نشر موقع “Open Democracy” مقالة سلطت الضوء على العلاقة التي تجمع حزب الشعب الجمهوري بحزب الشعوب الديمقراطي في أعقاب ما شهده المشهد السياسي التركي من تطوراتٍ أخيرة تضمنت فوز أكرم إمام أوغلو بمنصب عمدة إسطنبول. وتقوم صاحبة المقالة غولستان غوربي، الأستاذة المساعدة بمعهد “أوتو زور” للعلوم السياسية بجامعة برلين الحرة، باستعراض تلافيف الدور المحوري الذي يلعبه حزب الشعوب الديمقراطي في السياسة التركية، إذ يُنسب الفضل له في فوز حزب الشعب الجمهوري بمدينة إسطنبول. وعلى ضوء مساندة الأكراد لحزب الشعب الجمهوري في انتخابات إسطنبول الأخيرة، تتناول غوربي في مقالتها الطبيعة المعقدة لعلاقة هذا الحزب بحزب الشعوب الديمقراطي، خاصةً في ظل تبنّي الحزب الأول لأيديولوجية كمالية استبدادية وقومية تتعارض بطبيعة الحال مع مطالب الأكراد. وفي نفس السياق، تقوم صاحبة المقالة باستعراض ما تعرّض له حزب الشعوب الديمقراطية من تهميشٍ وقمع بالتزامن مع استشراف الدور الذي قد يلعبه حزب الشعب في إنهاء الصراع بين الدولة والأكراد.
واستطاع حزب الشعب الجمهوري الفوز بمنصب عمدة إسطنبول (في انتخابات 31 مارس و23 يونيو 2019)، وقد تزامن هذا الحدث مع إدراك الحزب لأهمية التعاون مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي التقدمي لتشكيل قوة سياسية.
وهنا لا بد من التأكيد على محورية ما قدّمه حزب الشعوب الديمقراطي من دعم في انتصار حزب الشعب الجمهوري. وترى غوربي أن الدعم الذي قدّمه حزب الشعوب الديمقراطي جعل فوز حزب الشعب ممكناً لأن حزب الشعوب لم يتقدم بمرشحين في كبرى مدن غرب تركيا بهدف مساعدة حزب الشعب الجمهوري في الفوز بالانتخابات. كما دعا حزب الشعوب أنصاره لانتخاب مرشحي حزب الشعب، ليضمن بذلك أكرم إمام أوغلو أصوات الناخبين الأكراد في إسطنبول. وتُقدّر أصوات أنصار حزب الشعوب الديمقراطي التي حصل عليها إمام أوغلو بنحو 911 ألف صوت من بين 4.6 مليون صوت.
وكان الصراع قد اشتد للحصول على أصوات الأكراد في مرحلة إعادة انتخاب العمدة في 23 يونيو الماضي، إذ حاول حزبا الشعب الجمهوري والعدالة والتنمية الفوز بتأييدهم مراراً، واهتما تحديداً بأصوات الممتنعين عن الانتخابات (أكثر من مليون ونصف) والأكراد. إلا أن الحزب الحاكم لم يلجأ إلى استراتيجية تستهدف الحشود على نطاق واسع، بل اهتم بكسب أصوات هؤلاء الناخبين تحديداً من خلال العمل على الأرض، حيث أخذ هذا النشاط أشكالاً مختلفة كان منها زيارة الناس في منازلهم. وفي إطار سعيها للفوز بأصوات الأكراد، أرسلت الحكومة رسائل إيجابية للأكراد مفادها أنها سمحت لمحامي عبد الله أوجلان بزيارته بعد حظر دام أحد عشر عاماً، وأوجلان هو زعيم حزب العمال الكردستاني المحظور وهو في السجن منذ عام 1999. وتمكن محامي أوجلان من زيارته لأول مرة في مطلع شهر مايو الماضي. وقبل فترةٍ وجيزة من الانتخابات التي جرت يوم ٢٣ يونيو الفائت، عاودت حكومة العدالة والتنمية استخدام “الورقة الكردية”، إذ تم استخدام تصريحٍ صادر عن أوجالان للتأثير على ناخبي حزب الشعوب الديمقراطي، وكان أوجلان قد دعا الأكراد في تصريحه للبقاء على الحياد.
ومع ذلك، لم يتمكن العدالة والتنمية من الفوز في الانتخابات. واستطاع مرشح الشعب الجمهوري إمام أوغلو تحقيق انتصارٍ حاسم بتقدمه بحوالي 9% على منافسه (إمام أوغلو 54%، بن علي يلدريم 45%).
وفجّر نجاح حزب الشعب الجمهوري الانتخابي حالة من التفاؤل داخل أروقة الحزب. إلا أن الضغط على الحزب زاد في الوقت نفسه لأن النجاح رفع سقف توقعات الناس، ولأن حزب الشعوب الديمقراطي يأمل بالحصول على دعمٍ أكبر للقضية الكردية.
حزب الشعوب الديمقراطي: بيضة القبان لتحقيق التوازن السياسي
بيَّن النجاح الانتخابي لحزب الشعب الجمهوري الدور المحوري لحزب الشعوب الديمقراطي في التوازن السياسي بالبلاد. وعلى الرغم على المناطق الكردية للحصول على ما يحتاج إليه من دعم، إلا أن حزب الشعوب الديمقراطي بات لاعباً رئيسياً في المشهد السياسي التركي ولم يعد من الممكن تجاهله. وكان حزب الشعوب قد عانى من قمع الدولة لفترة طويلة رغم كونه حزباً مرخصاً من الناحية القانونية وثالث أقوى الأحزاب في البرلمان التركي. وأدى هذا الوضع إلى معاناة هذا الحزب من ضعفٍ شديد جعله بالكاد يتمتع بالقدرة على التأثير. واستغلت حكومة العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان نجاح حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو 2015، وفي الحرب الدائرة ضد حزب العمال الكردستاني منذ يوليو 2015، وفي مواجهة الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016 لتفكيك الحزب، ولتنفيذ عمليات تطهيرٍ شاملة في المجال السياسي والمجتمع المدني للأكراد. ومنذ ذلك الحين، انهالت الاعتقالات والإدانات على الأكراد. ولم يؤثر ذلك على القيادة وحدها، بل على المستويات الدنيا من الحزب أيضاً. وفي هذا الإطار، تم إلقاء القبض على آلاف النشطاء، وتعسفت الدولة بعزلها لما يزيد عن 90 رئيس بلدية تابعين لحزب الشعوب الديمقراطي، ناهيك عن وضعها للبلديات تحت إدارتها المباشرة. كما اعتقال رئيس الحزب صلاح الدين دميرطاش ونائبته فيغين يوكسيكداغ ونواب آخرون بالبرلمان منذ نوفمبر 2016، وهم يواجهون الآن عقوباتٍ بالسجن تصل أحكامها إلى عدّة سنوات.
وترى صاحبة المقالة أن حزب الشعوب الديمقراطي قد أصبح رقماً صعباً في الانتخابات وقوة ديمقراطية سياسية كبيرة في تركيا رغم ما واجهه من قمعٍ وتهميش ومحاولات احتواء وظروفٍ انتخابية ظالمة. ومع ذلك، لم يتمكن الحزب من تقديم مساهمة حاسمة في فوز حزب الشعب الجمهوري تثبت بوضوح دوره المحوري على الساحة التركية فحسب، بل تمكن أيضاً من الفوز مجدداً في انتخابات عدّة بلديات في الجنوب الشرقي الكردي من البلاد، علماً بأنه سبق وضع هذه البلديات تحت إدارة الدولة. إلا أن المجلس الأعلى للانتخابات أبطل لاحقاً فوز الحزب بستة بلديات استناداً إلى فصل أعضاء الحزب الفائزين من الخدمة العامة بموجب أحكامٍ قضائية في فترةٍ سابقة، وهو ما جعل هؤلاء غير مؤهلين لشغل المنصب. وترى غوربي أن الحزب كان محقاً في نقض ذلك القرار لكونه “تعسفياً” بسبب قبول المجلس الأعلى للانتخابات أوراق المرشحين وعدم اعتراضه أثناء عملية تسجيل المرشحين.
معضلة حزب الشعب الجمهوري: بين الكمالية الاستبدادية والديمقراطية
يكمن أهم التساؤلات، بحسب ما تراه غوربي، فيما إذا كان حزب الشعب الجمهوري على استعداد للتعامل مع النتيجة التي تم تحقيقها بفضل دعم حزب الشعوب الديمقراطي على أنها فرصة للتخلي في نهاية المطاف عن موقفه الصارم والسائد تجاه الأكراد وحزب الشعوب الديمقراطي، وبما يكفل اتخاذ موقف ليبرالي اجتماعي ديمقراطي أصيل تجاه الأكراد والمطالب الكردية. وترى غوربي أن هذا الموقف سيكون كفيلاً بمنح حزب الشعب الجمهوري عدد أكبر من الفرص. إلا أن الحزب ما يزال حتى الآن بعيداً عن اتخاذ مثل هذا الموقف، خاصةً وأنه تجنّب التعبير العلني عن أي تعاون مع حزب الشعوب الديمقراطية.
ويعود هذا الموقف بالأساس إلى أسباب أيديولوجية. فحزب الشعب الجمهوري ينتمي تاريخياً لمؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، كما أنه يعتبر نفسه حتى يومنا هذا حارس الكمالية باعتبارها قاعدة الدولة الأيديولوجية. وتتسم هذه القاعدة في جوهرها بمركزية القومية التركية المتشددة التي تسعى منذ تأسيس الجمهورية الحديثة إلى إقامة دولةٍ استبدادية مهيمنة وتتمحور حول القومية التركية العلمانية الموحدة. ويعتبر هذا العنصر الأيديولوجي المسألة الكردية خطراً على القومية التركية ووحدة الأراضي التركية، وهو ما يدفع هذا الفكر لاتخاذ موقف معادٍ للأكراد. ورغم احتواء قاعدة الحزب الاجتماعية على عناصر ديمقراطية اجتماعية وكردية، فإن الهيمنة تبقى للقوى القومية الكمالية، ولذلك لم يتغلب الحزب بعد على هذا التوجه الأيديولوجي الجوهري. ولم يجرؤ الحزب أبداً على اتخاذ خطوات حاسمة في المسألة الكردية رغم توليه الحكم عدة مرات في العقود الماضية. وركز الحزب وفي “تقاريره” المتعلقة بوضع المناطق الجنوبية الشرقية من البلاد على جانبٍ واحد فقط وهو التهميش الاجتماعي الاقتصادي بوصفه عاملاً مؤججاً للصراع، متجاهلاً البعد السياسي للصراع التركي الكردي.
وتجدر الإشارة إلى توجيه حزب الشعب الجمهوري – أبرز أحزاب المعارضة – انتقاداتٍ كثيرة لعملية السلام التي يجريها الحزب الحاكم مع حزب العمال الكردستاني، خاصةً وأن هذه العملية مثّلت كسراً لإحدى المحرمات السياسية في تاريخ الجمهورية الحديثة. كما ظل حزب الشعب الجمهوري صامتاً إزاء ما تعرَض له حزب الشعوب الديمقراطية من قمعٍ وتهميش، بل إنه صوّت لرفع الحصانة البرلمانية عن هذا الحزب في مايو 2016. ودعم الحزب بحماس في الوقت نفسه الحملات العسكرية التي شنتها حكومة العدالة والتنمية على الأراضي الكردية في شمال سوريا والعراق رداً على مكاسب الأكراد وحزب العمال الكردستاني. وحتى التحالف الصامت مع حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات عمدة إسطنبول لم يُحتفى به علنياً باستثناء شكر الناخبين الأكراد الذين انتخبوا إمام أوغلو.
لذلك ما يزال حزب الشعب الجمهوري متردداً بين الاستبدادية الكمالية والرغبة في تعزيز الديمقراطية من جهة، والمحاولات المستمرة للتوفيق بين هذه المتناقضات من جهة أخرى. وتتجلى هذه العلاقة المعقدة بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي في مثل هذا السياق. وتختم غوربي مقالتها بالتالي: “إذا لم يقم حزب الشعب الجمهوري بحل هذه المعضلة واستبدال قيمه الأيديولوجية الاستبدادية بتفهمٍ ليبرالي للدولة والأمة وحماية الأقليات، فمن غير الوارد أن تشهد تركيا دعماً حقيقياً لتعزيز ديمقراطية البلاد أو حلاً للصراع الكردي. وقد ينتج عن ذلك تعاون انتقائي متبادل بين الحزبين. وما تزال نخب حزب الشعب الجمهوري تواجه تحدياً متواصلاً يتمثل في التغلب على أساس الحزب الأيديولوجي الذي تطوّر عبر التاريخ، وتعديله من خلال أجندة ديمقراطية اجتماعية حقيقية”.