وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الدبلوماسيّة الصينيّة في الشرق الأوسط: أدوار فاعلة ومستجدة

لقد تطورت الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط من نهج متحفظ تقليديًا إلى دور أكثر حزماً واستباقية، وخاصة منذ عام 2023.

الدبلوماسيّة الصينيّة الشرق الأوسط
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان آل سعود (يمين) يستقبل الرئيس الصيني شي جين بينغ (يسار) في قصر اليمامة في الرياض، المملكة العربية السعودية. Royal Court of Saudi Arabia / ANADOLU AGENCY / Anadolu via AFP

علي نور الدين

منذ إطلاقها مشروع الحزام والطريق عام 2013، عُرفت الصين بمبادراتها الاقتصاديّة والاستثماريّة الجريئة، التي تتناسب مع مصالحها كقوّة صناعيّة كبيرة تعتمد قطاعاتها على التصدير. غير أنّ أداء الدبلوماسيّة والسياسة الخارجيّة الصينيّة، وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط، ظلّ يتّسم بالتحفّظ والهدوء، والبُعد عن الصّخب والتدخّلات السياسيّة الحادّة.

بل وكان يُأخذ على الصين سابقًا عدم تناسب نفوذها السياسي المتواضع نسبيًا، في الشرق الأوسط، مع حجم مصالحها وتأثيرها الاقتصادي في تلك المنطقة. وهو ما يعني وجود فرصة تسمح للصين أن تلعبَ أدورًا سياسية أكثر حيويّة.

لكن منذ العام 2023، بدا أن السياسة الخارجيّة الصينيّة بدأت تتجه نحو أدوار أكثر جرأة وفعاليّة على مستوى منطقة الشرق الأوسط. وذلك من خلال التوسّط في العديد من النزاعات القائمة، أو اتخاذ مواقف أكثر وضوحًا بخصوصها، والقيام بتدخّلات فاعلة للتأثير على مسارها.

وكان هذا التحوّل جزءًا من التوجّهات الصينيّة التي أقرّها المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الحاكم، خلال العام 2022، والتي نقلت السياسة الخارجيّة الصينيّة إلى موقع المُبادرة.

أدوار وتدخلات مستجدة في الشرق الأوسط

في 10 آذار/مارس 2023، فاجأت الصين العالم بعد نجاح وساطتها بين إيران والمملكة العربيّة السعوديّة، وهو ما أفضى إلى صدور بيان وقّعته الدول الثلاث، للإعلان عن المصالحة بين الدولتين الشرق أوسطيّتين. وكانت تلك المصالح ثمرة المباحثات التي عُقدت في العاصمة الصينيّة بكين، على مدى الأيّام الخمسة السابقة، وبمتابعة مباشرة من الرئيس الصيني شي جين بينغ.

وفي النتيجة، استعادت السعوديّة وإيران علاقاتهما الدبلوماسيّة، وفعّلا العديد من مسارات التواصل والتفاوض في ملفّات سياسيّة عدّة، بعد سبع سنوات من انقطاع هذه العلاقات.

يومها، نُسب إلى الصين هذا النجاح الدبلوماسي الباهر، الذي أسّس لحقبة جديدة من العلاقات بين ضفّتي الخليج العربي. وكان من الواضح أنّ هذا النجاح قد جاء بتأثيرٍ من اندفاعة شي جين بينغ باتجاه الاهتمام بملفّات المنطقة، بعد زيارته إلى السعوديّة، التي سبقت الوساطة والمصالحة بنحو ثلاثة أشهر.

مع الإشارة إلى أنّ تلك الزيارة شهدت توقيع اتفاقيّات اقتصاديّة واستثماريّة بين الصين والسعوديّة، بقيمة 29.26 مليار دولار أميركي. كما حرص “شي” على عقد قمّتين، خليجيّة-صينيّة وعربيّة-صينيّة، للاستفادة من تلك الجولة.

في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وبالتزامن مع ترؤّس الصين لمجلس الأمن الدولي، اختارت وزارة الخارجيّة في بكين أن تستضيف مباحثات مع وفد مشترك يمثّل دول مجلس التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربيّة. وكانت الغاية من هذه المباحثات التمهيد لاتخاذ الصين موقفًا من الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، ومن ثمَّ صياغة تدخّل فاعل في هذا النزاع.

وبالفعل، أثمرت المباحثات عن ورقة موقف صينيّة جرى الإعلان عنها في مطلع شهر كانون الأوّل/ديسمبر 2023، أعلنت فيها بكين عن رؤيتها لحل النزاع. وفي تلك الورقة، طرحت الصين فكرة عقد مؤتمر دولي جديد للسلام في منطقة الشرق الأوسط، لوضع خارطة طريق تفرض حل الدولتين في المستقبل، تحت رعاية الأمم المتحدة ووفق حدود العام 1967. كما طرحت الورقة مقترحات أخرى عاجلة تتعلّق بآليّات وقف إطلاق النار في غزّة وحماية المدنيين والمساعدات الإنسانيّة ودور مجلس الأمن في الوساطة الدبلوماسيّة.

بعد صياغة هذه الورقة، انطلقت بكين في تدخلاتها الدبلوماسيّة لتسهيل تنفيذ هذا الحل، الذي كان يستلزم أولًا وجود الحد الأدنى من التوافق السياسي ووحدة الموقف، بين الفصائل الفلسطينيّة. وفي هذا السياق بالذات جاء “إعلان بكين” في يوليو/تمّوز 2024، برعاية الصين نفسها، وبتوقيع أربعة عشر فصيلًا فلسطينيًا من بينهم حركتي حماس وفتح.

في ذلك الإعلان، وافقت الفصائل الفلسطينيّة على فكرة تشكيل حكومة وفاق وطني بينها، لتوحيد القرار السياسي الفلسطيني، وتسهيل التفاوض على إقامة الدولة الموحدة طبقًا لقرارات الأمم المتحدة.

ولتأمين التوافق العربي حول هذا المشروع، استبقت الصين “إعلان بكين” بعقد “منتدى التعاون العربي-الصيني” في أواخر أيّار/مايو 2024، بمشاركة رسميّة من جامعة الدول العربيّة وأعضائها. وبطبيعة الحال، جاءت مقرّرات المنتدى بخصوص الحرب على غزّة مطابقة لمضامين ورقة الموقف الصينيّة، والتي ترجمتها لاحقًا وثيقة “إعلان بكين” الموقّعة من قبل الفصائل الفلسطينيّة.

نقاط قوّة التدخلات الصينيّة

على هذا الأساس، من المرتقب أن تبني الصين على ما حققته من خلال “إعلان بكين” ومقرّرات “منتدى التعاون العربي-الصيني”، للتفاوض باتجاه عقد مؤتمر دولي جديد للسلام وإنهاء الحرب. ومن المؤكد أن الصين ستحاول هنا فرض نفسها كوسيط وراعٍ دولي، لهذا المؤتمر، إلى جانب اللاعبين الإقليميين والدوليين الآخرين. وهذا ما يختلف عن مؤتمرات السلام السابقة، التي اتّسمت بهيمنة كبيرة لوسيط دولي رئيس، هو الولايات المتحدة الأميركيّة.

ومن المبكر أن نحسم الجدل حول احتمالات نجاح الدبلوماسيّة الصينيّة وتدخّلاتها في المنطقة. ومع ذلك، يمكن الإشارة إلى عوامل القوّة التي تراهن عليها الصين، لإنجاح مساعيها وتدخلاتها المستجدة في منطقة الشرق الأوسط.

إذ منذ مرحلة التسعينات، تخلّت الصين عن اللّغة الإيديولوجيّة الصارمة في سياساتها الخارجيّة، وتحديدًا تلك المتصلة بنشر الشيوعيّة ودعم الحركات الاشتراكيّة حول العالم. وهذا ما أسفر –منذ ذلك الوقت- حذر الكثير من الأنظمة المُحافظة، كحال الأنظمة الملكيّة العربيّة، إزاء الدور الصيني أو تدخلاته. وبذلك باتت الصين أكثر قدرة على بناء علاقات براغماتيّة في منطقة الشرق الأوسط اليوم، مقارنة بحقبة الحرب الباردة.

وفي الوقت عينيه، أدّت الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة إلى المزيد من التباعد ما بين تطلّعات الشعوب العربيّة والإسلاميّة، والأدوار التي لعبتها بعض الدول الغربيّة، إلى جانب إسرائيل. وبهذا الشكل، تطمح الصين إلى طرح نفسها كوسيط أكثر براغماتيّة وتوازنًا، مقارنة بالدور الذي اعتادت أن تلعبه الولايات المتحدة الأميركيّة وبعض حلفائها الغربيين.

أمّا الأهم، فهو أنّ هذا الدور الصيني لا يتعارض –في الوقت عينيه- مع مقاربات بعض الأنظمة العربيّة التي تتبنّى خيار التطبيع مع إسرائيل أو تطبيق حل الدولتين.

بهذا المعنى، يمكن للصين أن تلعب دورًا في مد الجسور مع الأطراف والحركات التي فقدت الثقة بالدور الغربي من جهة، ومنها حركات مثل حماس ودول مثل إيران وسوريا. كما يمكن أن تكسب ثقة الدول والحركات التي تراهن على حلول أكثر سلميّة وبراغماتيّة، كحال بعض أنظمة دول الخليج العربي مثلًا، أو حركة فتح. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم النجاح الصيني في إطلاق “إعلان بكين”، أو عقد “منتدى التعاون العربي-الصيني”.

وعند بناء هذا الهامش من الحركة، تمتلك الصين ميزة مهمّة مقارنة بالدول الغربيّة، وهي عدم لعبها أدوارًا استعماريّة في الماضي، وعدم مشاركتها في تدخلات أو احتلالات عسكريّة مباشرة في منطقة الشرق الأوسط.

ولذلك، لا تملك الصين الكثير من الحساسيّات التي تحد من دورها، أو تعرقل أي مبادرة يمكن أن تقوم بها. وبالإضافة إلى كل ذلك، من المؤكد أن الصين تراهن على موازاة جهودها الدبلوماسيّة، مع نفوذها الاقتصادي المتزايد في منطقة الشرق الأوسط، بفعل الاستثمارات التي يجري ضخّها هناك.

حدود وأهداف الدور الصيني

في المقابل، تحد من الدور الصيني المُستجد مجموعة من العوامل. فالصين، وبخلاف الولايات المتحدة الأميركية، لا تملك الكثير من أوراق الضغط لفرض خياراتها، على لاعبين مثل إسرائيل. وهذا ما يقلّص من قدرتها على التوسّط لوضع صفقات شاملة، يمكن أن تضع نهاية للحرب الراهنة، وفقًا لورقة الموقف الصينيّة الأساسيّة.

بل ومن المعلوم أيضًا أن الصين لا تملك أساطيل حربيّة في منطقة الخليج العربي، كحال الولايات المتحدة الأميركيّة، وهو ما يمنعها من تقديم ضمانات دفاعيّة لدول الخليج العربيّة، مقابل أي تفاهم سياسي.

ولهذه الأسباب، ثمّة الكثير من الأسئلة حول احتمالات نجاح خارطة الطريق التي تقدّمها الصين لجميع اللاعبين في المنطقة، ما لم يكن هناك تعاون إيجابي مع بعض اللاعبين الدوليين الآخرين، مثل الولايات المتحدة الأميركيّة. وهذا ما يفسّر إصرار الصين في الكثير من بيانات مسؤوليها على التشديد على أنّها لا تسعى لملء أي فراغ في المنطقة، ما يعني أنّها لا تسعى للحلول مكان الدور الأميركي في الشرق الأوسط.

هكذا، يمكن القول إنّ الصين تحاول استحداث دور أو مساحة خاصّة بها، دون الاحتكاك المباشر بمساحات النفوذ الأميركيّة التقليديّة.

أمام هذا المشهد، يبقى من الضروري التنويه أن اهتمام الصين بالمنطقة ينبع من مصالح واضحة لا يمكن تجاهلها. فالصناعات الصينيّة تعتمد على نفط منطقة الخليج العربي لتأمين نحو نصف حاجاتها من النفط، وهو ما يجعل أمن الطاقة لديها مرتبطًا بملفّات الشرق الأوسط.

أو بعبارة أوضح، يعتمد استقرار سلاسل توريد النفط بالنسبة لبكين، على استقرار منطقة الشرق الأوسط، وتفادي سيناريوهات الحرب الإقليميّة الشاملة التي ستؤثّر حكمًا على خطوط إمداد مصادر الطاقة.

وبموازاة ذلك، من الطبيعي أن تأخذ الصين دائمًا بعين الاعتبار الموقع الجغرافي لدول الشرق الأوسط، التي تجعلها شديدة التأثير على خطوط التجارة الدوليّة البحريّة. وهذا ما يتّسم بحساسيّة خاصّة بالنسبة للصين، الشديدة الحرص على أمن ممرّات تصدير سلعها من شرق آسيا إلى أوروبا ودول شمال أميركا.

وإلى جانب هذا العامل، تحرص الصين كذلك على سلامة استثماراتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تجاوزت قيمتها الـ 318 مليار دولار أميركي بين عامي 2005 و2023.

هكذا، يصبح الاهتمام السياسي الصيني بالمنطقة ترجمة لمصالح إستراتيجيّة واضحة المعالم. كما يصبح شكل هذا الاهتمام متّسقًا مع حدود الدور الصيني، مقارنة بدور الولايات المتحدة واللاعبين الأساسيين على المستوى الإقليمي.

لكن وعلى الرغم من ذلك، تراهن الكثير من القوى والدول العربيّة في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها حلفاء الولايات المتحدة، على دور ما للصين، لتنويع علاقاتها السياسيّة وتحقيق الحد الأدنى من التوازن في المنطقة. وهذا لن يعني الاستغناء عن الشراكات الموجودة مع الغرب، أو حتى استبدال بعض هذه الشركات.