في آخر مظاهر نهج سياسته الخارجية الهوجاء تجاه الشرق الأوسط، هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بقطع المساعدات عن الفلسطينيين ما لم تعد السلطة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل.
وفي حال نفذت إدارة ترمب تهديداتها، قد يعني ذلك خسارة مئات الملايين من الدولارات من تمويل الولايات المتحدة الأمريكية التي تذهب إلى قطاعات التعليم والرعاية الصحية، والمعونة الغذائية لصالح اللاجئين الفلسطنيين عن طريق وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وفي تغريداتٍ عدوانية على تويتر، كتب ترمب “نحن ندفع للفلسطينيين مئات ملايين الدولارات سنوياً ولا ننال أي تقديرٍ أو احترام. هم لا يريدون حتى التفاوض على اتفاقية سلامٍ طال تأخرها مع إسرائيل. لقد جنبنا مدينة القدس، الجزء الأصعب، من جدول أعمال المفاوضات، لكن الإسرائيليين سيدفعون الكثير مقابل ذلك. والآن مع رغبة الفلسطينيين عدم استكمال محادثات السلام، لماذا نقوم بدفع هذه المبالغ الضخمة لهم في المستقبل؟”.
ولم يحدد ترمب أي البرامج التي تمولها الولايات المتحدة سيتم إيقافه. إلا أن سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، نيكي هالي، قالت للصحافيين رداً على سؤال حول التمويل المستقبلي للاونروا “الرئيس قال بشكل أساسي إنه لا يريد إعطاء أي تمويل إضافي (…) إلى أن يوافق الفلسطينيون على العودة إلى طاولة المفاوضات.”
ووفقاً لموقع أكسيوس الإخباري، تم تجميد مبلغ 125 مليون دولار كان من المتوقع أن ترسلها الولايات المتحدة إلى الأونروا بحلول الأول من يناير 2018. وذكر الموقع أيضاً أن مسؤولاً بوزارة الخارجية قال أن المداولات جارية حول ما يجب القيام به بشأن هذه الاموال.
من جهتها، تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر الجهات المانحة للأونروا. ففي عام 2016، قدمت 368 مليون دولار، أي حوالي ثلث ميزانية الوكالة البالغة 1,1 مليار دولار، وفقاً للأرقام التي نشرتها الأونروا. أما ثاني أكبر الجهات المانحة، أي الاتحاد الأوروبي، فقد قدم للوكالة أقل من النصف، أي حوالي 160 مليون دولار. كما تقدم الولايات المتحدة الأمريكية مساعداتٍ مالية للسلطة الفلسطينية- التي تذهب في المقام الأول للأمن- وللمشاريع الانمائية من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وبلغ متوسط المساعدات الأمريكية للضفة الغربية وقطاع غزة نحو 400 مليون دولار سنوياً بين عامي 2008 و2016، وفقاً لتقرير دائرة أبحاث الكونغرس الأمريكي في ديسمبر 2016، في حين بلغت المساهمات الأمريكية للأونروا 250 مليون دولار منذ عام 2007.
ولطالما كانت علاقة إسرائيل بالأونروا خلافية، وذلك بسبب دعم الأخيرة لـ”حق العودة” للاجئين الذين فروا من ديارهم في فلسطين. وترى اسرائيل في هذا المفهوم تهديداً وجودياً. فقد قال رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في اجتماعٍ لمجلس الوزراء بعد تهديدات ترمب بقطع التمويل أن مواصلة معاملة سلالة الفلسطينيين الذين فروا من ديارهم كلاجئين، جيلاً بعد جيل، أمرٌ “سخيف.” وقال إن “الأونروا منظمة تديم مشكلة اللاجئين الفلسطينيين،” وأضاف “وتديم ايضاً رواية ما يسمى بحق العودة الذي يهدف الى تدمير دولة اسرائيل، ولذا يجب ان تزول الاونروا من الوجود.”
وعلى الرغم من النفوذ المالي الكبير للولايات المتحدة، إلا أنه بعد الغضب والاحتجاجات واسعة النطاق التي عمّت فلسطين وجميع أنحاء العالم العربي في أعقاب قرار ترمب الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، سيتعذر سياسياً الدفاع عن المسؤولين الفلسطينين المشاركين في عملية السلام بوساطة أمريكية.
وقال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في ديسمبر 2017 في اجتماعٍ للدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي “الولايات المتحدة لن يكون لها دور في العملية السياسية بعد الآن لأنها منحازة كل الانحياز لإسرائيل.”
بينما تحدى القادة الفلسطينيون تهديدات ترمب، إذ قال المتحدث باسم عباس، إن “القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين ليست للبيع لا بالذهب ولا بالمليارات.” ومن جهتها قالت ممثلة منظمة التحرير الفلسطينية حنان عشراوي في بيانٍ لها على موقع تويتر إن قرار ترمب حول القدس “دمر بمفرده أساس عملية السلام.”
وكتبت عشراوي “لن نخضع للابتزاز، لقد أفشل الرئيس ترمب سعينا للحصول على السلام والحرية والعدالة، والآن يقوم بلومنا والتهديد بمعاقبتنا على نتائج سياساته المتهورة وغير المسؤولة!”.
وقد أرسلت القيادة الإسرائيلية إشاراتٍ متباينة بشأن قطع التمويل المقترح عن الأونروا. وذكرت تقارير إعلامية إسرائيلية إن وزارة الخارجية الاسرائيلية ذكرت في تقريرٍ داخلي إن قطع التمويل قد يؤدي إلى كارثةٍ وخاصة في قطاع غزة، وسيضيف عبئاً أكبر على إسرائيل، التي يتعين عليها التعامل مع تداعيات الأزمة الانسانية. وأضاف التقرير أن مسؤولين في الجيش الاسرائيلي يعتقدون أيضاً ان خفض الميزانية قد يؤدي الى تفاقم الوضع الامني سوءاً.
وفي تصريحٍ علني، قال نتنياهو إن أموال الأمم المتحدة يجب أن تنقل تدريجياً إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة “وفق معايير واضحة لدعم اللاجئين الفعليين وليس الزائفين مثلما يحدث الآن مع الأونروا”.
ويبقى أن نرى مدى جدية إدارة ترمب في تنفيذ تهديداتها. بيد أن انقطاع المساعدات سيكون له بلا أدنى شك تأثيرا كبيرا على الأونروا، التي تعاني بالفعل من تداعياتٍ مالية.
فقد تأسست الوكالة في عام 1949 لتقديم الخدمات لأكثر من 700 ألف فلسطيني نازح نتيجة الحرب العربية الإسرائيلية. وفي البداية، كان من المفترض أن تكون برنامجاً مؤقتاً، إلا أنه تم تمديد ولايتها مراراً وتكراراً في غياب التوصل لحلٍ سياسي لفلسطين، واليوم، تخدم الأونروا أيضاً عدة أجيالٍ من أحفاد اللاجئين الأصليين. كما تقدم خدماتٍ تشتمل على التعليم والرعاية الصحية والمعونة الغذائية الأساسية لنحو 5 ملايين لاجىء فلسطيني مسجل في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسوريا ولبنان.
ومع ذلك، واجهت الوكالة صعوباتٍ بحصولها على التمويل. ففي السنوات الأخيرة، عانت من عجزٍ كبير، لتنهي عام 2015 بعجزٍ بلغ 128 مليون دولار، و48 مليون دولار عام 2016، وذلك وفقاً للبيانات المالية. وفي عام 2015، اقترحت تأجيل بداية العام الدراسي لنحو نصف مليون طالب فلسطيني في جميع أنحاء المنطقة بسبب المعوقات التي كانت تواجه ميزانيتها.
وفي النهاية، وبعد أن قامت الجهات المانحة بتقديم تمويلٍ إضافي طارىء، انتظم طلاب مدراس الوكالة في الصفوف في الوقت المحدد، ولكن مع زيادة النفقات وثبات الإيرادات، تم خفض المعونة بشكلٍ متزايد. كما فاقمت الحرب في سوريا الأوضاع، فوفقاً للأونروا، هناك ما يصل إلى 280 ألف لاجىء فلسطيني نازحين داخلياً في سوريا، بالإضافة إلى 120 ألف آخرين فروا إلى البلدان المجاورة وأوروبا.
فقد كانت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا قبل الحرب جيدة نسبياً، ولا سيما بالمقارنة مع الظروف في لبنان، حيث لجأ العديد منهم هناك منذ ذلك الحين. وعلى الرغم من عدم منح الفلسطينيين في سوريا الجنسية، إلا أنهم يتمتعون بنفس الحقوق في العمل والتعليم والخدمات الاجتماعية كحال المواطنين السوريين. أما في لبنان، يُمنع الفلسطينيون من العمل في العديد من الوظائف ومن التملّك.
وفي لبنان أيضاً، حيث احتج الفلسطينيون على تخفيضات مساعدات الأونروا في السنوات الأخيرة، بما في ذلك تخفيض الإعانات السكنية، ورواتب المدرسين في المدارس، وتقديم الرعاية الصحية، وحيث كانت المخيمات الفلسطينية في بعض الأحيان بمثابة مركز تجنيدٍ للمجموعات المتطرفة، فمن المرجح أن يؤدي قطع المعونات الأمريكية وغيرها من خفض التمويل إلى زعزعة استقرار الوضع السياسي بشكلٍ أكبر.
أما في فلسطين، وبخاصة في قطاع غزة، حيث يتم تقييد حركة الناس والبضائع إلى حدٍ كبير في ظل الحصار الإسرائيلي المستمر منذ عقدٍ من الزمان، قد يكون لخفض المعونات أثرٌ مدمر. فهناك، يعتمد 80% من السكان على المساعدات الدولية، بينما تبلغ نسبة البطالة أكثر من 40%، وفقاً للأونروا.
وضعت التهديدات الأمريكية السلطة الفلسطينية في موقفٍ لا يطاق، ذلك أن سحب المساعدات من شأنه أن يدمر السكان الذين يعانون بالفعل، ومن المرجح أن يؤدي إلى المزيد من الاضطرابات في فلسطين وخارجها على حد سواء، في حين أن المشاركة في عملية السلام بقيادة الولايات المتحدة من شأنه أن يدمر ما تبقى من شرعيتها. وأياً كانت نتيجة هذه اللعبة السياسية، مرةً أخرى، سيكون الفلسطينيون من يدفع الثمن.