وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

السودان: الديمقراطية والانقلاب العسكري (1958 – 1983)

الديمقراطية والانقلاب
استقلال السودان، رفع العلم في الأول من يناير 1956 من قبل رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري وزعيم المعارضة محمد أحمد محجوب. Photo Sudan Films Unit / Flickr.

المقدمة

إنّ أول حكومة سودانية مستقلة كانت قصيرة الأجل: استولى الجيش على السُلطة في انقلابٍ عسكري بعد عامين فقط من الديمقراطية الليبرالية. واجهت الحكومة المستقلة قضايا معقدة؛ مثل التخلص من الحكم الثنائي ومشكلة الدستور. أدّى عدم وجود دستور جديد بعد الاستقلال إلى استمرار حُكم البلاد من قِبل دستور الحكم الذاتي للإدارة البريطانية لعام 1953، ولكن مع بعض التعديلات الطفيفة. كما كان التمرد في الجنوب أحد القضايا المؤرقة إلى جانب المشاكل الاقتصادية الناجمة عن المشاريع الزراعية وخسارة الدعم المالي المصري الذي كان جزءاً من اتفاق الحكم الثنائي، وقضية المساعدات الاقتصادية الأمريكية، التي عارضتها بشدة النقابات اليسارية باعتبارها انتهاكاً لسياسة عدم الانحياز ما بعد الاستعمار، بالإضافة إلى الصراعات الأيديولوجية بين مختلف الأحزاب السياسية.

فشلت الأحزاب السياسية في إيجاد حلٍ دستوري لحكم البلاد، وطالبت الأحزاب الجنوبية بالوحدة. كما نكثت الحكومة بوعودها للجنوبيين بمنحهم حصة من المكاتب في خضم سودنة الجيش والخدمات المدنية، والتي تقتضي باستبدال الإدارة الاستعمارية البريطانية. مُنحت ستة مناصب عُليا فقط من أصل 800 للجنوبيين. خسرت حكومة الأزهري التأييد في البرلمان، وتم تشكيل حكومة جديدة بقيادة حزب الأمة. واجهت الحكومة الجديدة أزمة حدودٍ مع مصر، في حلايب، بالإضافة إلى معارضة واسعة للمساعدات الأمريكية المقترحة، في سياق الحرب الباردة. دفعت مناورات الحزب الاتحادي لتولي السُلطة مجدداً، رئيس الوزراء التابع لحزب الأمة تسليم السُلطة للجيش.

الانقلاب العسكري في عام 1958

قاد الفريق ابراهيم عبود الانقلاب في 17 نوفمبر 1958. أوقفت الحكومة العمل بالدستور وحظرت الأحزاب السياسية. ركزت الحكومة العسكرية على سنّ القوانين للحكومة المحلية كخطوة نحو دستور، بدلاً من صياغة دستورٍ جديد، ولكن لم يتم ذلك أبداً. لم يكن لدى الحكومة حلٌ لمشكلة الجنوب إلا التبشير بهزيمة المتمردين. ومع ذلك، تم تعيين بعض الجنوبيين في مناصب قيادية. وفي الوقت نفسه، كانت المعارضة الجنوبية تنشط في الخارج واقترحت الفيدرالية لحل المشكلة. احتدمت الحرب، وفي يوليو 1963 ظهرت حركة أنيانيا، بقيادة جوزيف لاقو، الذي فضل الانسحاب. واصل النظام الحرب ولم يقبل بأي مُقترح لحل الأزمة.

حاولت الحكومة العسكرية معالجة قضية التنمية، حيث قبلت بالمساعدات الأمريكية وتبنت خطة لمدة عشر سنوات. تم التوصل إلى اتفاقٍ جديد بشأن مياه النيل مع مصر في عام 1959، الذي بموجبه لم تعترف مصر فحسب، بل أظهرت أيضاً توافقها مع سودان مستقل. تمّت زيادة حصة السودان من مياه النيل.
دعت الأحزاب السياسية المعارضة لاستعادة الديمقراطية. نجحت المعارضة في نهاية المطاف في إسقاط النظام العسكري خلال الانتفاضة الشعبية في أكتوبر عام 1964. واستقال الفريق عبود وحل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتشكّلت حكومة مؤقتة تعمل بموجب الدستور المؤقت لعام 1956.

الديمقراطية الثانية 1969-1965

قاد المهنييون والعمّال المتطرفون، الذين طالبوا بإصلاحاتٍ اجتماعية اقتصادية عميقة لتعزيز الديمقراطية، النصر على النظام العسكري. عادت الأحزاب السياسية وتنافست في الانتخابات التي عقدتها الحكومة الانتقالية في أبريل ومايو من عام 1965. تشكلت حكومة ائتلافية برئاسة السياسي البارز في حزب الأمة، محمد أحمد محجوب، في يونيو 1965.

ظهرت قوى جديدة خلال الانتخابات، مثل الأحزاب الاقليمية لمؤتمر البجا واتحاد جبال النوبة. وفي الوقت نفسه، انقسم حزب الأمة لفصيل يقوده الصادق المهدي، حفيد المهدي، والآخر بقيادة عمّه الهادي المهدي، في حين توحّدت النقابات مُشكّلةً الحزب الاتحادي الديمقراطي. أصبح الصادق رئيساً للوزراء في عام 1966، من خلال التحالف مع فصيل من النقابيين والمعروف باسم الحزب الوطني الاتحادي، الذي انشق عن الحزب الاتحادي الديمقراطي. كانت أهم قضايا هذه المرحلة الحرب في الجنوب، وحلّ الحزب الشيوعي السوداني، وطرد أعضائه من البرلمان، والخلاف حول الدستور، وتدهور الاقتصاد.

الانقلاب العسكري الثاني 1985-1969

استولت مجموعة من الضباط الشباب بقيادة العقيد جعفر محمد نميري على الحكومة في 25 مايو 1969. وتمّ تشكيل مجلس قيادة الثورة برئاسة نميري. علّق مجلس قيادة الثورة الدستور الانتقالي، وحظرالأحزاب السياسية، وألقى القبض على بعض السياسيين.

تشكلت حكومة جديدة لتنفيذ توجيهات السياسة العامة لمجلس قيادة الثورة، إذ كان تسعة من أعضاء مجلس الوزراء من الشيوعيين المزعومين.
طالبت قوى تقليدية، بقيادة طائفة الأنصار، عودة الحكومة الديمقراطية، واستبعاد الشيوعيين من السُلطة، وإنهاء حكم مجلس قيادة الثورة. وفي مارس 1970، اندلع القتال بين النظام والأنصار، مما أسفر عن مقتل حوالي 3,000 شخص.

سرعان ما انقلب نميري ضد الحزب الشيوعي السوداني،وفي مارس 1971، وضع النقابات تحت سيطرة الحكومة، كماحظر المنظمات الطلابية والنسائية والمهنية التابعة للشيوعيين.
في 19 يوليو 1971، شن الحزب الشيوعي السوداني انقلاباً ضد نميري، بقيادة الرائد هاشم العطا. فشل الانقلاب، وتم اعتقال العطا. أمر نميري باعتقال مئات الشيوعيين وأعدم في وقتٍ لاحق أمين الحزب الشيوعي السوداني وبعض المدنيين والقادة العسكريين.

نص الدستور المؤقت، الذي تمت المصادقة عليه في أغسطس 1971، على استبدال مجلس قيادة الثورة بنظام حكم رئاسي، حيثانتخب نميري رئيساً للبلاد لولاية مدتها ست سنوات.
وفي عام 1971، جلس السودانييون الجنوبيون على طاولة الحوار مع الحكومة السودانية لمناقشة مقترحات الحكم الذاتي الإقليمي ووقف الأعمال العدائية. تمّ التوقيع على اتفاقية أديس أبابا في 27 فبراير 1972، منهيةً صراعاً استمر لـ17 عاماً بين أنيانيا والجيش السوداني، فضلاً عن إنشاء الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب.

في يوليو 1977، تمّ التوصل إلى اتفاق مصالحة وطنية بين الرئيس نميري وزعيم الأنصار، المهدي، ليعود بموجبه حسن الترابي، زعيم جماعة الإخوان المسلمين، من المنفى، حيث واصل نشاطه في الحياة السياسية حتى وفاته في 5 مارس 2016 بسكتة دماغية.

حوّل نميري الدفة بقوة نحو الإخوان المسلمين للحصول على التأييد. عيّن حسن الترابي في منصب المدعي العام، الذي استحدث دستوراً جديداً يستند إلى الشريعة. وفي سبتمبر 1983، عدّل نميري قوانين العقوبات لتتوافق مع الشريعة الإسلامية، إذ رُفض هذا الإجراء من قِبل المسيحيين والوثنيين في جنوب السودان، ومن بعض العلمانيين في الشمال. وعلاوة على ذلك، قسّم نميري مجدداً المنطقة الجنوبية، من طرفٍ واحد، إلى ثلاث مقاطعات، وبذلك أبطل فعلياً اتفاقية أديس أبابا. تدهورت الأوضاع، واندلعت حربًا جديدةً عام 1983 بقيادة الدكتور جون قرنق من حركة/جيش تحرير السودان. كان الوضع الاقتصادي مروعاً، وقد تجلى ذلك في التضخم والديون والبطالة.