفرض تغييرٍ ديموغرافي في تلك المناطق. وحاول الصرب القضاء على الألبان عن طريق ارتكاب أبشع المجازر التي راح ضحيتها الآلاف منهم.

ولهذا السبب، فقد كان خيار الهجرة الجماعية هو الحل لقسمٍ كبير من العائلات التي تعرضت للاضطهاد والملاحقة. بالإضافة إلى ذلك، ونظراً للانتماء الإسلامي للشعب الألباني، فقد قرر معظم الألبان الهجرة إلى تركيا. أما القسم المتبقي، فقد أكمل هجرته قاصداً بلاد الشام التي كانت تُعرف بـ”شام شريف” واستقروا فيها.

وفي كتاب “الكشكول”، جاء الدكتور محمود ابن الشيخ عبد القادر أرناؤوط على ذكر دراسة تفيد بأن الأرناؤوط ينتمون إلى العرق الآري، أي أنهم من الأعراق الأوروبية. ويدعو الألبانيون أنفسهم “شبتار”. وتبين الدراسة أن هذه الكلمة مكونة من كلمتين دمجهما الشعب الألباني مع مرور الأيام. هاتان الكلمتان هما: “شكيب” و”آر”. وتعني شكيب في اللغة الألبانية “النسر أو الطائر”، أما “آر” فتعني “الذهب”.

ومن هنا، تبين أن الألبانيين اتخذوا النسر رمزاً لهم، وهذا ما يؤيده علم ألبانيا المعاصر والمعروف بلونه الأحمر، الذي يتوسطه النسر ذو الرأسين.

على الطرف الآخر، نُعت الألبانيون بـ “الأرناؤوط” في الإمبراطورية العثمانية التي حكمت بلادهم أربعة قرون ونيف، فطغت هذه التسمية على نسبتهم الصحيحة. لذا، عندما أتى المؤرخ الألماني كارل بروكلمان (1868 – 1956) في كتابه “تاريخ الشعوب الإسلامية” على ذكر الألبانيين وضع إلى جانبها “الأرناؤوط”. وأطلق البيزنطيون على الألبان اسم “أرفانيتو”. وهذه الكلمة تبدّلت لدى الأتراك والعرب إلى كلمة “أرفانيد”. ومع مرور الزمن تحولت إلى كلمة “أرناؤد” ومن ثمّ إلى “أرناؤوط”.

أما ما ورد في بعض المقالات التي تتحدث عن أصل التسمية المنسوب لجبلة بن الأيهم وإلى مقولته الشهيرة “عار علينا أن نعود“، التي نسب لها أصل تسمية الأرناؤوط، فلا يوجد أي مستند توثيقي علمي لها بحسب ما قاله مهنّد أرناؤوط لفنك.

الاندماج في المجتمعات العربية

يقول مهند الأرناؤوط إنّه لا يمكن إجراء إحصاء دقيق إلا عبر حكومات الدول، لا سيما أنّ عدداً كبيراً من الأرناؤوط غيّروا كناهم، لا سيّما في مصر. ووفقاً لإحصاءٍ غير رسمي قامت به مؤسسة صوت الأرناؤوط العالمي للثقافة والفنون عام 2018، فإن تعداد الأرناؤوط في البلدان العربية يتراوح بين 5 و6 ملايين نسمة.

ويضيف أنّ الأرناؤوط يمتازون عن غيرهم من الأقليات بمدى سرعة اندماجهم في المجتمعات التي انخرطوا بها، خاصة المجتمع العربي المسلم. وبحسب مهند الأرناؤوط، فإن هذا المجتمع كان يُعتبر مرجعاً هاماً لتلقي علوم الدين. ولأنّ اللغة كانت تشكّل عائقاً للمهاجرين الأرناؤوط، فقد اهتموا بتعلّم اللغة العربية وتعليمها لأبنائهم من الجيل الثاني من أبناء المهاجرين.

ويقول الأرناؤوط لفنك حول أجيال الأرناؤوط الثلاثة: “لم يتقن كبار السن اللغة العربية، بينما كان والدي يتقنها إلى جانب اللغة الألبانية. أما نحن، فنتقن العربية، لكنّ لغتنا الأم الألبانية ضعيفة”.

ويضيف في حديثه عن العادات والتقاليد: “إننا اليوم كأرناؤوط في البلاد العربية ملتزمون بالعادات والتقاليد العربية. ويمكننا القول اليوم إن الأرناؤوط هم أقلية عرقية منصهرة في بوتقة المجتمع العربي شكلاً ومضموناً. وفي نفس الوقت، فإن الأرناؤوط حريصون على التواصل في ما بينهم عبر مؤسسات الأرناؤوط العالمية. وتسعى هذه المؤسسات للحفاظ على روابط التواصل الثقافي مع الوطن الأم”.

الأردن

يختلف وضع الأرناؤوط في سوريا عن وضع نظرائهم في الأردن. ولا تتواجد في هذه الدولة رابطة للأرناؤوط، وهو ما يحول دون إمكانية حصولهم على مقعد تمثيلي لهم في مجلس النواب الأردني كما عليه الحال مع الشركس والشيشان.

ويعيد بعض الأرناؤوط ذلك إلى “انعدام خصوصية الهوية الأرناؤوطية” في الأردن. وفي هذا السياق، يرى هؤلاء أنّ “غالبية الأرناؤوط في الأردن لا يعرف بعضهم بعضاً، وهو ما يبين أنه لا مفر من وجود رابطة توحدنا وتضمن تفعيل التواصل بين بعضنا البعض وتأمين حصولنا على تمثيل برلماني”.

ويقول مصطفى أرناؤوط، ممثل مؤسسة صوت الأرناؤوط العالمي للثقافة والفنون في الأردن، إنّ “سلسة أحداث متتالية سياسية ودينية وفكرية جعلت الألبان يستقرون في بلاد الشام، وبطبيعة الحال، فإن انخراطهم في مجتمعات هذه الدول أثّر على هويتهم الأصلية”.1

وعن اندماج الأجداد، يضيف:”الأرناؤوط في الأردن فضلوا أن يكونوا مجموعة تذوب في نسيج المجتمع الأردني. وأدى ذلك إلى أن الأرناؤوط لم يظهروا أنفسهم كأقلية لها ثقافتها وطقوسها وعاداتها. وعلى ذلك، فإنّ الجيل الجديد من أرناؤوط الأردن يحمل على عاتقه مهمة إحياء ما كان على أجدادنا إحياؤه”.

مصر

أرناؤوط العالم العربي
قصر المنتزه الخاص بالملك فاروق، ذي الأصول الأرناؤوطية، في الإسكندرية. المصدر: MORANDI Bruno / hemis.fr / Hemis via AFP.

في مصر، لا يختلف الأمر كثيراً عن سوريا. ويقول أدهم أرناؤوط، في حديث لفنك، إنّ الأرناؤوط اندمجوا بسرعة في المجتمع المصري. ولم يتناقض اندماج الأرناؤوط في المجتمع المصري مع حفاظهم على خصوصيتهم، لا سيما أنّ تاريخهم في مصر أسبق من تاريخهم في بقية البلدان العربية.

ويرى أدهم أرناؤوط أنّ حُكم شخصياتٍ ألبانية لمصر ساهم في تعزيز دورهم داخل المجتمع المصري. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى الذين اختاروا الانتماء المطلق إلى مصر، فغيّروا كناهم، خلاف الذين بقوا منتمين إلى موطنهم الأصلي.

العادات والتقاليد

كما أشرنا، اندمج معظم الأرناؤوط في المجتمعات العربية التي عاشوا فيها. ومع ذلك، بقيت بعض عاداتهم مرافقة لهم، منها صنع أنواع من الوجبات في التجمعات العائلية. وأبرز هذه الوجبات وجبة “البيتة“، التي تتكون من 14 طبقة من رقائق العجين، تُمد بالصينية وتُحشى باللحم أو الجبن أو البيض. يضاف إلى ذلك “السبيسا” التي تتكون من اللبن والثوم والفليفلة المقلية.

وعن الأطعمة التراثية الأخرى، كتبت الصحفية لانا أرناؤوط:

“الزوبا من حلوياتنا المميزة، يتم تجميعها عن طريق طبقات متناوبة من البسكويت أو كعكة إسفنجية مع كريمة المعجنات، بالإضافة إلى حلوى الكسترد الألبانية، تسمى كريم كراميلي، وهي مصنوعة من الحليب والقشدة وصفار البيض والسكر والفانيليا بنكهة البرتقال أو قشر الليمون والقرفة. أما الطعام الأكثر شهرة في ألبانيا (وفي بقية البلقان) فهو الفطيرة المالحة التي تُحشى بالسبانخ. توجد في كلّ مكان في البلد، بأحجام وأنواع مختلفة”.

شخصيات بارزة

يذكر مهند الأرناؤوط بعض الشخصيات المعروفة في العمل السياسي في العالم العربي من الأرناؤوط. ويأتي على رأس تلك الشخصيات محمد علي باشا والي مصر وسلالته من بعده. ومن أبرز وجوه السلالة العلوية إبراهيم باشا الذي ينسب له العديد من الأعمال التنظيمية والمباني الموجودة في لبنان وفلسطين. كما يتواجد في هذه القائمة فاسكو باشا (واصا باشا)، والي جبل لبنان وهو شخصية تاريخية جدلية.

أما الشخصيات المعاصرة فيُذكر منها عمر أرناؤوط الذي كان من ثوار دمشق ضد الانتداب الفرنسي على سوريا. وبعد الجلاء، كان عمر أرناؤوط عضواً في مجلس الشعب السوري لعقود. وهناك أسماءٌ لمعت في الأدب العربي كالروائي معروف أرناؤوط، ومن أبرز رواياته “سيّد قريش”.

كما قام الكاتب عبد اللطيف أرناؤوط بترجمة الكثير من الروايات الألبانية إلى اللغة العربية، فكان بمثابة جسر وصلٍ بين الثقافتين الألبانية والعربية. واشتهر أيضاً الرسام عبد القادر أرناؤوط، ومن أشهر أعماله مجسم السيف الدمشقي الموجود في ساحة الأمويين بدمشق.
ويوجد علماء دين من الأرناؤوط تركوا إرثاً هاماً في العالم العربي والإسلامي. ومن هؤلاء الشيخ ناصر الدين الألباني المعروف بالألباني، والشيخ عبد القادر الأرناؤوط والشيخ شعيب الأرناؤوط.