نشر موقع “The Conversation” مقالةً سلّطت الضوء على ما لعبته الأغاني الشعبية من دور في الحراك السياسي الذي عاشه السودان على مدار ثلاث انتفاضاتٍ من تاريخه. ويقوم صاحب المقالة محمد ساتي، الأستاذ المساعد المختص في مجال الاتصالات والإعلام بالجامعة الأمريكية في الكويت، باستعراض أثر الأغاني المماثلة لـ “أم ضفاير” أو “أكتوبر الأخضر” في وجدان الشبان الذين تحركوا في عام ١٩٢٤ ضد الاحتلال البريطاني، وفي عام ١٩٨٥ ضد الحكومة العسكرية. ويناقش صاحب المقالة في الوقت نفسه البعد الموسيقى لاحتجاجات السودانيين بصفةٍ عامة.
ويرى ساتي أن الانتفاضة الشعبية التي يشهدها السودان تحمل في طياتها طابعاً غنائياً وموسيقياً. واتخذ السودانيون من عبارة “تسقط بس!” شعاراً لثورتهم ضد الديكتاتور العسكري عمر البشير الذي دام حكمه لمدة ثلاثين عاماً. وكانت وتيرة الاحتجاجات التي بدأت في ديسمبر من عام ٢٠١٨ قد تصاعدت على مدار الأسابيع التالية وبما أجبر البشير على التنحي في ١١ أبريل ٢٠١٩.
ولعب اعتصام السودانيين دوراً حاسماً في هذه الانتفاضة، إذ احتشدوا أمام مقر قيادة الجيش السوداني وسط الخرطوم. ورفض المتظاهرون على مدار خمسة أيام التزحزح عن موقفهم حتى قام الجيش بإجبار الرئيس على التنحي.
وقامت الحكومة بطرد معظم وسائل الإعلام الدولية عندما بدأ زخم الثورة بالتصاعد أوائل شهر أبريل الجاري. ولهذا السبب، فقد توقف توثيق انتفاضة السودان على ما تقوم الهواتف النقالة الخاصة بالمواطنين بالتقاطه من صور ومقاطع فيديو. وسرعان ما تم تناقل هذه الصور ومقاطع الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي لتصل إلى السودانيين المقيمين في الخارج وما تبقى من العالم. واستمرت وسائل الإعلام المحلية في بث برامجها المعتادة رغم الجهود التي بذلتها الحكومة لفرض تعتيم إعلامي كامل على ما يحدث في السودان.
ويلفت ساتي النظر إلى أن الإيقاع الموسيقي المألوف كان الشيء الوحيد الجامع بين جميع اللقطات التي تم تسجيلها من قلب الثورة السودانية. وجرت العادة في السودان على أن تصاحب الموسيقى الخطاب السياسي.
ويُقال في المثل إن أي سوداني هو سياسي بالضرورة، في إشارةٍ إلى تسلل السياسة إلى المحادثات اليومية المعتادة. كما يُعرف عن السودانيين حبّهم للموسيقى وحفظهم للعديد من الأغاني الشعبية عن ظهر قلب.
وتميزت الثورات السابقة التي شهدتها البلاد بظهور أغانٍ معينة. ويرى صاحب المقالة أن الوضع كان مختلفاً في هذه المرّة، على الرغم من ترديد المحتجين شعارات موسيقية صاحبها إيقاع مستمر للطبول.
السياسة والموسيقى
ليست العلاقة بين الموسيقى والسياسة بجديدة على السودان، إذ تُعدّ أغنية “أم ضفاير” للشاعر والمعلم عبيد عبد النور مثالاً قديماً ومعبّراً عن دور الكلمات القوية في قيادة التغيير السياسي.
وكانت هذه القصيدة التي كُتبت في عام ١٩٢٤ قد حثّت السودانيين على النهوض في وجه الاحتلال البريطاني ومواجهته. وأبرزت كلمات الأغنية بفصاحة أهمية الأمة وحثّت الشباب على الكفاح من أجل وطنهم. ويمكن القول إن كلمات عبد النور الثائرة ألهمت الآخرين ليدمجوا المحتوى السياسي في أغانيهم.
وصدح المطرب السوداني القدير محمد الوردي بأغنية “أكتوبر الأخضر” في أداءٍ شهير شهدته ثورة عام ١٩٦٤ التي أطاحت بحكومةٍ عسكرية ومهدت الطريقة لحكومةٍ مدنية. وتغنّت كلمات الأغنية بقدرة الناس على إحداث التغيير السياسي. وتم استخدام كلمة “أخضر” للإشارة بشكلٍ مباشر إلى الزراعة وما تلعبه من دورٍ هام في اقتصاد السودان.
وشهد السودان في عام ١٩٨٥ انتفاضةً شعبية غيّرت من جديد القائمين على سدّة الحكم. وخرج الناس مجدداً إلى الشوارع لإسقاط الحكومة العسكرية. ومن جديد، تمّ تمهيد الطريق لانتخاب حكومةٍ مدنية. ولعبت الأغاني مجدّداً دوراً رئيسياً في الثورة.
وكان لكلمات الوردي دورٌ قوي هذه المرة أيضاً. وأشارت أغنية “يا شعباً لهبك ثوريتك” إلى ما حمله السودانيون في داخلهم من ثقة وإيمان. ودعا الوردي السودانيين في أغنيته إلى الانتفاض والدفاع عن حقهم والتحكم في مصيرهم. وذكَّرت هذه الكلمات السودانيين بقدرتهم على العمل بعزم، وبما يعود في نهاية المطاف بالخير على بلدهم.
وتُوفي الوردي في عام ٢٠١٢. وما يزال المغني الأسطوري يُحتفل به باعتباره “آخر ملوك النوبة”.
الأغاني كسلاح
عانى السودان لحوالي خمسة عقود من ويلات الديكتاتورية العسكرية منذ استقلاله عام ١٩٥٦، علماً بأن شعب السودان من الشعوب التي تتوق للحصول على الحرية السياسية.
وتجدر الإشارة إلى عدم إتاحة الفرصة أمام أي من الحكومات المدنية الديمقراطية باستكمال ولايتها في الحكم. ويرى ساتي أن هذا السبب هو الذي دفع السودانيين إلى استخدام الأغاني لغرس الإيمان بقدرة الشعب نفسه. ويبدو أن الموسيقى تقلل في الوقت نفسه مما يعتري الناس من ألمٍ ومعاناة في الأوقات الصعبة.
وأظهرت ثورات ١٩٦٤ و١٩٨٥ و٢٠١٩ أن المصاعب السياسية والاقتصادية تدفع الناس إلى تحدي الحكومات.
ويشير صاحب المقالة إلى ما تتمتّع به الأغاني من قدرة على توحيد الصفوف، حيث تعد انتفاضة عام ٢٠١٩ خير دليل على ذلك. وصدح السودانيون مراراً وتكراراً أثناء التظاهرات بعبارات “حرية”، و”شعب واحد، جيش واحد”، و”الشعب يريد إسقاط النظام”.
وجرت العادة على أن يترافق الهتاف بهذه الشعارات مع تأدية الأغاني وقرع الطبول، ناهيك عن استخدام الحركات الراقصة بالقدمين والفخذين. وفي يوم إسقاط البشير، تم بث مقطع فيديو لمجموعةٍ من المتظاهرين أثناء عزفهم للموسيقى. وفي الوقت الذي كان يعزف فيه أحد أعضاء هذه المجموعة على الساكسفون، كان شخصٌ آخر يقرع على الطبلة. وتزامن هذا العزف مع مشاركة باقي أفراد المجموعة في الاحتفالات.
ويرى ساتي أن الأغاني شكلت الدافع والمرشد والملهم لما حدث في عام ٢٠١٩. وكان من الممكن إثناء المتظاهرين بسهولة عن تحقيق هدفهم المتمثل في تغيير النظام، خاصةً وأن البشير تحوّل خلال عقود حكمه الثلاثة إلى حاكمٍ ماكر ومراوغ. وأدى هذا الأمر إلى انتشار الخوف من إمكانية سحق الانتفاضة بصورةٍ مماثلة لما حدث في مراتٍ سابقة. وبحسب صاحب المقالة، فإن إسقاط البشير ليحل محله وزير دفاعه لا يشكل التغيير الديمقراطي الذي يبحث عنه المحتجون، لافتاً إلى أن الأيام المقبلة ستكشف لنا عن سيناريو ما ستفضي إليه الأمور.
ويختم ساتي مقالته بالتالي: “بصرف النظر عمّا ستؤول إليه الأمور، فقد صمد المتظاهرون وتوحدوا تحت راية هدف مشترك، واسترشدوا بأغاني الحرية الوطنية التي ستُحفر في سجلات تاريخ السودان في نهاية المطاف”.