من المرجح أن يؤدي نهج ترامب إلى تعزيز العلاقات مع دول الخليج مع الابتعاد أكثر عن الجهود الرامية إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي من خلال أطر السلام التقليدية.

علي نور الدين
في الـ 20 من يناير/كانون الثاني 2025، سيترقّب العالم مراسم تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس، لتدخل السياسة الخارجيّة الأميركيّة منذ تلك اللّحظة في مرحلة جديدة تمامًا.
وقد يبدو من الصعب في هذه اللّحظة توقّع جميع المقاربات التي ستعتمدها الإدارة الأميركيّة الجديدة، في ملفّات الشرق الأوسط، بالنظر إلى طباع ترامب التي تجعله غير قابل للتبّؤ إلى حدٍ بعيد. كما سيصعب تكرار ترامب السياسة الخارجيّة نفسها التي اعتمدها في ولايته السابقة، بعد كافة التغيّرات التي طرأت على المنطقة منذ ذلك الوقت.
ومع ذلك، أصبح من الممكن تلمّس المعالم الرئيسة لسياسات الإدارة الأميركيّة المقبلة، عبر مراجعة أبرز الأسماء التي جرى تعيينها في تلك الإدارة. الملفت للنظر اليوم، هو أنّ التحوّلات التي ستطرأ جرّاء التغيير في الإدارة الأميركيّة، تتزامن مع مرور الشرق الأوسط بمنعطفات تاريخيّة كبرى، في أعقاب انتهاء الحرب الإسرائيليّة على لبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا.
وبهذا الشكل، سيكون على الإدارة الأميركيّة الجديدة التعامل مع واقع مستجد وآخذ بالتبدّل بسرعة، بمعزل عن الآراء المُسبقة التي تحملها شخصيّات هذه الإدارة.
إيران تنتظر ترامب بقلق
منذ الإعلان عن فوز ترامب وحتّى اليوم، عانى الريال الإيراني من انخفاضات سريعة ومتتالية في سعر صرفه، ليخسر أكثر من 10% من قيمته خلال فترة لا تتجاوز الشهرين. هكذا، عبّرت الأسواق الإيرانيّة عن توجّسها الشديد من عودة ترامب، المعروف بانتهاجه مبدأ ممارسة الضغوط القصوى على طهران، في مواجهة المشروع النووي الإيراني والأنشطة الإقليميّة للحرس الثوري.
ومن المعلوم أن ترامب هو المسؤول عن إسقاط الاتفاق النووي مع إيران عام 2018، وهو ما أفضى إلى إعادة العمل بالعقوبات المفروضة على طهران منذ ذلك الوقت.
في واقع الأمر، تلقّفت طهران بقلقٍ بالغ نبأ اختيار ترامب لشخصيّة متشدّدة هي مايك والتز، لمنصب مستشار الأمن القومي في الإدارة الأميركيّة. وفي أولى المقابلات التي قام بها بعد تعيينه، كان والتز صريحًا بخصوص المقاربة التي يؤمن بها إزاء إيران، إذ عبّر عن ضرورة “تقييد” أموال طهران ونفطها بشكل أقسى، والعودة إلى مبدأ “الضغط الأقصى” عليها.
وبذلك، كان والتز ملتزمًا بالوجهة العامّة داخل إدارة ترامب، التي تعتبر أن بايدن لم يكن صارمًا بما فيه الكفاية إزاء الملف الإيراني.
تتزامن عودة ترامب مع جملة من الأحداث التي جعلت إيران مكشوفة للغاية، إزاء المخاطر الإقليميّة المحيطة بها. فبسقوط نظام الأسد، فقدت إيران حليفًا أمّن للحرس الثوري القدرة على توريد السلاح لحزب الله في لبنان. وحزب الله نفسه، خرج من الحرب الإسرائيليّة على لبنان منهكًا، ومضطرًا للموافقة على تنازلات في اتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين.
وعلى الساحة العراقيّة، بات ثمّة توجّه شيعي يقضي بالابتعاد عن المواجهات الإقليميّة والتدخلات الخارجيّة (بما فيها الإيرانيّة)، التي يمكن أن تورّط العراق في معارك خارج الحدود.
ضربة عسكريّة للمشروع النووي الإيراني؟
هكذا ستتقاطع الضغوط الأميركيّة المستجدة على إيران مع فقدان الحرس الثوري للكثير من أوراق القوّة والردع، على المستوى الإقليمي. وبعض التحليلات، باتت ترى أنّ الفرصة ستكون سانحة أمام رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، لتنفيذ حلمه التاريخي، وتوجيه ضربة عسكريّة تُجهز على المشروع النووي الإيراني.
ففي نهاية الأمر، حين أيّد نتنياهو إلغاء الاتفاق النووي الإيراني منذ البداية، كان يراهن على حلول عسكريّة يمكن تنفيذها ذات يوم، بدل الاكتفاء بتقييد البرنامج النووي الإيراني بالحلول الدبلوماسي. ووصول ترامب، الذي عارض أيضًا الاتفاق النووي وألغاه، يمكن أن يكون الفرصة المناسبة لنتنياهو، لضرب إيران بعدما حاصرتها التطوّرات الإقليميّة الأخيرة.
وسط جميع هذه المخاطر، تعاني إيران من ظروف داخليّة تجعلها أقل حصانة إزاء كل هذه الضغوط. فخلال شهر ديسمبر/كانون الأوّل 2024، اضطرّت البلاد لإقفال المصانع والمؤسسات التعليميّة والإدارات العامّة، لتخفيف الحاجة إلى الكهرباء. وجاءت تلك التطوّرات مدفوعة بتراجع إمدادات البلاد من الغاز الطبيعي، وهو ما فرض إطفاء معامل الطاقة، لتلافي قطع الغاز عن المنازل.
ولذلك، باتت كل هذه التطوّرات تزيد من استياء الرأي العام الإيراني، وهو ما أجبر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على تقديم الاعتذار العلني لشعبه.
السؤال الأساس حاليًا، يتمحور حول مدى استعداد إدارة ترامب لاستغلال جميع هذه الظروف، من أجل إعطاء إسرائيل الضوء الأخضر، وضرب البرنامج النووي الإيراني. إدارة ترامب مليئة بالصقور الذين يرغبون بالتخلّص من هذا البرنامج النووي، غير أنّ هذه الإدارة قد تختار استبدال الضربة العسكريّة بالمزيد من العقوبات، الهادفة إلى إضعاف النظام وتقويضه من الداخل.
بين الاحتمالين، والمؤكد هو أن وصول ترامب سيعني المزيد من المصاعب التي سيواجهها النظام الإيراني.
إسرائيل والمشروع الاستيطاني
في التعيينات التي قام بها ترامب، يظهر سريعًا إسم ماركو روبيو لمنصب وزير الخارجيّة. وروبيو هو سيناتور عن ولاية فلوريدا، اشتهر خلال الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة برفضه القاطع لمطلب وقف إطلاق النار، وبمطالبته استمرار الحرب حتّى “تدمير آخر عنصر من حماس”.
وفي تلك المرحلة، تبنّى روبيو بشكلٍ صريحٍ أدبيّات نتنياهو في وصف المقاتلين الفلسطينيين بـ “الحيوانات البشريّة”، وبتحميلهم المسؤوليّة الكاملة عن موت الفلسطينيين بسبب اتخاذهم كدروع بشريّة. باختصار، لا يوجد شك بأنّ روبيو سيتبنّى أقصى موقف منحاز للمصالح الإسرائيليّة، عند العمل على سياسة بلاده الخارجيّة.
السفير الأميركي في تل أبيب، الذي اختاره ترامب، سيكون الحاكم السابق لولاية أركنساس مايك هاكابي. هاكابي واعظ ومبشّر إنجيلي، عمل على تنظيم الرحلات الدينيّة الدوريّة إلى إسرائيل، لدعم النشاط الاستيطاني في الضفّة الغربيّة. مواقفه السابقة تنكر وجود “شيء إسمه الضفّة الغربيّة”، في مقابل اعتبار هذه المناطق “يهودا والسامرة” وفق المصطلحات التوراتيّة. أمّا مشروعيّة مطالبة إسرائيل بهذه المنطقة، فهي “أقوى من مطالبة الولايات المتحدة بمانهاتن”.
في النتيجة، ومع وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، ستكون الولايات المتحدة الأميركي أبعد –مقارنة بولاية الرئيس جو بايدن- عن فكرة حل الدولتين، على أساس حدود العام 1967. مع الإشارة إلى انّ “صفقة القرن” التي عمل عليها ترامب خلال ولايته السابقة، لم تعترف بالسيادة الفلسطينيّة على الضفّة الغربيّة وفق الحدود المعترف بها دوليًا. بل إن ترامب نفسه أعلن اعتراف بلاده بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وهو ما شكّل ضربة قاسية لفكرة حل الدولتين.
المزيد من الانحياز الأميركي لمشروع نتنياهو، المتناغم مع توجّهات إدارة ترامب الجديدة، لن يترك الكثير من الفرص للحلول السياسيّة، على مستوى القضيّة الفلسطينيّة. بل سيكون متوقّعًا أن تسعى تل أبيب إلى استغلال هذا الظرف، لفرض المزيد من المعادلات بالقوّة في الضفّة الغربيّة، ومنها الشروع ببناء مستوطنات إضافيّة.
وحاليًا، تراهن الحركة الاستيطانيّة في إسرائيل على إدارة ترامب المقبلة، لمحاولة نيل اعتراف أميركي بسيطرة إسرائيل على أجزاء كبيرة من الضفّة الغربيّة، لضرب حلم الدولة الفلسطينيّة.
العلاقة الأميركيّة مع دول الخليج
اختار ترامب النائب السابق عن ولاية نيويورك لي زيلدين، ليكون مديرًا لوكالة حماية البيئة. ومن المتوقّع أن يسعى زيلدين، كما أكّد ترامب نفسه، لمراجعة وإلغاء بعض القوانين البيئية التي عملت عليها إدارة بايدن خلال السنوات الماضية. ومن المعلوم أن زيلدين غير مؤمن أو متخصّص بقضيّة المناخ، بل واشتهر بمعارضة جميع مشاريع القوانين المتعلّقة بهذه القضيّة في الكونغرس.
وعلى هذا النحو، ستكون إدارة ترامب أقرب لسياسات الطاقة المعتمدة على الوقود الأحفوري، وأبعد عن سياسات التحوّل نحو الطاقة النظيفة.
توجّهات من هذا النوع، ستفرض على إدارة ترامب علاقة أقوى مع الشركاء المنتجين للنفط والغاز في منطقة الخليج، وعلى رأسهم السعوديّة والإمارات وقطر.
وترامب المهتم بتحقيق الفوائض التجاريّة في تداولات بلاده مع العالم الخارجي، يدرك أهميّة التقارب مع دول الخليج العربيّة، التي تُعد من كبار المشترين للسلاح الأميركي. أمّا المقاربة المتشدّدة في مواجهة طهران، فسترفض على واشنطن توثيق العلاقات الأمنيّة والدفاعيّة مع الحلفاء العرب في منطقة الخليج.
في الخلاصة، ستتأثّر السياسة الخارجيّة الأميركيّة خلال ولاية ترامب بالكثير من المتغيّرات، لكنّ المؤكد هو أنّ التوجهات الأميركيّة ستكون أكثر تشددًا مع إيران، وأكثر تقرّبًا من الدول العربيّة في منطقة الخليج.
أمّا في إطار النزاع العربي الإسرائيلي، فستكون الولايات المتحدة أبعد ما يكون عن الحلول السياسيّة التقليديّة، أي وفق القرارات الدوليّة السابقة. وهذا ما سيعرقل المحاولات التي تقوم بها الولايات المتحدة، لتطبيع العلاقات السعوديّة الإسرائيليّة، طالما أنّ ولي العهد السعودي مازال يربط هذه الخطوة بقيام الدولة الفلسطينيّة.