في فبراير 2019، احتفلت إيران بالذكرى الأربعين لثورتها الإسلامية. من خلال الإطاحة بالشاه، ومراجعة النظرة السياسية العالمية والأيديولوجية وإدخال تغييراتٍ ضخمة على المجتمع الإيراني والسياسة الخارجية، غيرت الثورة الإسلامية عام 1979 مجرى تاريخ البلاد. ومنذ ذلك الحين، فُرض موقف عدم الانحياز على سياسة إيران الخارجية، وقادت الأيديولوجيات الإسلامية حكومتها ومؤسساتها.
وعليه، أجريت العديد من الدراسات حول أسباب الثورة وموقف إيران المعادي للغرب بعد ذلك. وبعد مرور أربعة عقود، لا زال الحدث موضوع جدلٍ أكاديمي وشعبي منتظم داخل إيران وخارجها.
رأيٌ مشترك هو أن العوامل الاقتصادية كانت المحفز الرئيسي للثورة، فقد بدأ الشاه تطوير الاقتصاد الإيراني بوتيرةٍ سريعة بعد طفرة النفط في السبعينيات. رفع هذا من سقف توقعات الطبقات الوسطى والدنيا، ولكن عندما انهارت عائدات النفط في أواخر سبعينيات القرن الماضي، اضطر النظام إلى إيقاف المشروعات الاقتصادية الكبرى، مما أدى إلى خيبة أملٍ وسخطٍ واسع النطاق أدى إلى اندلاع الثورة في نهاية المطاف.
التفسير الاقتصادي الثاني هو تفسيرٌ يساري، الذي يفترض أن الشاه كان يمثل الطبقة العليا، التي كانت تعدّ أقليةً في البلاد، وأن الجماهير (الفلاحين والعمال وغيرهم) نهضوا ضده لاستعادة حقوقهم.
أما التفسير الثالث فهو التفسير المجتمعي الذي يركز على الطبيعة الدينية والمحافظة للمجتمع الإيراني. ووفقاً لذلك، أثارت المشاريع التي طورها الشاه بأبعادها الاقتصادية والثقافية غضب الإيرانيين المحافظين وعلمائهم (علماء الدين) الذين قادوا الثورة في نهاية المطاف وأطاحوا بالشاه.
في حين يركز التفسير الرابع على إحباط الإيرانيين طويل الأمد من القوى الخارجية – وعلى الأخص الأوروبية والروسية والولايات المتحدة، حيث كان يُنظر إلى الأخيرة على أنها الداعم الرئيسي للشاه – وتدخلهم في شؤون إيران الداخلية. وبناءً على ذلك، كانت تهدف الثورة إلى تخليص إيران من هذا التدخل واستعادة سيادة إيران. تستند هذه القراءة إلى الاعتقاد بأن الشاه هو رجل واشنطن في إيران والمنطقة بشكلٍ أوسع.
الحجة الرئيسية الأخيرة هي أن طغيان الشاه، الذي أعقب الانقلاب الأمريكي البريطاني عام 1953 ضد حكومة محمد مصدق المنتخبة ديمقراطياً، استمر لمدة 25 عاماً، وبالتالي كانت تهدف الثورة إلى تحرير إيران من هذا الطغيان وإقامة نظامٍ ديمقراطي. تفترض هذه القراءة أن الثورة كانت صرخةً من أجل الحرية التي وحدت الفصائل والأيديولوجيات السياسية المختلفة.
ولا يزال هناك آخرون يجادلون بأن مجموعةً من العوامل المذكورة أعلاه تسببت في الثورة. بمعنى آخر، كانت أزمة عائدات النفط في أواخر سبعينيات القرن الماضي وفجوة الثروة الهائلة بين الطبقات، والإحباط من دعم الولايات المتحدة للشاه وقبضته الحديدية أثناء الحكم، موجودةً جميعها في أذهان الثوريين. وقبل عامٍ واحد فقط من الإطاحة به، بدا الشاه قوياً بما يكفي لتحمل أي اضطراباتٍ داخلية أو تهديدٍ أجنبي. حتى أن الرئيس الأمريكي جيمي كارتر زار العاصمة طهران عشية رأس السنة الميلادية عام 1978 ليشرب نخب الشاه لجعله إيران “واحة استقرار.” وبعد مضي اثني عشر شهراً، كانت تلك الواحة غارقةً في عدم الاستقرار، وشهدت بعضاً من أكبر الانتفاضات التي شهدها العالم على الإطلاق.
وعلى مر العقود، تمكن الشاه وشرطته السرية وجهازه الاستخباري سيء السمعة من قمع خصومه الرئيسيين أو تحييدهم. تشمل القائمة حزب توده الشيوعي، وحزب الجبهة الوطنية القومي، والحزب الجمهوري الإسلامي، وفدائيي الإسلام والميليشيات الصغيرة التي ظهرت بين الحين والآخر خلال الخمسينيات والستينيات والتي تأثرت إلى حدٍ كبير بفكرة الماويين عن ثورة الفلاحين. كما اضطر النظام إلى نفي شخصيات معارضة بارزة كان من الممكن أن يلحق سجنها أو محاكمتها أضراراً اجتماعية بالنظام. كان آية الله روح الله الخميني واحداً من أولئك الذين أُجبروا على النفي عام 1964، بعد انتقادهم الشديد للشاه لمنحه مستشارين عسكريين أمريكيين في إيران امتيازاتٍ وحصانات غير مسبوقة. وبعد ثلاثة عشر عاماً، عاد الخميني إلى إيران بعد أن أمضى معظم تلك السنوات في النجف بالعراق.
وجدت مجموعاتٌ وشخصياتٌ معارضة إيرانية مختلفة في الخميني شخصاً يمكن أن يتجمعوا حوله للدفع بحركة مناهضة للشاه. وفي عام 1978، تم طرد الخميني من العراق بناءً على طلب الشاه، حيث انتقل إلى فرنسا بعد أن رفضت السلطات الكويتية السماح له بدخول الكويت. وفي فرنسا، تمتع بحريةٍ غير مسبوقة في مهاجمة الشاه والضغط من أجل التغيير في إيران. تم استقبال رسائله بحماس ولعبت دوراً رئيسياً في حشد ملايين الإيرانيين لقضيته.
قرر الشاه أخيراً مغادرة البلاد في 14 يناير 1979 بعد تفويض المجلس الملكي بالحكم في غيابه وتسمية شابور بختيار، وهو عضو في الجبهة الوطنية، رئيساً للوزراء؛ التعيين الذي كان يهدف إلى استرضاء المعارضة. لكن الخميني، الذي أسس مجلس الثورة الإسلامية، لم يرضخ وطالب بختيار بالتنحي بعد رحيل الشاه.
عاد الخميني إلى إيران في 1 فبراير 1979 ووافق على قرار المجلس الثوري بتعيين مهدي بازركان، وهو شخصية قومية معروفة، كرئيس وزراء مؤقت بعد ثلاثة أيام. تسبب هذا في وجود حكومتين في البلاد، وبدا أن الحرب الأهلية كانت قاب قوسين أو أدنى. اندلعت الصدامات بين الميليشيات الثورية والمتطوعين من جهة والحرس الملكي من جهةٍ أخرى، ولكن عندما أعلن الجيش حياده في 11 فبراير، انتصر الثوار.
فرّ بختيار من البلاد، بينما تم إلقاء القبض على كثيرين آخرين وتقديمهم للمحاكمة، بما في ذلك رئيس الوزراء السابق أمير عباس هويدا، ووزير الخارجية عباس علي خلعتبری والعديد من القادة العسكريين والشخصيات الأمنية. تم إعدام الكثير منهم، خاصة أولئك الذين عرفوا بعدائهم تجاه الثورة وقادتها. والأهم من ذلك، تم استبدال الملكية بجمهوريةٍ إسلامية. وفي الأول من أبريل 1979، تم إجراء استفتاء حول إنشاء جمهورية إسلامية أم لا، حيث صوت 98,2% من الشعب لصالح الجمهورية الإسلامية. وفي ديسمبر 1979، تم إجراء استفتاء آخر على دستور الجمهورية، وهذه المرة، صوت 99,5% من الشعب هذه المرة لصالح الدستور. من الإنصاف القول إنه بعد ذلك، تفوق الخميني والموالون لسياسته على الشخصيات والأحزاب العلمانية، لتنتصر الثورة.
تم تأسيس الجمهورية الإسلامية بوجود نظام ولاية الفقيه والمرشد الأعلى ومجلس الوصاية الذي يُمعن النظر في عملية سن القوانين لإبقائها داخل حدود الشريعة الإسلامية. وعلى هذا النحو، أصبحت الشريعة، بما في ذلك الحجاب الإلزامي للمرأة، جزءاً من الحياة اليومية. وفي حين عكست هذه الهيئات الطبيعة الإسلامية للنظام الجديد، كان المقصود من انتخاب رئيسٍ وبرلمان وما يرتبط به من الضوابط والتوازنات السياسية أن يعكس طبيعته الجمهورية.
من الناحية النظرية، المرشد الأعلى له كلمة الفصل العليا، إذ يتولى المجلس الأعلى للأمن القومي، برئاسة الرئيس، مهمة اتخاذ القرارات الإستراتيجية. لكن مرةً أخرى، من الناحية النظرية، يتمتع المرشد الأعلى بسلطة إلغاء قرار المجلس، رغم أنه لم يستخدم هذه السلطة في العقدين الماضيين. في الواقع، لا يفرض المرشد الأعلى أولوياته، بيد أنه يحذر من تلك السياسات التي يراها غير ملائمة للمبادىء الثورية والإسلامية للجمهورية. على سبيل المثال، وافق على قرار الرئيس الحالي حسن روحاني بتوقيع الاتفاق النووي لعام 2015، والمعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، على الرغم من تأييده لسياسة تسمح لإيران باستخدام القوى الدولية ضد بعضها البعض. مثالٌ آخر هو عندما لم يفرض سياسةً جديدة بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، لكنه عارض إشراك إدارة ترامب.
وبعد مرور أربعين عاماً، تتمسك الجمهورية الإسلامية بنظرتها العالمية وانقسام أبعادها الأيديولوجية والجمهورية الدينية الأصلية. فالقدرة على الاستقلال عن النفوذ الدولي أمرٌ يتباهى به الكثير من المسؤولين والقادة العسكريين الإيرانيين. ومع ذلك، لهذا الإستقلال ثمن؛ وهو ثمنٌ يلقي بظلاله على الإيرانيين بشكلٍ يومي في ظل عقوباتٍ تحرم الكثير منهم من الحياة الطبيعية. فقد تم إحراز الكثير من التقدم والتطور في إيران ما بعد عام 1979 والتي تواصل الفوز بدعم النظام. وفي الوقت نفسه، هناك مناطق لا تزال متخلفة عن هذا التطور وتسبب الإنتقادات للجمهورية.
ومع ذلك، فإن نموذج الحكم الإيراني الذي تمارس فيه القيم الإسلامية والديمقراطية هو نموذجٌ فريدٌ من نوعه إلى حدٍ ما. يواجه هذا النموذج العديد من التحديات، بما في ذلك العقوبات الدولية، إلا أنه أثبت بالفعل مرونته على مدار أربعة عقود.