وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هيئة الحقيقة والكرامة في تونس تكشف النقاب عن ماضٍ مؤلم

هيئة الحقيقة والكرامة
أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة التونسية يقابلون ضحايا حقوق الإنسان في قبلي، تونس، 28 يناير 2015. Photo Flickr

تكشف هيئة الحقيقة والكرامة عن ماضي تونس غير المعروف في ظل حكم الزعيمين المتجبرين السابقين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. فقد أثارت القصص التي بدأت بالظهور حول جرائم الدولة جدلاً كبيراً مما قد يؤدي إلى المصالحة بين الدولة وشعبها وفهمٍ أفضل لثورة 2011، أو إلى فقدانٍ عام للثقة في هيكل الدولة ما بعد الاستعمار.

فهيئة الحقيقة والكرامة، التي تأسست عام 2014، مكلفةٌ بالتحقيق في مجموعةٍ واسعة من الجرائم التي ارتكبتها الدولة التونسية ضد شعبها بين عام 1955؛ العام الذي حققت فيه تونس الحكم الذاتي الجزئي من فرنسا، وحتى عام 2013، عند استقالة الحكومة التي تقودها النهضة. وعلاوة على ذلك، يحق للهيئة أيضاً تقديم تعويضاتٍ للضحايا والإعلان عن الأسماء والأساليب التي استخدمها الجناة.

ومنذ إنشائها، تلقت هيئة الحقيقة والكرامة، التي ترأسها الناشطة في مجال حقوق الإنسان سهام بن سدرين، 62,544 تهمة تتعلق بالفساد والتعذيب وغير ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان. وعلى الرغم من المعارضة القوية من عناصر النظام القديم ونخبة رجال الأعمال والإعلاميين والمناهضين للإسلاميين، عقدت الهيئة أولى جلسات الاستماع العلنية في 17 نوفمبر 2016. فقد استمع وشاهد آلاف المشاهدين والمستمعين، على الصعيدين الوطني والدولي، سواء عبر شاشات التلفزيون أو المحطات الإذاعة، الجلسة، مما أثار جدلاً استمر لعدة أيام في المجال العام والفضاء الالكتروني في تونس.

أول الضحايا الذين قدموا شهاداتهم كانوا عائلات “شهداء الثورة،” العشرات ممن قتلوا أو جرحوا في انتفاضة 2010-2011. تبعهم الناجون من التعذيب، إذ كان العديد منهم من الإسلاميين أو نشطاء المعارضة اليسارية، الذين وصفوا بالتفصيل الفظائع التي تعرضوا لها، وخاصة في ظل نظام بن علي العلماني المتشدد (1989-2011). تواصلت جلسات الاستماع خلال الأسابيع التالية.

فالأحداث التي سردت خلال هذه الجلسات غير معروفة لغالبية التونسيين، ذلك أن دروسهم التاريخية – ضعيفة المستوى أصلاً وبالكاد يهتم بها الطلاب – أغفلت الكثير منها. وبالتالي فإن العملية لا تتعلق فقط بتعويض الظلم، بل أيضاً تهدف إلى دفع التونسيين إعادة التفكير في تاريخهم.

وصل الجدل ذروته في مارس 2017، بعد جلسة الاستماع التاسعة. فقد شملت الشهادات استقلال البلاد والسنوات الأولى للجمهورية، عندما سجن عددٌ من المقاتلين السابقين، الذين قدم البعض منهم شهاداتهم. فقد كشفوا عن كراهيتهم للرئيس السابق الحبيب بورقيبة، الملقب بـ”أبو الاستقلال” المثالي في تونس، إلا أنهم كفوا فجأة عن وصفه بالدمية التي تحكم بها الفرنسيون.

استغل خصوم الهيئة هذه الشهادات باعتبارها دليل على موقف هيئة الحقيقة والكرامة المعارض للحكومة، وبدأت المزيد من الأصوات تدعو إلى وقف الهيئة، أو على الأقل جلسات الاستماع العلنية. ومن بين الإتهامات الأخرى التي طالت هيئة الحقيقة والكرامة عدم وجود مؤرخين مدربين بين موظفيها، وحقيقة أنها في بعض الأحيان انحرفت لتتخطى سُلطاتها. فقد أصبحت هيئة الحقيقة والكرامة أكثر استقطاباً، سيما في الأشهر القليلة الماضية.

فقد تمت صياغة نموذج هيئة الحقيقة والكرامة تيمناً بلجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا، التي تأسست بعد نهاية الفصل العنصري عام 1994. ومع ذلك، فإن هيئة الحقيقة والكرامة ليست الأولى من نوعها في العالم العربي. فقد أنشئت هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب، التي كانت تعمل بين عامي 2004 و2005، لمعالجة أكثر من 40 عاماً من القمع وانتهاكات حقوق الإنسان في عهد الملك الحسن الثاني السابق. ومع ذلك، فإن الظروف في تونس تجعلها مختلفة جداً عن نظيرتها المغربية.

تأسست اللجنة المغربية من قبل ابن الملك الحسن، الملك محمد السادس، الإصلاحي الذي خلف والده بشكلٍ طبيعي في عام 2000. ومع ذلك، بقدر ما كان يحمل الفكر الإصلاحي، إلا أن محمد السادس هو ابن الحسن الثاني ويكن له تقديراً كبيراً. وعلاوة على ذلك، ظل مساعدو والده مؤثرين في عهده الخاص، وظلت وزارة الداخلية – التي تتهم بارتكاب انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان – محميةً إلى حدٍ كبير. وبالتالي، في حين سُمح للعديد من الضحايا المغاربة بالتحدث عن جرائم الدولة وحصولهم على بعض الاعتراف، ظلت العملية مقيدةً بسبب المحرمات والقيود؛ فعلى سبيل المثال، لم يتم تسمية من ارتكبوا جرائم التعذيب، كما لم يجبروا على الاعتراف بجرائمهم علناً.

وعلى صعيدٍ آخر، في لبنان، حيث تسمح الديمقراطية بإنشاء مثل هذه الهيئة، لم تكن البلاد قادرةً قط على مواجهة ماضيها بسبب اعتراضات وتهديدات أمراء الحرب من مختلف الأطياف، الذين لا يزالون يملكون السطوة في البلاد بعد 27 عاماً على إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990.

بيد أنه في تونس، تغير النظام السياسي جذرياً بعد الإطاحة ببن علي، وبالتالي، أصبح من الممكن طرح أي موضوعٍ للمناقشة. فالكثير ممن في السُلطة اليوم هم أنفسهم من الناجين من التعذيب البدني والنفسي في ظل الديكتاتورية. وبالتالي فإن مطالبتهم بالعدالة تتصادم مع من يعارضونها، الذين يرون في هيئة الحقيقة والكرامة تهديداً لما عملوا طوال حياتهم: دولة تونس ما بعد الاستعمار (أو مصالحهم الشخصية).

قد يبدو عمل هيئة الحقيقة والكرامة استفزازياً، ولكن يمكن أن تؤدي إلى التقاء وجهات نظر الجماعات الاجتماعية المختلفة في تونس بعد كشفهم حقائق بعضهم البعض. وعلاوةً على ذلك، فمن الأصح للتونسيين أن يعرفوا من أين أتوا وكيف تشكلت بلادهم. فعلى سبيل المثال، لتصبح طبيباً نفسياً، يُطلب من طالب علم النفس خوض ممارساتٍ مؤلمة من التحليل وتقبل ماضيهم. وعليه، هذه هي العملية التي يمر بها التونسيون في الوقت الراهن.

ويقول يوسف شريف، وهو محلل سياسي يعيش في العاصمة تونس، أن العملية يجب أن تتم بشكلٍ صحيح، ويجب على أولئك الذين يقفون وراء هيئة الحقيقة والكرامة تعلم التعامل مع الاستقطاب الذي تسببوا فيه. “ينبغي أن يكونوا أكثر شمولاً، وأن يحاولوا إظهار صورة أكثر حيادية، وإلا فإن الجانب الآخر – حتى لو كان بعضهم ممن مارس التعذيب أو من الفاسدين – سيرفضون التعاون. الأهم من ذلك، عليهم نقل عملهم تحت مظلة محددة، أي دولة ما بعد الاستعمار، لتجنب فقدان ثقة الشعب بدولتهم وتحولهم ضدها.” ومن هنا، يمكن أن يؤدي هذا الأخير إلى الفوضوية، وفي هذا الجزء من العالم، قد يصل حد التطرف المدمر.