يبيع محمد عصير البرتقال في الشارع الواقع خارج سوق الحميدية في العاصمة السورية دمشق، وهي منطقةٌ سقطت فيها قذائف الهاون بشكلٍ شبه يومي خلال هجوم النظام على الغوطة الشرقية التي كانت تحت سيطرة المعارضة في أوائل عام 2018. إلا أنه لم يفكر في البقاء في المنزل أو البحث عن مكانٍ آخر لبيع بضاعته.
إذ قال لنا في فَنَك: “إذا ما شعرنا بالخوف سيتوقف كل شيء، ستنام المدينة. لا يمكننا فعل هذا، يجب أن تستمر الحياة.”
لطالما كانت الحرب الأهلية قاب قوسين أو أدنى في دمشق. ففي عام 2012، سيطرت المعارضة المسلحة على العديد من الضواحي بما في ذلك الغوطة الشرقية، وهي منطقة ريفية تضم العديد من البلدات والقرى الواقعة على مسافة 15 كم شرق المدينة. ومنذ ذلك الحين، تعرضت دمشق، التي يسيطر عليها النظام، لنيران المدفعية وقذائف الهاون بشكلٍ متكرر من قِبل مقاتلي المعارضة.
وفي فبراير 2018، شن النظام بدعمٍ جوي روسي، هجوماً ضخماً ضد مختلف جماعات المعارضة في الغوطة الشرقية، وبشكلٍ رئيسي ضد جيش الإسلام وأحرار الشام وفيلق الرحمن. فقد كان ما يقدر بنحو 200 ألف إلى 250 ألفاً من المدنيين محاصريين في الغوطة، ويرجع ذلك جزئياً إلى منعهم من الفرار بسبب قناصة المعارضة. وبعد قرابة شهرين من القتال المرير، خضع الجيب لسيطرة النظام الكاملة في 12 أبريل 2018. ويرى المرصد السوري لحقوق الإنسان أن عدد القتلى المدنيين في الغوطة الشرقية يبلغ أكثر من 1600 شخص، إلا أن محللاً أجنبياً تحدث إلى فَنَك شريطة عدم ذكر اسمه، قال إنه مع وجود نساء ومراهقات في الجيب يحملن أسلحة، كان التمييز بين المدنيين والمقاتلين غير واضح دوماً.
وبالنسبة لكثيرٍ من السوريين في دمشق التي يسيطر عليها النظام، شكل سقوط الغوطة الشرقية راحةً بالنسبة لهم، لا سيما أن القصف ازداد بشكلٍ حاد خلال الهجوم الأخير. وفي حين لا يتناسب هذا مع معاناة المدنيين في الغوطة الشرقية تحت قصف النظام، إلا أن هذا القصف تسبب أيضاً في خسائر يومية تقريباً، ووضع المدينة بأكملها في قبضة الحرب. فعلى سبيل المثال، سقطت قذيفة هاون على سوقٍ في حي جرمانا في 21 مارس مما أسفر عن مقتل 44 شخصاً.
“أمان؟ لا يوجد أمانٌ هنا،” قال جرجس، وهو أحد سكان حي دويلعة، الذي يبعد حوالي كيلومتر واحد عن خط المواجهة، في ذروة الهجوم في منتصف شهر مارس. وأضاف “بالأمس، سقطت قذيفة هاون بالقرب مني، كما أن شقيقتي وابنتها انتقلتا للعيش في مكانٍ آخر بسبب خوفهما.”
وبالتجول في حي دويلعة، لم يكن من الصعب عدم ملاحظة آثار قذائف الهاون، فقد ألحقت الشظايا أضراراً بإحدى المدارس، كما أن العديد من جدران المنازل مليئة بالثقوب. وفي أحد الأماكن، كان متطوعون محليون، الذين تم تنظيمهم في وحدات الدفاع الوطني الموالية للحكومة، ينظفون الأنقاض من هجومٍ بقذائف الهاون في يومٍ سابق. كما أرانا أحد السكان الجروح التي تعرض لها في جميع أنحاء جسده بسبب هجومٍ سابق.
وأخبرتنا منى، وهي لاجئة عراقية مقيمة في جرمانا أن ابنتها تخشى الذهاب إلى المدرسة بعد أن ضربتها قذيفة هاون. كما توفي صديق زوجها وأصيب هو أيضاً في هجومٍ بقذائف الهاون في عام 2012. اضطرت العائلة إلى التنقل عدة مراتٍ داخل دمشق للهرب من القتال بين جماعات المعارضة وقوات النظام. قالت منى: “هاجم الإرهابيون منطقتنا، وأصيب منزلنا بالرصاص.”
ولسائق سيارة الأجرة، خوري، قصة مماثلة. فقد فر من قريته في جنوب سوريا عندما سيطرت الجماعة المتطرفة، جبهة النصرة، عليها في عام 2012. وفي دمشق، سكن بدايةً في عين ترما، إلا أنه اضطر إلى مغادرتها مجدداً عندما سيطرت إحدى جماعات المعارضة من الغوطة الشرقية عليها.
وعلى مدى عشرة أيامٍ في مارس 2018، سجلنا في فَنَك عشرات القصص من سكان مدينة دمشق الذين ذكروا سقوط قذائف الهاون بالقرب منهم، مما أدى إلى سقوط ضحايا أو إلحاق أضرارٍ بمنازلهم. الشعور العام هو أن الناس ملوا من الحرب ويأملون بأن يتمكن الرئيس بشار الأسد من استعادة الغوطة الشرقية قريباً.
وقال أنس جودة، وهو عضو من المعارضة المسموحة لدى النظام، “ليس الجميع مؤيدون للأسد، إلا أنهم مناهضون للمعارضة.” وشرح لنا في فَنَك بقوله “رفض الناس النموذج الذي قدمته لهم المعارضة. بالنسبة لي، انتهت الإنتفاضة السلمية عندما بدأ الناس برفع علم آخر. أنا أؤمن بإنتفاضةٍ داخل الدولة، ولكني لا أريد تدمير كل شيء. أريد الحفاظ على بلدي.”
وعلى الرغم من القصف المستمر، والوجود العسكري الكبير في الشوارع والخطر الدائم بسبب قذائف الهاون، إلا أن هناك شعوراً سريالياً بالحياة الطبيعية في دمشق. ففي السنوات الأخيرة، تم افتتاح العديد من الحانات والمطاعم والنوادي. فالزبائن الجالسون في شيشة كافية، لا يرمشون قط عن سماعهم دوي الإنفجارات الضخمة التي تهز المناطق المجاورة. بل إن الشوارع أكثر ازدحاماً مما كانت عليه قبل الحرب بسبب تدفق النازحين داخلياً. ولا تزال الخدمات الحكومية مثل جمع القمامة والكهرباء والمياه قائمة. ويبدو أن النظام يرغب في إرسال رسالةٍ مفادها أنه ما دام الأمور تحت سيطرته، سيوفر مستوىً من الأمن والحياة الطبيعية لمواطنيه.
إلا أن بعض القطاعات عانت كثيراً، فقد قالت أم جورج، وهي مقيمة أخرى في دويلعة، لفَنَك: “فر العديد من الأطباء من البلاد، وأصبح استيراد الأدوية أكثر صعوبة.” فقد سقطت عن السلالم منذ عدة أشهر وتواجه صعوبة في المشي، إذ قالت: “لا أستطيع الحصول على علاج جيد.”
وعلى صعيدٍ متصل، كانت آثار الحرب على الاقتصاد مدمرةً أيضاً. فعلى سبيل المثال، كانت قطعة بيتزا بسيطة تكلف 10-15 ليرة سورية عام 2010، إلا أنها اليوم تكلف 100 ليرة. كما فقدت العملة عشرة أضعاف قيمتها منذ اندلاع الحرب في عام 2011. وبالرغم من الإفتقار إلى أرقامٍ موثوقة، إلا أنه في منتصف عام 2017، قدر البنك الدولي خسارة متراكمة في الناتج المحلي الإجمالي من عام 2011، بلغت 226 مليار دولار، أي أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لسوريا لعام 2010. وقدر تقريرٌ لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي تكلفة البنية التحتية المادية المدمرة بنحو 67,3 مليار دولار في نهاية عام 2015 – أي في منتصف الحرب فقط.
وعلاوة على ذلك، فقد فر ملايين السوريين من البلاد، وفي دمشق على سبيل المثال، كان من الصعب أن تجد شخصاً واحداً لا يوجد له أحد أفراد أسرته في أوروبا. وتأمل أم جورج في جمع شملها مع أسرتها في ألمانيا، إذ أنها لا تتوقع أن تتحسن مستويات المعيشة في المستقبل القريب، حتى وإن تمكن الأسد من تحقيق انتصارٍ سريع.
كمت يريد محمود، وهو طالب جامعي في التاسعة عشرة من عمره، مغادرة سوريا بمجرد تخرجه لتجنب التجنيد العسكري، إذ قال بصراحة: “في الجيش تقتل.” واليوم يعيش شقيقه في أوروبا، حيث سافر إلى تركيا أولاً، لينتقل بواسطة أحد القوارب عبر البحر المتوسط إلى اليونان، ثم مر بالبلقان إلى ألمانيا.
وفي حين يأمل سكان دمشق بأن ينعموا بأوقاتٍ أكثر هدوءاً وسلاماُ بعد سقوط الغوطة الشرقية في يد النظام، إلا أن الخوف لا يزال يتملكهم حول مستقبل البلاد. ويقول جودة في هذا الشأن “مع كل هذا الحديث عن الإيرانيين في سوريا، قد نشهد أمراً أكبر قريباً،” في إشارةٍ منه إلى المعارضة الدولية لوجود إيران وحزب الله المدعوم من إيران في سوريا. ومع دعم الولايات المتحدة للأكراد في الشمال الشرقي، ودعم تركيا للمعارضة في إدلب في الشمال، ودعم روسيا وإيران للنظام، لا تزال سوريا برميل بارودٍ جغرافي-سياسي قابل للإنفجار.
وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من استمرار الأسد في استعادة الأراضي، إلا أن الوضع لا يزال شديد التقلب. فقد شنت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا هجوماً على أهدافٍ متعددة للنظام في دمشق وحمص صباح 14 أبريل رداً على هجوم كيمياوي مزعوم من قبل الجيش السوري في مدينة دوما في وقتٍ مبكر من الأسبوع.
وعليه، تبادلت الولايات المتحدة وروسيا التهديدات العسكرية في أعقاب الهجوم الكيماوي، مما أثار مخاوف من تصعيدٍ أوسع نطاقاً بين الدولتين، ولكن في نهاية المطاف كانت الضربات محدودة، الأمر الذي يبدو أنه عزز من ثقة الأسد.
*أجريت جميع المقابلات دون وجود طرفٍ ثالث، بين المراسل والشخص الذي تمت مقابلته فقط.