نشر الكاتب جيمس دورسي، الزميل بكلية راجاراتنام للدراسات الدولية بسنغافورة، على مدونته الشخصية مقالة تتناول طموحات الصين لتشكيل نظام عالمي جديد. ويسلط دورس مقالته الضوء على سعي بكين لإعادة تعريف قواعد ومفاهيم حقوق الإنسان المتفق عليها دولياً عن طريق ممارسة الضغط على الدول المحتاجة إلى الدعم المالي أو السياسي.
ويرى صاحب المقالة أن الصين تقود تياراً يسعى لتقويض المفاهيم الراسخة عن المساءلة والعدالة في حقوق الإنسان.
وحوّلت مساعي الصين المدعومة من حكام العالم المستبدين حقوق الإنسان إلى ساحة قتالٍ لا تلفت الانتباه إليها كما ينبغي، إلا ان هذه الساحة تلعب دوراً حاسماً في تشكيل نظام عالمي جديد.
وتحاول الصين التستر على حملة قمعٍ لم يسبق لها مثيل ضد مسلمي الأويغور في إقليم سنجان شمال غرب البلاد، كما أنها تسعى للتعتيم على التعسف المتزايد في أماكن أخرى من البلاد، وتتنصل من تصديرها لنسخة القرن الحادي والعشرين من دولة المراقبة الأورويلية.
ويظهر التقرير العالمي الصادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” لعام ٢٠١٩ مدى تشعَّب الجهود الصينية في هذا المجال.
وتشمل هذه الجهود اقتراحات لتغيير المبادئ التي يعمل بموجبها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بطرق من شأنها تمكين الأنظمة القمعية والاستبدادية.
وفي إطار ما تقوم به من جهود لتحقيق هدفها في هذا المجال، تستخدم الصين قوتها المالية وبنيتها التحتية ومبادرة الحزام والطريق لإغراء البلدان التي تعاني من ضائقة مالية، أو بحاجة ماسة إلى الاستثمار، فضلاً عن تلك الدول التي تجد نفسها في موقف دفاعي بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان.
كما تحاول الصين الوصول إلى دورٍ مهيمن في البنية التحتية الرقمية ووسائل الإعلام داخل عدّة دول، وهو ما قد يسمح لها بالتأثير على تدفق المعلومات وتمكين حلفائها من السيطرة بشكل أفضل على المعارضة.
ويرى دورسي أن الصين تشن حملتها في مرحلة حرجة من التاريخ، إذ تستفيد بكين من صعود القومية العرقية والدينية، والشعبوية، والتعصب، ومعاداة الهجرة المنتشرة في جميع أنحاء الديمقراطيات بالعالم.
ويعزو صاحب المقالة سهولة الحملة إلى ظهور رؤساء على شاكلة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، ورودريغو دوتيرتي في الفلبين، ورجب طيب إردوغان في تركيا، وفيكتور أوربان في المجر، وجائير بولسونارو في البرازيل، لافتاً إلى أن هؤلاء همّشوا قيمة حقوق الإنسان أو ذهبوا إلى حد تبرير انتهاكها. ويضاف إلى ما قام به هؤلاء سعيهم لتحجيم وسائل الإعلام المستقلة التي تعرّضهم للمساءلة، ناهيك عن السعي لتقويض هذه الوسائل الإعلامية.
ويأتي توقيت السعي الصيني في حقبةٍ مهمة لأنه يتزامن مع لحظةٍ تصاعدت فيها التكهنات حول موت الاحتجاجات الشعبية التي يشهدها العالم، وتأتي هزيمة الثورات الشعبية العربية في 2011 كمثالٍ على هذا التوجه بعد ما حققته هذه الثورات من نجاح عند بداياتها.
وتشهد الفترة الحالية اندلاع المظاهرات المناهضة للحكومة في السودان والتي تطالب باستقالة الرئيس السوداني عمر البشير. وتتزامن هذه المظاهرات مع المسيرات المناهضة للصين في قيرغيزستان وخروج مظاهرات في زيمبابوي احتجاجاً على القمع وسوء الخدمات وارتفاع معدلات البطالة وانتشار الفساد وتأخر رواتب موظفي الحكومة. كما شهد العام الماضي تصاعد موجةٍ واسعة من الاحتجاجات المناهضة للحكومات في عددٍ من الدول كالمغرب والأردن.
وتدل هذه الاحتجاجات وما يصفه كينيث روث، المدير التنفيذي لهيومن رايتس ووتش، في مقدمته للتقرير العالمي الصادر في عام ٢٠١٩ في ٦٧٤ صفحة بأنه “مقاومة تواصل كسب المعارك”، على أن الحملة الصينية قد تربح في بعض المعارك، إلا أنها لم تفز بالحرب بعد.
وكتب روث في مقدمته: “قد لا يكون النصر مضموناً، إلا أن ما تم تحقيقه من نجاحات خلال العام الماضي يكشف عما يتمتع به تعسّف الاستبداد من قدرة على توليد مقاومة قوية مناصرة لحقوق الإنسان”.
ومع ذلك، حذّرت صوفي ريتشاردسون، مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش بالصين: “لم يدرك الناس خارج الصين بعد التهديد المتزايد المحدق بحقوقهم الإنسانية مع تنامي قوة بكين… لقد سعت بكين في السنوات الأخيرة إلى توسيع نفوذها وفرض معاييرها وسياساتها على المؤسسات الحقوقية الدولية الرئيسة، ما أضعف الوسائل الوحيدة المتاحة للمساءلة والعدالة في بعض دول العالم”.
وأشارت ريتشاردسون إلى أن الصين نجحت خلال العام الماضي بالدفع بقرار غير ملزم في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يدعو إلى تعزيز حقوق الإنسان على أساس مبدأ التعاون المربح للجميع، وهو المبدأ الذي يؤكد معارضوه أنه يعني انتصار الصين مرتين.
وكما هو متوقع هذه الأيام، حصل القرار على دعم كبير. ومن المفارقة أن الولايات المتحدة كانت العضو الوحيد في المجلس الذي صوّت ضد القرار، في حين امتنعت دول مثل ألمانيا وأستراليا عن التصويت.
وليست الصين البلد الوحيد الذي يسعى لتغيير النهج المتبع عالمياً على نحو يضر بحقوق الإنسان. إذ لطالما سعت دول مسلمة عديدة لتجريم ازدراء الأديان، وفي مقدمتها السعودية.
وقالت ريتشاردسون إن القرار “اجتثّ أفكار المساءلة تجاه الانتهاكات الحقوقية الفعلية، مقترحاً ‘الحوار’ بدلاً عنها. كما لم يحدد الخطوات اللازمة في حال رفض منتهكو الحقوق التعاون مع خبراء الأمم المتحدة أو قرّروا الانتقام من النشطاء الحقوقيين أو عارضوا فعلياً المبادئ الحقوقية. كما أنه لم يعترف بأي دور لمجلس حقوق الإنسان في التصدي للانتهاكات الحقوقية الخطيرة عندما لا يثمر ‘الحوار’ و’التعاون’ شيئاً”
وأضافت ريتشاردسون محذرةً: “إن تحولت هذه الأفكار من مجرد قواعد سائدة إلى مبادئ تشغيل فعلية لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، فإنه سيكون من شبه المستحيل على ضحايا انتهاكات الحكومات حول العالم، ابتداءً من ميانمار ومروراً بسوريا واليمن ووصولاً إلى جنوب السودان، أن يحاسبوا تلك الحكومات التعسفية”.
وقد وصفت ريتشاردسون القرار في مقابلة أخرى بأنه “بداية عملية تفسيخ نظام حقوق الإنسان في الأمم المتحدة”.
وقالت إن: “جماعات حقوق الإنسان قلقة بشأن ما ستحاول الصين فعله بعد ذلك، وما إذا كانت ستحاول بشكل أكثر عنفاً تغيير وصاية المجلس أو تجاهل لغة المعاهدات أو إضعاف دور المجتمع المدني. وتسعى الصين لاستبدال المساءلة بالتعاون بين الحكومات، وأن تجري مناقشات بين المسؤولين الحكوميين دون التطرق إلى مبدأ المساءلة عن الانتهاكات، كما ترغب في إبعاد الجماعات المستقلة عن كل هذه الأمور”.
وتهدف جهود الصين إلى إعادة كتابة القواعد الدولية ومواجهة الانتقادات الغربية الحادة إزاء تعاملها مع المسيحيين والمسلمين وحملتها في إقليم سنجان.
وبحسب ما ورد ببعض التقارير، فقد تم اعتقال حوالي مليون من مسلمي الأويغور في معسكرات إعادة التثقيف التي تصوّرها الصين باعتبارها منشآت تدريبٍ مهني. وتعتقد الصين أنه في مقدورها الحفاظ على حملتها الصارمة استناداً إلى صمتٍ هش يحيط بالعالم الإسلامي المتشتت.
وكانت الصين نجحت أحياناً في استغلال نفوذها الاقتصادي والمالي لشراء الدعم أو الصمت، وذلك إلى جانب محاولة تغيير المبادئ التشغيلية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والضغط على مسؤولي الأمم المتحدة والحكومات الأجنبية للتخفيف من حدة النقد، ودعوة الدبلوماسيين والصحفيين الأجانب إلى زيارة شكلية إلى إقليم سنجان.
حتى أن باكستان، المستفيد الأكبر من مبادرة “الحزام والطريق” باستثمارات بلغت 45 مليار دولار أمريكي، فقد حدّت من انتقاداتها الأولية لحملة القمع في الإقليم.
وبصورةٍ مماثلة، تضغط الصين على ميانمار لإنعاش مشروع سد “مايتسون” المتوقف والبالغة تكاليفه ٣.٦ مليار دولار أمريكي. وفي حال بناء السد على أساس تصميمه القديم، فإنه سيغرق ٦٠٠ كيلومتر مربع من أراضي الغابات في ولاية كاشين الشمالية ويصدّر ٩٠٪ من الطاقة المنتجة إلى الصين.
ويُقال إن الصين تعرض في مقابل ذلك دعم ميانمار التي أدانتها الأمم المتحدة والدول الغربية وبعض الدول الإسلامية بسبب حملتها القمعية ضد الروهينغا التي تسببت في فرار نحو ٧٠٠ ألف منهم إلى بنغلاديش العام الماضي.
وفي محاولة للتهدئة من حدة الانتقادات الموجهة للصين في آسيا الوسطى والتي تتزايد فيها المشاعر المعادية لها جرَّاء سياستها في إقليم سنجان، فقد وافقت الصين خلال الشهر الجاري على السماح لنحو ألفي كازاخي بالتخلي عن جنسيتهم الصينية ومغادرة البلاد.
ويأتي هذا القرار في أعقاب شهادةٍ أدلى بها معتقل سابق بمعسكر لإعادة التثقيف أمام محكمة كازاخية شرح خلالها بالتفصيل أوضاع ثلاث منشآتٍ يحتجز فيها نحو ٧٥٠٠ كازاخي ومواطن صيني كازاخي. وأدت هذه الشهادة إلى انتقادات حادة في البرلمان وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويبدو أن التناقض التام بين الصين والمفاهيم الغربية الخاصة بحقوق الإنسان بات جزءاً لا يتجزأ من صراع أكبر للهيمنة على مستقبل التكنولوجيا والتأثير العالمي.
وكانت منظمة “فريدوم هاوس” قد أفادت في العام الماضي، وهي منظمة لمراقبة أوضاع الحريات مقرها واشنطن، أن الصين تصدّر أنظمة مراقبة متطورة قادرة على تحديد التهديدات للنظام العام إلى ما لا يقل عن ١٨ دولة، كما سهّلت قمع حرية التعبير في ٣٦ دولة أخرى.
وقال أدريان شاهباز، كاتب التقرير: “إنّهم ينقلون معاييرهم عن الكيفية التي ينبغي أن تحكم بها التكنولوجيا المجتمع”.
ويختم دورسي مقالته بالإشارة إلى ما قالته ناديجا رولاند، وهي زميلة بارزة في المكتب الوطني للبحوث الآسيوية بواشنطن، في حديثها لوكالة بلومبيرغ. وقالت رولاند في هذه المقابلة ما يلي: “روح عام ١٩٨٤ ما تزال تشكل مكوناً من مكونات النظام (الصيني)، وهذا الأمر مخيفٌ للغاية”.