في أحد أيام شهر ديسمبر الباردة لعام 2017، وقفت فيدا موفاهد، البالغة من العمر 31 عاماً، على صندوقٍ للإتصالات أثناء “ثورة الشارع” في طهران وبدأت بالتلويح بحجابها فوق رأسها العاري بصمت. سرعان ما انتشرت الصور التي تحمل رمزية هذا الفعل الذي يتسم بالتحدي كالنار في الهشيم، مما ألهم النساء الأخريات بأن يحذوا حذوها ليعيدوا إثارة الجدل حول الحجاب الإلزامي في الجمهورية الإسلامية. وعلى الرغم من أن موفاهد جذبت اهتمام العامة، بإبداع، بشأن هذه القضية، إلا أن النساء الإيرانيات تحدينّ القيود الدينية منذ عقود برفضهنّ الالتزام بالزي الإسلامي “على أصوله.” واليوم، خسر النظام، إلى حدٍ كبير، الحرب الثقافية، ودون استخدام آليات الرقابة الاجتماعية، فلربما لن يكون قادراً على الحفاظ على واحدٍ من الركائز الرئيسية للجمهورية، ألا وهو الحجاب الإلزامي.
وباستعراض الصور القديمة للثورة الإيرانية عام 1979، أصبح من الواضح أن النساء لعبنّ دوراً غاية في الأهمية في الإطاحة بالنظام القديم. وكحال الرجال، جاءت النساء المشاركات في الثورة من خلفياتٍ مختلفة، وتوقعنّ نتائج مختلفة من الثورة. ومع ذلك، قاتل العديد منهنّ من أجل الحرية السياسية والديمقراطية. وعلى الرغم من أن المرشد الأعلى، آية الله الخميني، لم يُشر قبل الثورة إلى الحجاب الإلزامي، إلا أنه أصدر بعد أربع سنواتٍ من تأسيس الجمهورية الإسلامية، مرسوماً يجبر النساء على الإلتزام بالزي الإسلامي. مهد هذا الطريق أمام أول رد فعل يتسم بالتحدي من قِبل الجماهير، إذ خرجت النساء إلى الشوارع للاحتجاج على القانون الجديد. فقد كان أحد الشعارات ذائعة الصيت آنذاك “نحن لم نثر للعودة إلى الخلف.”
وتُظهر أشرطة الفيديو من الاحتجاجات مشاركة حتى بعض النساء المحجبات ذلك أنهنّ رأين في القانون فعلاً قمعياً ضد جميع النساء. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات قُمعت بدايةً من قِبل القوى الإسلامية التي تم تمكينها مؤخراً، إلا أن النساء واصلن تحدي الزي الإلزامي من خلال المقاومة غير العنيفة.
ونتيجةً لذلك، تم إنشاء “لجانٍ” ثورية تجوب الشوارع وتضمن الإمتثال للقوانين. ولا توجد بياناتٌ موثوقة عن عدد الاعتقالات، إلا أنه بالتأكيد تم في العقد الأول إلقاء القبض على العديد من النساء ومحاكمتهنّ إما لكشف شعرهن في العلن أو إرتداء ملابس “غير لائقة.” وعلى الرغم من تخفيف الخناق قليلاً في ظل حكم الرئيس رفسنجاني، إلا أن “شرطة الآداب” واصلت الهجوم على أي مظهرٍ من مظاهر عدم الإمتثال العام. ومع ذلك، ظهرت اتجاهات جديدة للموضة عاماً تلو الآخر، مما سمح للمرأة بالتعبير عن شخصيتها بينما تحاول الدولة الحد من نطاقها.
ومنذ عام 1997، أصبحت مسألة الحرية الاجتماعية قضيةً انتخابية هامة. فقد كانت الوعود بالمزيد من الحريات الفردية للشباب عنصراً أساسياً في انتصار محمد خاتمي، الذي حقق انتصاراً ساحقاً في انتخابات عامي 1997 و2001. فقد حشدت ولايته الانتخابية قسماً كبيراً من المواطنين الشباب الذين كانت السياسة آخر اهتماماتهم. ومع ذلك، وعلى الرغم من رفع سقف الحرية الاجتماعية والثقافية، تواصل شرطة الآداب عملها.
وخلال انتخابات عام 2005، التي فاز بها محمود أحمدي نجاد، عاودت مسألة الحرية الاجتماعية وتدخل الدولة في خيارات نمط الحياة الظهور كقضيةٍ هامة. بل إن أحمدي نجاد اعترف بالطابع التعبوي الواعد بالمزيد من الحرية الشخصية. كما تعهد بتخفيف سيطرة الدولة على الشؤون الشخصية، وفي إحدى مقابلاته التلفزيونية قبل الانتخابات، تساءل عن دور شرطة الآداب، قائلاً: “دع أطفالنا يرتبون شعرهم بالطريقة التي يرغبون بها. هذا لا يهمني ولا يهمكم… يجب على الحكومة إصلاح اقتصاد الأمة وتحسين أجواءها… أذواق الناس مختلفة.” وبالرغم من تعهده هذا، إلا أنه بمجرد وصوله إلى منصبه، تعاظمت الحملة على ما يُسمى بـ”السلوك غير الإسلامي.” وعليه، تملص من المسؤولية، وألقى باللوم على الفصائل المختلفة في الحكومة لتمكينها شرطة الآداب من أجل تقويض شعبيته.
وليس من المستغرب استخدام الرئيس الحالي، حسن روحاني، أيضاً لورقة الحرية الشخصية لتعزيز حملته الانتخابية. وعلى الرغم من أن الحرية الشخصية قد ازدادت بشكلٍ كبير في ظل حكمه، إلا أن المرأة لا تزال تخضع للحجاب الإلزامي. ومع ذلك، وبعد أن أثارت موفاهد الجدل حول هذه القضية الحساسة مجدداً، رد روحاني على الفور بإصدار تقريرٍ يبلغ من العمر ثلاث سنوات ويظهر أنّ ما يقرب من نصف الإيرانيين يرغبون في إنهاء شروط الحجاب. ويحدث هذا بالضبط في الوقت الذي حذر فيه المتشددون في السلطة القضائية من العواقب التأديبية التي ستفرض على الأشخاص الذين يتحدون اللباس الإلزامي علناً. وحتى الآن تم القبض على 29 شخصاً على الاقل.
وقد تكون حكومة روحاني وأنصارها المعتدلين والإصلاحيين مؤيدين حقاً لحرياتٍ اجتماعية أكبر، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن للمرء تجاهل سياسة الفصائل الإيرانية بالكامل. ويرى بعض المتشائمين أن نشر التقرير القديم لم يكن سوى اغتناماً للفرص لتعزيز شعبية روحاني. وعلى الرغم من صعوبة التأكد من هذا يقيناً، فلربما هناك القليل من هذا وذاك.
ففي السنوات الأخيرة، أصبح حجاب الرأس، في العديد من المدن، شكلاً من أشكال الزينة عوضاً عن كونه دلالة على الاحتشام. فهناك دلائل واضحة على تفشي العلمانية في المجتمع الإيراني. بل من المفارقات أنه في ظل الجمهورية الإسلامية، انخفض دور الدين في تشكيل الوعي الجماعي بسرعة كبيرة. فالدولة تعي ذلك تماماً، إلا أنها غير قادرة على منع هذا التحول.
ومع ذلك، فإن الحجاب أكثر من مجرد خيارٍ لنمط الحياة، بل هو أيضاً جزء لا يتجزأ من هوية الجمهورية الإسلامية. وعلى الرغم من أن إحدى ولايات الجمهورية هي الحفاظ على الأخلاق العامة، إلا أن سجلها في هذا الصدد كان ضعيفاً. وفى السنوات الاخيرة اعترف المتشددون بالفساد واسع النطاق الذى يعصف بالبلاد. وقد مهد ذلك الطريق أيضاً إلى زيادة العلل الاجتماعية الأخرى التي تعتبر “غير إسلامية.” ولم تتمكن الدولة من حل المشكلة لأنها جزءٌ منها. وبما أنه يُنظر إلى النظام باعتباره غير قادرٍ على وقف تدهور الأخلاق العامة، يبقى الحجاب آخر سياسة أسلمةٍ للثورة التي لا يستطيع المتشددون التخلي عنها.
وعلى الرغم من أن المعتدلين والإصلاحيين أكثر انفتاحاً على التغيير داخل بيئةٍ خاضعة للرقابة، يرى المتشددون في اختفاء الحجاب رمزاً لفقدان قوتهم. وبالتالي، أصبح الحجاب جزءاً من حربٍ ثقافية بين الدولة ومواطنيها، وتنافساً على السلطة، على حد سواء في قلب المؤسسة السياسية. في الواقع، من خلال نزع الحجاب في العلن، فإن “الفتاة من ثورة الشارع” لم تصبح فحسب أحدث رمزٍ لهذه الحرب الثقافية الجارية، إلا أنها أكدت أيضاً على الخلاف المتزايد داخل سياسة الفصائل الإيرانية.