نشر موقع “Open Democracy” مقالة سلطت الضوء على الاحتجاجات الأخيرة التي شهدها السودان والأسباب الكامنة وراء نشوئها على مدى ثلاثين عامٍ من الزمن. وتقوم هالة القريب، الناشطة السودانية والمديرة الإقليمية للمبادرة الاستراتيجية للمرأة في القرن الأفريقي، بسرد المعاناة التي تعرّض لها الشعب السوداني على مدى ٣٠ عاماً في مقالتها من منظورٍ شخصي.
وكان النظام السوداني الحالي قد استولى على السلطة منذ قرابة ٣٠ عاماً، وذلك عبر تنفيذ انقلابٍ عسكري في يونيو من عام ١٩٨٩. وفي ذلك الحين، عملت مجموعةٌ من النخب السياسية الإسلامية ضمت في صفوفها الجبهة الإسلامية القومية وحفنة من الضباط العسكريين المؤدلجين، على الإطاحة بحكومةٍ متعددة الأحزاب كانت تعاني في إدارة البلاد، وجاء ذلك تحت شعار الإنقاذ الوطني. ومنذ ذلك الحين، فقد تغيّر مستقبل هذه الدولة بطريقةٍ جذرية، واتخذ منعطفاً حاداً إلى الوراء.
وتبدأ القريب في هذا القسم من المقالة بسرد منظورها الشخصي تجاه تلك الأحداث، حيث تقول: “لم يتجاوز عمري حينها ٢١ عاماً، وشعرت أن حياتنا لن تعد كما كانت مرة أخرى. ما زلت أذكر ذلك اليوم في شتاء عام ١٩٩٠ عندما كنت في طريق العودة إلى حرم كلية التربية في أم درمان مع زميلي مبارك. في ذلك اليوم، كنت أحاكي الموضة السائدة في تلك الفترة: أذ كنت أرتدي تنورةٌ فضفاضة يصل طولها إلى تحت الركبتين، وكان شعري قصيراً يلتف حول وجهي، أما قميصي فقد كان قصيراً ينتهي بالضبط عند حزام تنورتي”.
وتضيف صاحبة المقالة: “أما مبارك فقد كان يرتدي الجينز وقميص دمور واسع عندما أوقفتنا الشرطة عشوائياً ونقلتنا إلى أحد مراكزها. في ذلك الوقت، كنا في طريق العودة من أحد الاجتماعات السياسية التي تم عقدها داخل حرم الجامعة. وانتابني حينها القلق بسبب دفتر الملاحظات الصغير الذي كان يتواجد في حقيبتي، ناهيك عن احتمال وجود أي وثائق سياسية مع مبارك. إلا أن الدهشة أصابتنا عندما عرفنا أن سبب توقيفنا ليس له أي علاقة بنشاطنا السياسي. وعلى العكس من تصوراتنا، فقد قامت الشرطة باستجوابي حول قميصي القصير، والأكمام القصيرة، والشعر المكشوف. أما مبارك، فقد تم استجوابه عن خلفيته فحسب، وعن مدينته، ولماذا يتجول صبي من النوبة مع فتاة من وسط السودان؟”.
وتتابع القريب: “بات من الواضح لي منذ تلك اللحظة أننا نخوض في غمار حقبةٍ سياسية جديدة. لقد فكّك النظام الجديد ما كانت النخب السودانية الحاكمة تسمو للوصول إليه في أعقاب فترة ما بعد الاستعمار، إذ كان الهدف حينها تأسيس نظام سياسي يستند إلى حدٍّ كبير للسياسة المدنية. ولا يعني هذا الأمر أن الحكومات السودانية السابقة لم يكن لها إخفاقاتها الخاصة. فقد كان سوء معاملة شعب جنوب السودان من المآسي المزمنة التي قضّت مضجع السودان، ناهيك عمّا كان يعتري الديمقراطية من هشاشة. وقد استغل انقلاب عام ١٩٨٩ نقاط الضعف تلك استغلالاً شديداً”.
وكانت الجبهة الإسلامية القومية العقل المدبر للانقلاب العسكري، علماً بأن الجبهة تعتبر من الفروع التابعة لجماعة الإخوان المسلمين في السودان. وعلى الرغم من انتمائها فكرياً للإخوان المسلمين، إلا أن الجبهة الإسلامية القومية استلهمت نظام حكمها بوضوح من نموذج الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ يتألف هذا النظام من مرشدٍ أعلى (يُفترض أنه حسن الترابي)، فضلاً عن هيئةٍ تنفيذية من العسكريين والمدنيين السياسيين التابعين للجبهة القومية الإسلامية.
ولطالما كان الإسلام مرجعية مركزية ورمزية للشعب السوداني الذي يشكل المسلمون غالبيته العظمى. وتجدر الإشارة إلى هوية هؤلاء تدور بشكلٍ كبير حول إيمانهم، وهو ما يربط أيضاً بين السودانيين كأمة هجينة الطابع.
وتقول القريب: “يتّبع معظم المسلمين السودانيين التقاليد الصوفية الشمالية والغربية الأفريقية، والتي تأصلت في هوية السودانيين ونهجهم في الحياة. وتمثل الصفات المماثلة للتحمّل، والتسامح، والروحانية، والتنوع قيماً مركزية في معظم التعاليم الصوفية. وبطبيعة الحال، لم يكن من السهل فرض إيديولوجية عنيفة وقمعية وغريبة كتلك النسخة من الإسلام المتشدد على شعب السودان، ما دفع الجبهة الإسلامية القومية إلى تتّبع مسار الأنظمة الفاشية واتخاذ العنف نهجاً للنظام”.
ومنذ ذلك الحين، دخل السودان في حقبةٍ مظلمة من التاريخ لطختها سياسات الهوية والتشدد الديني التي تم بموجبها شيطنة النساء لجنسهن. وقد تزامن ذلك مع فرض حالة إقصاءٍ وإذلال واضطهادٍ علنية على الفقراء والأقليات العرقية.
وترى القريب أن النظام السوداني استغل على مدى ثلاثين عاماً نقطتي ضغطٍ رئيسيتين لشلّ المجتمع السوداني ألا وهما: المرأة والعلاقات بين الجنسين من جهة، والقبلية والهوية العرقية من جهةٍ أخرى. وعرف النظام بوضوح أن هذين العاملين من مظاهر المجتمع السوداني التي بقيت دون ضمن حدود الأمة الشابة المختلطة. واختارت بعد ذلك الجبهة الإسلامية القومية الاعتماد على أقوى منهجية تستطيع من خلالها إثارة سياساتها الاستقطابية، وكان ذلك عبر اللجوء إلى الدين الإسلامي، وقد آتت هذه الوسيلة أُكُلها.
وتقول القريب: “على مدار ٣٠ عاماً، بسطت الجبهة الإسلامية القومية قبضتها على البلاد باسم الدين. وأرهبت الجبهة الشعب السوداني، بالتزامن مع قتل وتعذيب منتقدي النظام، وجلد وإهانة النساء والرجال”. وتضيف صاحبة المقالة: “لقد قامت الجبهة بتحدي قيمنا التقليدية وإيماننا، ونشرت كره النساء والعنصرية. وطبّق النظام مشروعاً اجتماعياً واقتصادياً شاملاً يقوم على الهيمنة الكلية، وكان ذلك عبر السيطرة على جميع موارد البلاد”.
وقام النظام والجبهة بتطويع القانون بهدف ترويع المجتمع وإدماج نسخة عنيفة من الدين في قوانين السودان والتعليم. ولم يكن للقوانين التي تم سنّها أي أساس في الدين أو التقليد الإسلامي. وكانت الأحداث الإرهابية التي دبرها النظام السوداني عبثية ومستمرة.
وأضرّت أفعال الجبهة الإسلامية القومية بصورةٍ بالغة بالخدمات العامة والتعليم في السودان، ناهيك عن أنها أدت بصفةٍ مباشرة إلى انهيار أهم المؤسسات العامة في السودان. وفرَّ الملايين من البلاد، ما جعل السودان من أبرز الدول التي تعاني على مستوى الهجرة. وجاء ذلك في الوقت الذي بدأ فيه النظام بشنّ سلسلةٍ من الحروب على شعبه.
ووصل عدد القتلى والنازحين إلى ملايين الأشخاص في دارفور عام ٢٠٠٣. ومنذ عام ٢٠١١، أضافت الجبهة الإسلامية القومية إلى سجلها حروباً في مناطق النيل الأزرق وجبال النوبة، حيث روعت وقتلت المدنيين لقرابة عقدٍ من الزمن. وعلى الرغم من هذه الفظائع، فإن نظام الجبهة القومية الإسلامية لا يصوِّر نفسه باعتباره حارساً للعقيدة الإسلامية على المستوى القومي فحسب، بل والدولي أيضاً، ليزرع بأفعاله بذور الجماعات الإرهابية الإسلامية المماثلة لجماعة “بوكو حرام” وحركة “الشباب”.
وتختم القريب مقالتها بالتالي: “الآن تنتهي سنوات الغرور والفساد والظلم والعنف الممنهج ضد المدنيين. فقد تكلم الناس وكشفوا حقيقة طغاة الجمود والتشدد. ولم يعد بإمكانهم الاختباء بعد الآن. الشباب السوداني يهتف: يسقط تجار الدين. فليسقط النظام، وهو يمر بالفعل في حالة تداعٍ، والسودانيون مستعدون تماماً لاستعادة بلدهم”.