يستذكر الدكتور سعد الدين إبراهيم، الناشط وعالم الاجتماع منذ فترةٍ طويلة، والمولود عام 1938، ستون عاماً من السياسة المصرية. وبالرغم من ارتعاش صوته ووهن جسده، إلا أن ذاكرته لا تزال واضحةً وضوح الشمس، إذ يمكنه تذكر أحداث مثل مصادفته للرئيس المصري الثاني، عبد الناصر في الخمسينيات، وعلاقته مع حسني مبارك في الثمانينيات، وأول زيارةٍ له إلى إسرائيل بعد اتفاقات أوسلو في التسعينيات كما لو أن الأمر حدث بالأمس.
فقبل بضع سنوات، انتقل برفقة زوجته، باربرا، من وسط القاهرة إلى أحد ضواحيها الراقية والهادئة. وصباح كل يوم، يقوم إبراهيم بالسباحة قليلاً في البركة للحفاظ على صحته البدنية. فهو “متقاعد رسمياً” إلا أنه رئيس فخري في مجلس إدارة مركز إبن خلدون للدراسات الإنمائية، الذي أسسه عام 1988. ولا يزال يحضر جلسات تبادل الآراء المفتوحة التي تقام أسبوعياً في المركز، ويسافر بانتظام للمشاركة في المؤتمرات وورش العمل.
فقد أثارت آخر زياراته الخارجية بعض الجدل، إذ وصفه طلاب فلسطينيون بـ”الخائن” بعد أن ألقى محاضرةً عن العلاقات المصرية الإسرائيلية في جامعة تل أبيب في يناير 2018، متهمين إياه بـ”التطبيع” مع إسرائيل. فقد شرع الطلاب بالهتاف منذ بداية خطابه وواصلوا احتجاجهم خارج قاعة المحاضرات.
وأوضح إبراهيم أن جامعة تل أبيب خططت لبرنامج موسع للاحتفال بمرور 100 عام على الثورة المصرية عام 1919 ضد الإنجليز، وأنه تمت دعوته من قِبل البروفيسور الإسرائيلي، شمعون شمير- “وهو صديق قديم وزميل من كلية الدراسات العليا في أمريكا”- لإلقاء كلمة رئيسية عن هذا الموضوع. وقال إبراهيم “يوجد في اسرائيل دائرة كبيرة جداً من محبي مصر، وهم ليسوا فقط من العلماء بل أيضاً من الصحفيين والنشطاء.”
آراء حول إسرائيل
وتضيف زوجته باربرا، وهي أمريكية وعالمة إجتماع أيضاً، بقولها “وجهة نظر سعد هو أنه بعد 40 عاماً من رفض التطبيع مع إسرائيل، ما الذي كسبه الفلسطينيون؟” وتابعت القول “نريد إنهاء الاحتلال، ونحن نكره المستوطنات، وفي الواقع نؤيد جوانب محددة من حملة المقاطعة (بي دي أس). ولكني مؤيدة حقيقة للحرية الأكاديمية، مما يعني أن الأفكار الخارجية تستحق مكاناً في الأكاديمية ليتم إثباتها أو دحضها. إذا ما صرخت في وجه الأشخاص لمنعهم من الكلام، فأنت تمنع ذلك.”
لربما أثارت محاضرة إبراهيم في تل أبيب هذه الموجة الكبيرة من الجدل ذلك أنه كان من أشد المعارضين لاتفاقات كامب دايفيد. وتقول باربرا في هذا الصدد “في الثمانينات، كان سعد لا يزال متحمساً لمناهضة إسرائيل ولم يكن يفكر في زيارتها حتى وإن عنى ذلك قطعه بالكامل عن الفلسطينين.” وأضافت “كلما كنت أدعوه للانضمام لي في رحلة عملٍ إلى الأراضي الفلسطينية، كان يقول لي أنه قد يواجه مسؤولاً اسرائيلياً، ولم يكن متأكداً من قدرته على ضبط النفس عند نقاط التفتيش.”
إلا أن حدة موقفه تجاه الاسرائيليين، لا سيما الأكاديميين، خفت بعد توقيع اتفاقات أوسلو، وبخاصة بعد أن زار مجموعة من الباحثين الاسرائيليين مركز ابن خلدون في القاهرة. أدى ذلك إلى تبادل أكاديمي وزيارات متبادلة بين الطرفين في السنوات التالية. وتقول باربرا: “لدينا العديد من الأصدقاء الاسرئيليين، المتحررين فكرياً مثلنا، غير الراضين عن حكومتهم تماماً كحالنا. يُضفي ذلك صفة إنسانية على الصراع عندما تبدأ بإدراك التنوع على الجانب الآخر؛ فهم ليسوا مجرد عدو.”
الإسلام السياسي
أصبح إبراهيم ناشطاً سياسياً عندما كان لا يزال في المدرسة الثانوية في قريةٍ بالقرب من المنصورة في دلتا النيل. وفي عام 1955، تم اختياره كطالب واعد من محافظته للقاء جمال عبد الناصر، الرئيس آنذاك. وأشار إبراهيم إلى أنه واجه عبد الناصر بتعذيب صبي صغير من الإخوان المسلمين في قريته. واضاف “لقد كان ناصر لطيفاً جداً بحيث سمح لي بالكلام وبدأ في تدوين الملاحظات وطلب مني الاستمرار.”
وفي سن المراهقة، جنده أخوه الأكبر سناً للانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، إذ قال: “إنه تنظيم ماسوني للغاية، حيث يُشترط على الأفراد في سنٍ مبكرة جداً أن يستمعوا إلى شيوخهم ويطيعوهم وأن يتعهدوا بالولاء وفعل أي شيء من أجل الحركة.” انفصل عن الجماعة بعد سنواتٍ قليلة، إلا أنه لا يزال يرى مستقبلاً واعداً للإسلام السياسي. وأضاف “يجب، ويستطيعوا، أن يتطوروا مثل الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا الى ديموقراطيين مسلمين وان يصبحوا حزباً سياسياً رئيسياً ذو بعد ديني.”
ويأسف إبراهيم على أن الجماعة، في فترة حكمها القصير (2012-2013)، فشلت في ذلك، إذ قال “كانوا على عجلة لبسط سيطرتهم مما تسبب بنفور الكثير من الناس. لقد أساؤا استغلال الفرصة […] ولكني لا زلت أؤمن أن الأمر ممكن، هذا ما أميل له كديمقراطي. يمكن بسهولة إعادة تأهيل الكوادر الأصغر سناً لقبول التنوع والتنافس سلمياً دون احتكار.”
فقد أجرى أبحاثاً موسعة في الإسلام السياسي على مر السنين. ففي مقالاته التي جمعها تحت عنوان مصر، الإسلام والديمقراطية، والتي نشرت في عام 2002، درس احتمالات الديمقراطية في مصر ودور النشاط الإسلامي في هذا. وفي مقاله الذي حمل عنوان نحو ديموقراطيات إسلامية، الذي نشر في عام 2007، قدم الحجج لتوافق الإسلام والديمقراطية.
كما كتب أيضاً عن التطرف الإسلامي، فقد وصف الجهادي النموذجي بأنه شاب من الطبقة العاملة أو المتوسطة، الذي حاول استكمال التعليم العالي إلا أنه فشل في تسلق السلم الاجتماعي بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة، والمحسوبية والنظام الفاسد. أصيب هذا الرجل بخيبة أملٍ ورغبةٍ في اعتبار الإسلام (الراديكالي) حلاً لمشاكل المجتمع.
في حين ركزت بحوث أخرى له على الأقليات وحقوق الأقليات، إذ حلل إبراهيم المجتمع القبطي في مصر كأقلية في تسعينيات القرن الماضي، الأمر الذي كان مثيراً للجدل آنذاك إذ كان تحديد جماعة ما باعتبارها أقلية بناءً على أسسٍ دينية من المحرمات في مصر.
قربه من مبارك
جاء أول تصادم لإبراهيم مع النظام عندما كان يدرس في الولايات المتحدة في الستينيات. وبصفته رئيساً للجمعية الطلابية العربية في أمريكا الشمالية، رفض اتباع الخط السياسي الرسمي للدولة المصرية. لذلك، تم سحب منحته الدراسية ولم يتم تجديد جواز سفره، مما أجبره فعلياً على البقاء في الولايات المتحدة. بدأ التدريس في جامعة إنديانا، حيث التقى باربرا خلال مظاهرة مناهضة للحرب على فيتنام. وفي عام 1975، عندما حل أنور السادات خلفاً لعبد الناصر، انتقل الزوجان مع طفلهما إلى مصر، وبدأ إبراهيم العمل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وفي الثمانينات، كانت سوزان مبارك واحدةً من طلاب إبراهيم، حيث أصبح إبراهيم على معرفة شخصية بزوجها، حسني مبارك، الرئيس المنتخب حديثاً آنذاك. وقال ابراهيم “في السنوات العشر الاولى اعتدت على رؤيته بانتظام، مرة كل شهرين او ثلاثة اشهر.” وتابع “مبارك كان رجل بسيط ولا يمتلك ثقة كبيرة بنفسه. كنت أتحدث طوال الوقت، بينما كان يطرح الأسئلة وأجيب عنها.” بل في العديد من المناسبات، كان إبراهيم من يكتب خطابات مبارك.
وفي السنوات اللاحقة، تدهورت علاقتهما، “في السنوات العشر التالية من ولايته، أصبح مبارك واثقاً من نفسه جداً… ولم يكن يستمع لأحد،” كما يقول إبراهيم، “وفي السنوات العشر الأخيرة توقفت عن رؤيته.”
فقد اختلف إبراهيم على وجه الخصوص مع خطط مبارك تنصيب ابنه جمال مبارك خلفاً له. وفي عام 2000، كتب إبراهيم مقالاً ساخراً بعنوان “الجملوكية،” الذي يترجم تقريباً إلى “الجمهورية الملكية،” حول القادة العرب الذين يحاولون تشكيل الجمهوريات التي حكموها إلى نظام شبيه بالمكلية بتوريث أبنائهم. وفي ذات اليوم الذي نُشر فيه المقال ألقي القبض على إبراهيم، وتبع ذلك سنواتٍ من قضايا المحاكم والاعتقالات. “كانت تلك السنوات مثيرة جداً للاهتمام بالنسبة لي. ففي السجن التقيت ببعض أعضاء الميليشيات الإسلاميين الذين درستهم قبل 20 عاماً.”
في عام 2007، غادر إبراهيم مصر مرةً أخرى خوفاً من سجنه مجدداً، إلا أنه عاد في فبراير 2011 للانضمام إلى الاحتفالات بعد الإطاحة بمبارك وثورة 25 يناير. وفي السنوات التي تلت ذلك، تبدد المزاج الاحتفالي بقوة في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي. ووصف إبراهيم النظام الحالي بأنه “غير حكيم” لقمعه المجتمع المدني وإضعافه الإسلاميين. فعلى سبيل المثال، فرض قانون تم التصديق عليه في مايو 2017 قيوداً شديدة على المنظمات غير الحكومية، واضطر مركز ابن خلدون إلى تقليص أنشطته حيث أصبح من الصعب على نحو متزايد جمع الأموال والحصول على منح خارجية.
لحظات للتفكر
قالت باربرا عن حياتهم معاً وعن عقود مضطربة من النشاط السياسي “لم يكن هذا المشوار المهني الذي توقعناه عند زواجنا، إلا أنه كان مشوقاً.” وافقها إبراهيم الرأي، “نجح الأمر برمته، بالرغم من التقلبات، إلا أن النتيجة النهائية جيدة.”
بحديثنا مع إبراهيم، يشعر المرء أن مهمته انتهت، إذ أدى مهمته- “فقد تصادم مع كل نظامٍ من الناصر إلى السادات، ومن مبارك إلى السيسي،”- إلا أنه يأمل اليوم بأن يتواصل كفاحه من أجل الديمقراطية، والحقوق والمجتمع المدني في مصر، من بعده. وأضاف “مررنا بالعديد من الأنظمة ونجونا، وصمدنا في وجههم، وآمل أن نعمر طويلاً في وجه النظام الحالي.”