منذ أكثر من عشرون عاماً، تعتمد الموازنة العامة للسلطة الوطنية الفلسطينية بشكلٍ كبيرٍ ودائم على التمويل الأجنبي من الدول المانحة وبنسب عالية، بل وتعتبره جزءاً أساسياً من موازنتها العامة. ومع ذلك، في السنوات الاخيرة كان من الملاحظ ليس فقط ضعف في الدعم السياسي الدولي لصالح القضية الفلسطينة، وإنما بدأ الدعم المالي الدولي يقل شيئأً فشيئاً في العامين الماضيين ايضاً، لدرجة أن رئيس الحكومة الفلسطينية، رامي الحمد الله، صرّح في نوفمبر 2016 بأن السلطة الوطنية الفلسطينية تعاني من عجزٍ مالي بسبب عدم ايفاء الدول المانحة بتعهداتها المالية.
جذور المشكلة
بعد انشاء السلطة الفلسطينية بموجب إتفاقية أوسلو الأولى في شهر سبتمبر من العام 1993، أو كما عُرفت (بإتفاقية إعلان المبادئ) بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، تم عقد أول مؤتمر للدول المانحة في شهر أكتوبر من العام 1993، في واشنطن بمشاركة 42 دولة ومؤسسة مانحة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، والإتحاد الأوروبي. كان الهدف الأساسي لهذا المؤتمر هو حشد المساعدات الدولية للشعب الفلسطيني، للانطلاق قدماً بعملية السلام من ناحية، ووضع آلية منظمة بين الدول المانحة لتقديم المساعدات المالية والفنية للسلطة الفلسطينية من ناحية آخرى، وذلك من اجل تمكين السلطة الجديدة من إدارة المناطق الفلسطينية التي سوف تنسحب منها القوات العسكرية الاسرائيلية. وفق مؤتمر المانحين الأول، تم التعهد بتقديم مساعدات مالية ولوجستيه بقيمة 2.4 مليار دولار للسلطة الفلسطينية. وعليه تم التوافق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل على إتفاقية اقتصادية، سُميت “بروتوكول باريس الاقتصادي” في شهر ابريل لعام 1994، والذي بموجبه سوف يتم تنظم العلاقة الاقتصادية والمالية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية لفترة انتقالية مدتها خمسة سنوات، من أجل خلق نظام اقتصادي فلسطيني قادر على الحياة بعد الفترة الانتقالية.
وبموجب الإتفاق الانتقالي بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة، المعروف بإتفاقية أسلو الثانية، التي وقعت بين إسرائيل ومنظمة التحرير بتاريخ 28 سبتمبر 1995، تم الاتفاق على إنهاء مفاوضات الوضع النهائي للضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة الانتقالية البالغة خمس سنوات المحددة بتاريخ 4 مايو لعام 1999. ولكن وحتى بعد أكثر من أثنان وعشرون عاماً، لم تنتهي المرحلة الانتقالية، وتعاني المفاوضات من حالة جمود وأزمات متلاحقة، وعلى أثرها ما زال بروتوكول باريس الاقتصادي ساري المفعول، و بالتالي ما زال الاقتصاد الفلسطيني اقتصاد تابعاً لإسرائيل ولم يستطع لغاية اليوم النهوض بذاته، وعلى أثرها أيضاً، لم تنتهى مؤتمرات الدول المانحة السنوية، عاماً بعد عام، بغرض دعم موازنة السلطة الفلسطينية.
اعتماد الميزانية الفلسطينية على العوامل الخارجية
تعتمد السلطة الوطنية في ميزانيتها السنوية على ثلاثة مصادر اساسية، وهي أولاً أموال المقاصة للجمارك والضريبة التي تجبيها إسرائيل على البضائع والسلع الواردة أو الصادرة من وإلى فلسطين عبر الحدود الإسرائيلية لصالح الخزينة الفلسطينية العامة حسب إتفاقية باريس الاقتصادية، حيث تبلغ قيمتها السنوية حوالي 62% من إجمالي ايرادات السلطة الفلسطينية. وثانياً على التمويل الأجنبي من قبل الدول المانحة، حيث تبلغ سنويا ما بين 25%-30% من اجمالي الايرادات، بالاضافة، ثالثاً إلى الايرادات المحلية المتمثلة في الرسوم وضريبة الدخل. الملاحظ هنا أن أكبر مصدرين للإيرادات هم تحت سيطرة أيدي خارجية، وبالتالي هذه الايرادات معرضة دائماً للأبتزاز السياسي. فمنذ إعلان الرئيس محمود عباس عزمه التوجه إلى الأمم المتحدة طلباً لعضوية فلسطين في الأمم المتحدة عام 2011، وهو بالفعل ما فعله، بدأت المنح والمساعدات المالية الدولية في التراجع التدريجي حتى اليوم. فقد بلغ إجمالي المنح والمساعدات المالية التي تلقتها السلطة عام 2011، وفق أرقام الميزانية الصادرة عن وزارة المالية نحو 1.4 مليار دولار أمريكي، وتراجعت تلك المنح والمساعدات المالية الخارجية للموازنة الفلسطينية، بنسبة 43% في العام 2015 مقارنة بالعام 2011.
وبالنظر إلى أرقام للموازنة الفلسطينية لعام 2015 حسب ما صرح بها وزير المالية الفلسطيني شكري بشارة، قُدرت النفقات العامة بنحو 5 مليار دولار منها 3.8 مليار دولار للنفقات الجارية، 1,1 مليار دولار للنفقات التطويرية والتي تشمل 800 مليون دولار لإعادة إعمار قطاع غزة. وبلغت الفجوة التحويلية 385 مليون دولار، وعليه فإن السلطة الفلسطينية كانت تنظر الى أن يقدم اليها ما مجموعه 1.762 مليار دولار كمساعدة للموازنة العامة لعام 2015، ولكن ما تم تحصيله من مساعدات مالية في العام 2015 فقط نحو 700 مليون دولار، وذلك بسبب تراجع مجموع المنح المالية الخارجية، بالتحديد الأوروبية والأمريكية.
الخبير الاقتصادي أمين أبو عيشة وضح في دراسة نشرت في يناير 2015، أن مجتمع المانحين طوال أكثر من عشرون عاماً، منذ توقيع اتفاقية أوسلو، قدم منحاً مالية للسلطة الفلسطينية تقدر بحوالي 27 مليار دولار، وبذلك تكون السلطة هي أكبر متلقي للدعم المالي من المجتمع الدولي. وفي العام 2014، تلقت السلطة الوطنية الفلسطينية حوالي 1.4 مليار دولار، منها حوالي 1 مليار دولار سنوياً من الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر الممول الأول للسلطة الفلسطينية، وتأتي بعده الولايات المتحدة الأمريكية بمبلغ 400 مليون دولار سنوياً.
أما بالنسبة للدعم العربي، فقد أرتفع في العام 2015 من حيث القيمة، ولكنه تراجع من حيث عدد الدول العربية المانحة، حيث اوضحت الارقام بأن المملكة العربية السعودية رفعت حصتها منذ بداية العام 2013، واصبحت تتصدر الدول العربية المانحة للموازنة الفلسطينية لغاية نهاية عام 2015، بمتوسط دعم سنوي يبلغ 240 مليون دولار أمريكي، فيما تلتزم دول مثل مصر والجزائر وسلطنة عمان بمساعدات مالية سنوية محددة، ولكن من الجدير بالذكر بأن السعودية لم ترسل منذ بداية عام 2016 أي تحويلاتٍ مادية للموازنة العامة، ويرجع ذلك حسب محللون بسبب حالة التقشف التي تعيشها العربية السعودية بعد دخولها الحرب مع اليمن، علاوة على توترٍ شاب العلاقة بين القيادة السعودية مع الفلسطينية. وبالنسبة للإمارات العربية، فيرجع السبب وراء عدم دعم الخزينة الفلسطينية منذ ثلاث سنوات لحالة التوتر في العلاقة بين القيادة الاماراتية والفلسطينية بسبب سياسة الاقصاء التي ينتهجها الرئيس الفلسطيني ضد خصومه السياسيين. فالإمارات وتشاركها السعودية ترغبان بترتيب واستنهاض البيت الفلسطيني، بتوحيد حركة فتح، ومن ثم المضي قدماً في إنجاز المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وإعادة الاعتبار لـمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم الدخول في مرحلة تحريك ملف المفاوضات مع الإسرائيليين على قاعدة المبادرة العربية بدون أي تعديل.
سياسة العصا والجزرة في التمويل الدولي
في ردها على توقيع محمود عباس على ميثاق روما بتاريخ 31 ديسمبر من عام 2014، قررت إسرائيل احتجاز أموال المقاصة الشهرية كعقوبة للسلطة الفلسطينية. اعتبر هذا عقاباً على انضمام السلطة للجنائية الدولية، كمطلبٍ أساسي في ميثاق روما. تشكل هذه الأموال المجمدة ما مقداره 62% من إيرادات السلطة الفلسطينية الشهرية، والبالغ متوسط قيمتها الشهرية 175 مليون دولار. فيما أعلن مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية في نفس الاطار، أن الخطوة الفلسطينية بطلب الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية ستكون لها تبعات مالية، وعليه تم اتخاذ قرار من الكونجرس الامريكي بوقف المساعدات المالية التي تبلغ حوالي 440 مليون دولار سنوياً الى السلطة الفلسطينية، هذا ما أكده المتحدث باسم الحكومة الفلسطينية ايهاب بسيسو بأن الدعم الأمريكي للموازنة الفلسطينية بلغ عام 2015 صفر، وان السلطة تلقت فقط 28% من اجمالي وعودات المنح الدولية.
وبعد عدة شهور، أوقفت اسرائيل احتجاز الاموال الفلسطينية، وافرجت عنها وذلك خوفاً من إنهيار السلطة بسبب عدم تمكن السلطة الإيفاء بدفع رواتب الموظفين البالغ عددهم حوالي 170 الف موظف، بمن فيهم عناصر الاجهزة الامنية وبالتالي سوف يؤثر ذلك سلباً على التنسيق والتعاون الامني بين الجانبين.
أسباب تراجع الدعم الدولي للسلطة الفلسطينية
جمود العملية السلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث كان من المتوقع ان تنتهي الفترة الانتقالية بعد خمس سنواتٍ على انشاء السلطة الفلسطينية عام 1993، وبالتالي، يكون الاقتصاد الفلسطيني قد استطاع النهوض بذاته.
المواقف السياسية التي تنتهجها السلطة دولياً، ومنها الانضمام للمنظمات الدولية، وما يترتب عليه من ممارسة سياسة الضغط على القيادة الفلسطينية، خاصة من قبل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، من أجل خفض سقف المطالب السياسية الفلسطينية.
ينبع تراجع المنح والمساعدات المالية أيضاً من منطلق أن القضية الفلسطينية لم تعد أولوية لدى العديد من الدول المانحة، الغربية والعربية، حيث ان الأحداث الإقليمية غيرت الأولويات بالنسبة لتوزيع بعض الدول للمساعدات المالية التي ترصدها للدول المحتاجة، حيث أرتفعت المساعدات المالية منذ عام 2012 الى الأردن، وسوريا، ولبنان مع ارتفاع أعداد اللاجئين السوريين.
هناك سبب اضافي له ابعاد حزبية وفلسطينية داخلية، طرأ في الاشهر القليلة الماضية فقط؛ في أغسطس 2016، حيث ان الرباعية العربية المكونة من كل من مصر والاردن والسعودية والإمارات العربية، تريد الضغط على محمود عباس من أجل ترتيب وتوحيد البيت الفتحاوي الداخلي قبل مغادرة عباس له. وبعد أن رفض عباس ضغط الرباعية العربية واعتبرها تدخلاً في الشؤون الداخلية، قررت السعودية العربية وقف المساعدات المالية للسلطة، وكانت قد سبقتها دولة الامارات العربية بإيقاف كل اشكال الدعم المالي للسلطة منذ اكثر من عامين.
ونتيجة عدم ايفاء الدول المانحة بتعهداتها، يشهد الدين العام ارتفاعاً مستمراً، والذي بلغ حوالي 2.4 مليار دولار لغاية عام 2014، وهو في ارتفاعٍ مستمر، حيث يخشى من بقاء إرتفاعه أن يهدد بانهيار السلطة بشكلٍ كامل بسبب عدم القدرة على الايفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين. ومن شأن هذه الأزمة أن تهدد استقرار العلاقة مع اسرائيل والاتفاقيات الموقعة بين الجانبين.
من جانبها تحاول السلطة وقف استمرارية تعرض الموازنة العامة لهزاتٍ مالية على المدى القصير والمتوسط، لذا تعمل السلطة على النقاط التالية:
تقليل الاعتماد الكبير على أموال الدول المانحة، والحاجة إلى تقليصها عاماً بعد آخر ليتم التخلص منها بشكل نهائي ولو على المدى المتوسط أو البعيد.
إيجاد آلية افضل لتحصيل أموال المقاصة التي هي أهم مصادر الإيرادات العامة والتي تتحكم بها إسرائيل وقادرة على تجميدها متى شاءت.
مراجعة شاملة وكاملة لاتفاقية باريس الاقتصادية لتعديلها ويفضل إلغائها، لأنها أبقت الاقتصاد والسياسات المالية الفلسطينية في حالة من التبعية الكاملة لإسرائيل.
تفعيل شبكة الأمان الاقتصادية العربية التي تم انشاؤها في القمة العربية ولم تنفذ لغاية اليوم.