منذ أن أعلن دونالد ترامب ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة، تابع العالم عن كثبٍ خطابه الذي وعد فيه بمسح تنظيم الدولة الإسلامية من على وجه الأرض. ولكن منذ توليه منصبه في يناير 2017، أصبح عنوان نهجه، بشكلٍ متزايد، عدم التدخل، ومع عدم وجود أي مؤشراتٍ على تنفيذ خطته الموعودة التي من شأنها تدمير الجماعة المتطرفة في غضون شهر، سلّم المزيد من السلطة لجنرالاته.
وفي مايو 2017، أعلن وزير الدفاع والجنرال الأمريكي السابق في سلاح البحرية، الجنرال جيمس ماتيس، عن لامركزية كبرى للسلطة، حيث تم تفويض القادة العسكريين في ساحة المعركة اتخاذ القرارات في حملة تحرير مدينة الرقة السورية من داعش. رافق هذه الخطوة تسارعٌ في الحملة الأمريكية، بعد نشر المدفعية الأمريكية لدعم هجوم القوات الكردية لاستعادة الرقة. فهناك حوالي 900 فرد من القوات الأمريكية المنتشرة في كلٍ من شمال سوريا التي يسيطر عليها الأكراد فضلً عن القوات المتمركزة مع قوات الجيش السوري الحر في جنوب سوريا.
ولم تكن هذه اللامركزية في السلطة دون عواقب، إذ يُشير إرتفاع أعداد القتلى المدنيين والنهج الأكثر تكتيكاً للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط إلى ما قد يكون إرث ترامب الحقيقي في المنطقة. فقد واجه الجيش الامريكي انتقاداتٍ بشأن الضحايا المدنيين خلال حملاته التى استمرت عقوداً في العراق وأفغانستان. ومع ذلك، يبدو أن الأمر عاد ليتصدر عناوين الصحف مجدداً، فوفيات المدنيين ملحوظة بشكلٍ خاص في كلٍ من الرقة والموصل في العراق، حيث تضاعفت الغارات الجوية التي تقودها الولايات المتحدة على مواقع لداعش منذ تولي ترامب منصبه. ففي عام 2016، قتل 555 مدنياً في غاراتٍ جوية بقيادة الولايات المتحدة في الموصل. وفي الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2017، بلغ هذا الرقم بالفعل 1793 وفاة.
ومع ذلك، يُطابق هذا أيضاً قرارٌ إتخذ في الأسابيع الأخيرة لإدارة أوباما والذي اقتضى تخفيف قواعد الاستهداف، وإعطاء القادة على الأرض المزيد من الإستقلالية بشن الغارات الجوية. وبغض النظر عن ذلك، قارنت هيئات الرقابة المدنية المستقلة الارتفاع في وفيات المدنيين تحت إدارة ترامب، بأسوأ مستوياتٍ للوفيات بين المدنيين التي تسببت بها روسيا في سوريا.
ومنذ سقوط الموصل في يوليو 2017، أصبحت إستعادة الرقة “الأولوية الأولى” بالنسبة للجيش الأمريكي، على الرغم من أن كبار الجنرالات رفضوا وضع جدولٍ زمني للحملة. وقد استغرق الأمر القوات العراقية أكثر من ثمانية أشهر لتحرير الموصل. غير أنه مما يُثير القلق، أن مسؤولاً كبيراً في مكافحة الإرهاب في إدارة ترامب إعترف في شهر أبريل 2017، بأن البيت الأبيض لا يمتلك خطةً طويلة الأجل في حال تحرير الرقة.
فقد شهد نهج ترامب في العمل العسكري تحولاً كبيراً عن نهج سلفه، حيث اشتهرت إدارة أوباما بإدارتها التفصيلية للجيش، حيث كان مسؤولو البيت الأبيض يتدخلون بشكلٍ منتظم في التفاصيل الدقيقة للعمليات، الأمر الذي كان يُغضب القادة العسكريين. وقد انتُقد هذا النهج لإحتمالية إعاقته الأعمال عالية الخطورة التي يقوم بها القادة العسكريون، إلا أنه كثيراً ما كان يُدفع برغبةٍ في رؤية أعدادٍ أقل من الضحايا المدنيين، قدر الإمكان، في رقبة الأمريكيين. في الواقع، في ظل حكم أوباما، تم تأييد مبدأ “ضبط النفس بشجاعة” – الذي يعطي الأولوية لحماية المدنيين على قتل العدو. وفي حين أن مؤيدي ترامب لنهج إدارة عدم التدخل يرحبون بإمكانية اتخاذ قراراتٍ عسكرية أسرع وأكثر عملية، يشير النقاد إلى الانتهاكات في فيتنام وما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي مكنت الإفتقار إلى الرقابة.
وعلى صعيدٍ متصل، انتقدت هيومن رايتس ووتش إستخدام ذخائر الفسفور الأبيض في الحملة الأمريكية في سوريا، مشيرةً إلى التهديد الذي يتعرض له السكان المدنيون. وتستخدم قذائف المدفعية هذه عادةً لتأثير غير مميت على ساحة المعركة (التي تُعرف بذخائر الستائر الدخانية)، إلا أنها تحترق في درجات حرارة عالية جداً وتشكل تهديدات خطيرة على السكان المدنيين عند استخدامها في المناطق الحضرية كثيفة السكان.
ووفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر، وقع نحو 70% من إجمالي الوفيات في ساحة القتال في سوريا والعراق في المدن، مما يعزز المطالبة بضبط النفس في الحملة التي تدعمها الولايات المتحدة في الرقة.
وكما هو الحال غالباً في منبر سياسة ترامب، تظهر شخصيته في مقدمة ووسط الجهود الأمريكية في سوريا. فبعد عرض الخطة العسكرية، التي طال انتظارها، لهزيمة داعش، رفضها ترامب في يوليو 2017 لتشابهها الكبير مع خطة باراك أوباما. ويتردد القادة العسكريون في تغيير الاستراتيجية الحالية، التي يبدو أنها فعّالة. بيد أن هؤلاء القادة أنفسهم رفضوا استبعاد زيادة القوات، وأصبح الوجود الأمريكي اليوم في سوريا يتضمن القوات الخاصة والدعم المدفعي في الصحراء الجنوبية.
وفي الوقت الذي تقطع فيه واشنطن علاقاتها، ودعمها، لجماعات المعارضة المعتدلة، يبدو أن الأهداف العسكرية لإدارة أمريكا أولاً، بدلاً من الاعتبارات المتعلقة بما سيأتي بعد القتال، الأكثر أهمية في سياسة الولايات المتحدة في سوريا. ويبدو أن خبراء التكتيكات العسكرية، وليس الاستراتيجيين السياسيين، من يملكون اليد العليا. فبالنسبة لبلدٍ يتمتع اليوم بسجلٍ سيء السمعة بانتصاراته السريعة في ساحة المعركة وهزائمه البطيئة والمؤلمة بعد إنهاء القتال، يدعو هذا الأمر إلى القلق.
وعلى الرغم من التصريحات المتكررة من واشنطن بأن هزيمة داعش لا يزال هدفها الوحيد في سوريا، فإن احتلال الرقة والمناطق متعددة الأعراق المحيطة بها في شمال شرق سوريا من قبل القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، يمكن أن يتسبب بمشكلةٍ سياسية للبلاد بمجرد توقف القتال. بيد أن الجيش الأمريكي يتطلع إلى الاستفادة من مناطق النفوذ والسيطرة الجديدة في المناطق بعيدة المنال.