ماجد كيالي
دخل الفلسطينيون في تجربة تفاوضية مع إسرائيل، اتسمت بكونها طويلة ومعقدة ومضنية. ومع ذلك، فهي اتسمت على نحو خاص بإخفاقها في إيجاد حلول لقضايا التصارع بين الطرفين، رغم توقيع اتفاق أوسلو (1993) وملاحقه الاقتصادية والأمنية، منذ 28 عاما، علما أن ذلك الاتفاق قسّم المفاوضات إلى مرحلتين: انتقالية، تتعلق بإقامة كيان فلسطيني في جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ونهائية، تتعلق بإيجاد حلول لقضايا اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والترتيبات الأمنية؛ التي لم يتم التوصل بشأنها إلى أي تفاهم، وحتى إن إسرائيل لم تنفذ الاستحقاقات المطلوبة منها في المرحلة الانتقالية.
وتفيد تلك التجربة، أيضا، برفض إسرائيل تدخل أي طرف في شأن مفاوضاتها مع الفلسطينيين، من الأمم المتحدة الى أوروبا، التي كانت تجد إنهما لا يتكيفا مع تعريفها لأوضاعها ومصالحها. وفي كل ذلك، كان الفلسطينيون عرضة لاستفراد إسرائيل، وتحت رحمة ابتزازاتها. فهي التي تقرر ما تعطيه وما لا تعطيه، وما تبحثه وما لا تبحثه في المفاوضات. فليس ثمة مرجعية قانونية أو دولية، بالنسبة الى إسرائيل.
هكذا، فإن إسرائيل المجنونة بالتفاصيل التفاوضية استطاعت تحويل عملية المفاوضات الى متاهة يصعب التحرك في دهاليزها، كما يصعب الخروج منها. ودليل ذلك إن التسوية، التي يفترض أنها تتطلب إنهاء الاحتلال للضفة والقطاع، باتت تتطلب مئات الصفحات من اتفاقات ومذكرات وبروتوكولات، ومئات المفاوضين، والجلسات التفاوضية الطويلة، الثنائية والمتعددة والدولية!
مثلا، بالنسبة الى الأراضي فقد باتت الضفة الغربية في اتفاقات أوسلو (1993) مقسمة الى مناطق (أ، ب، ج)، وكل منطقة لها بروتوكول خاص بها. وهناك أراض فيها مصالح إسرائيلية أمنية أو مائية أو دينية. وبالنسبة الى المستوطنات، باتت تصنّف الى كتل استيطانية، ومستوطنات أمنية، وأخرى عشوائية، ومستوطنات شرعية وغير شرعية! من دون أن ندخل الى قضايا تبدو مستحيلة كقضيتي القدس واللاجئين والحدود.
أيضا، طوال تلك الفترة ظلت إسرائيل تتعمد شراء الوقت، ولا تيأس من توليد الاتفاق تلو الاتفاق، والمذكرة تلو الأخرى، والبروتوكول بعد البروتوكول، حول أي قضية، في حين تتصرف وكأن وجودها كاحتلال باق الى الأبد في هذه الأراضي، بدليل مضاعفة أعداد المستوطنين والمستوطنات، في الضفة الغربية لا سيما في منطقة القدس، وبدليل تغيير معالم هذه المناطق من خلال شق الطرق الالتفافية والأمنية وإقامة المعابر، وتشييد الجدار الفاصل، الذي يعزل المناطق الفلسطينية ويطوقها، ويفصل تواصلها.
ويستنتج من ذلك أن إسرائيل هي التي عوّقت هذه العملية، وتملصت من استحقاقاتها، على رغم كل الإجحاف الكامن فيها بالنسبة الى حقوق الفلسطينيين، على خلاف الانطباع السائد، في الساحة العربية، بأن إسرائيل تلهث وراء التسوية، وأن هذه التسوية (على علاتها) مطلب إسرائيلي.
الجدير ذكره هنا أن التجارب التفاوضية التاريخية في العالم تفيد بأن التسويات لا تتحقق بالتوسلات والمناشدات، وإنما هي تتطلب تواجد عدة ظروف، أو شروط، من مثل قيام نوع من التكافؤ ولو النسبي في موازين القوى بين الأطراف المعنية (وهذه لا تشمل فقط القوة العسكرية)، وتوفّر عوامل دولية وإقليمية ضاغطة، تأخذ على عاتقها احتضان عملية التسوية وفرضها على الأطراف المعنية. كما يتطلب ذلك تخليق حالة مجتمعية، عند الأطراف المعنية، لها مصلحة في التسوية وتدفع إليها، لاعتبارات عديدة، منها ارتفاع كلفة حال العداء أو الاحتلال (من النواحي الأخلاقية والاقتصادية والسياسية وليس البشرية فقط)، أو لاقتناع مجتمع المستعمِرين بضرورة التحرّر من علاقات الاحتلال، إن لتطور في الثقافة السياسية والأخلاقية عندهم، أو بسبب ارتداد تداعياته عليهم. هكذا، حصلت تسويات الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الباردة، وهكذا انتهت النظم الاستعمارية في آسيا وإفريقيا، وهكذا تمت تصفية نظام التمييز العنصري «الأبارتهايد» في جنوب إفريقيا.
الآن، إذا حاولنا ترجمة كل ما تقدم على واقع التجربة التفاوضية الفلسطينية ـ الإسرائيلية، سنجد إنها خلت من أي عامل من العوامل المذكورة آنفاً. فليس ثمة أي تكافؤ في موازين القوى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولا عوامل دولية وإقليمية (وعربية) تضغط على إسرائيل، من أجل حضّها على عملية التسوية؛ ولو وفق قرارات الشرعية الدولية (برغم الإجحافات المتضمنة فيها بالنسبة لحقوق الفلسطينيين).
أما بما يتعلق بقبول المجتمعين المعنيين للتسوية، فمن الواضح أن القيادة الفلسطينية استطاعت أن تجعل برنامج التسوية مقبولاً من قبل قطاعات واسعة من الفلسطينيين. وفوق ذلك فإن الحركة الوطنية الفلسطينية، وبنتيجة تحولها من حركة تحرر إلى سلطة، استطاعت أن تخلق واقعاً من الاحتلال المريح لإسرائيل (بوهم التسوية)، ما جعل هذا الاحتلال أرخص احتلال عرفه التاريخ (بحسب تصريح الرئيس محمود عباس!)؛ بحيث أن إسرائيل بقيت قوة احتلال مع تحررها من أعباء الاحتلال. لكن مقابل ذلك من الواضح أن المجتمع الإسرائيلي (بتياراته السياسية) لم يتجاوب إلى الدرجة المناسبة مع هذا الواقع، الذي يعد فرصة استثنائية له، لتشريع وجود إسرائيل في المنطقة، وإنما على العكس، فقد سار هذا المجتمع باتجاه التشدد والتطرف. هكذا بتنا نشهد كيف أن الإسرائيليين يصرون على استمرار الاستيطان في الضفة وينتهجون ممارسات مغرقة في عنصريتها ضد الفلسطينيين (حتى من مواطني إسرائيل)، بدعوى الحفاظ على يهودية إسرائيل.
ومعنى ذلك أن واقع الاحتلال المريح، وتوجه الفلسطينيين نحو التسوية، لم يخلق التداعيات اللازمة لخلق ثقافة تسوية (ولو نسبية) عند غالبية الإسرائيليين، بل إنه شجع هؤلاء على المزيد من التشدد، القومي والديني، لإنفاذ السياسات الاستعمارية والعنصرية والقهرية ضد الفلسطينيين.
باختصار تلك ليست مفاوضات وإنما إملاء، بين طرفين غير متكافئين، سيما إنها تفتقد لعنصري الحقيقة والعدالة (ولو النسبيين). وهي مجرد مفاوضات لتسوية مؤقتة وسطحية. ولذا، يصعب أن ينجم عنها سلام عادل وشامل ودائم وفق تلك المعطيات.
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.