وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مبارزة المصالح الذاتية: روسيا وتركيا في سوريا

Syria- Putin and Erdogan
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يسار) والرئيس التركي رجب طيب أردوغان (يمين) ينتظران دخول القاعة أثناء اجتماعهما في مقر بوتشاروف روشي في منتجع سوتشي على البحر الأسود، في سوتشي، في 17 سبتمبر 2018. Photo AFP

على الرغم من أن الحرب في سوريا كانت تبدو ظاهرياً حرباً أهلية، إلا أن الأطراف المتحاربة اعتمدوا منذ سنواتٍ مبكرة على المساعدة وحتى القوة العسكرية من القوى الأجنبية. تركيا وروسيا اثنين من اللاعبين الرئيسيين، ولكن كيف انسجمت أو تضاربت أهداف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في سوريا؟

خطط بوتين

إن نهج روسيا تجاه سوريا، كحال النهج التركي، تشكله علاقاتٌ ومصالح ذاتية طويلة الأمد. فطوال الكثير من الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي حليفاً وفياً للجمهورية العربية السورية، إذ كانت موسكو مصدراً موثوقاً للأسلحة والدعم النقدي، مما منح الكرملين نفوذاً لتشكيل ديناميكيات السلطة الإقليمية والمشهد السياسي في الشرق الأوسط.

يبدو أن منطقاً مشابهاً قد عزز قرار بوتين بدعم نظام بشار الأسد منذ عام 2011. فعلى الرغم من أن روسيا حافظت على علاقاتٍ حميمة مع سوريا في العقود التي تلت الحرب الباردة، إلا أن تحميل السوريين ديناً في رقبتهم منذ عام 2011 خدم رغبة الكرملين في إعادة تأسيس وساطة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط.

تزامنت بداية الصراع مع تداعي المكانة الدولية لروسيا: منبوذةٌ من الغرب ودون أي دورٍ ذي مغزى في الشرق الأوسط، حيث تساءل الكثيرون عما إذا كانت روسيا لا تزال تستحق مكانتها كقوةٍ عظمى، التي استحقتها خلال القرن العشرين. ومن خلال دعم حكومة الأسد وبالتالي استفزاز بعض القوى الغربية والإقليمية التي كانت تأمل في رؤية نجاح الثورة، أقحمت روسيا نفسها على طاولة المفاوضات الدولية. عززت هذه المكانة عندما استخدم بوتين نفوذه في دمشق من أجل هندسة التدمير المفترض للأسلحة الكيميائية السورية، في عمليةٍ تهدف لإعاقة الخطط الأمريكية بقصف النظام السوري لاستخدامه هذه الأسلحة ضد مواطنيه.

ومنذ عام 2015، نشرت موسكو طائراتٍ ثم قواتٍ في سوريا، مؤكدةً دعم روسيا القوي للأسد. وفي السنوات التي تلت ذلك، دعمت القوات الروسية التقدم السوري بقوة سلاحٍ مدمرة (وغالباً عشوائية)، في حين لعبت القوات الروسية دوراً أكثر دعماً. (من الجدير بالذكر انتشار المرتزقة الروس في سوريا، الذين لعبوا دوراً هجومياً أكثر، وذلك حسبما ورد لتأمين حصصٍ تجارية في المناطق الغنية بالنفط التي استهدفوها).

كانت هذه القوات الروسية متمركزة إلى حدٍ كبير في قاعدة حميميم الجوية ويتم تزويدها بالمؤون عبر الميناء في طرطوس، في ترتيبٍ مدعوم بمعاهدةٍ مكتوبة.

ومن شبه المؤكد أن دور روسيا في سوريا قد أفاد بوتين في الداخل. فقد كان هناك بعض الاهتمام الإعلامي والغضب الجماهيري المحدود حول الضحايا الروس من المقاتلين، إلا أن الخسائر الأكبر في الأرواح تكبدتها جماعات المرتزقة وليس القوات الرسمية، مما خفف الضغط على الكرملين.

في المقابل، استمر المسؤولون الروس طوال مشاركتهم في سوريا بالقول أنهم “يكافحون الإرهاب،” مدعين أنهم يستهدفون تنظيم الدولة الإسلامية خلال غاراتٍ على مناطق تسيطر عليها جماعاتٌ متمردة أخرى. ففي بلدٍ يكافح خطر الإرهاب الداخلي منذ عقودٍ من الزمان، فلا شك أن هذا الخطاب (مهما كان سطحياً) يمس وتراً حساساً لدى العديد من الروس. وعلى الرغم من الأدلة التي تشير إلى أن أجهزة الاستخبارات الروسية سهلت مرور العديد من الجهاديين الروس إلى سوريا، إلا أن استهدافهم في سوريا، ظاهرياً، كان لربما مبهجاً للجماهير في الديار.

Syria Foreign Military Bases AR 3000
المصادر: Wikipedia, Institute for the Study of War and MEMRI. اضغط للتكبير. @Fanack ©Fanack CC BY 4.0

أهداف أنقرة

لطالما كانت علاقة أنقرة عدائيةً تجاه دمشق، إذ يتجذر ذلك في حقيقة وجودهما على طرفي نقيض في الحرب الباردة، والنزاع التاريخي حول ملكية إقليم هاتاي ودعم دمشق لتمرد حزب العمال الكردستاني في تركيا. وفي الوقت الذي تحسنت فيه العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأولى من حكم الأسد، أدخل قمع النظام للثورة الوليدة في عام 2011 الفتور مجدداً للعلاقات الثنائية بينهما.

فقد شكلت هذه العداوة طويلة الأمد تصرفات تركيا في سوريا، كما لطالما كانت أنقرة من أشد المؤيدين للإطاحة بعائلة الأسد من السلطة. وبالتالي، ظلت تركيا تقف إلى جانب المتمردين السوريين وحتى بعض الإسلاميين المتشددين خلال الحرب، حيث كانت تتم معالجة جرحى المقاتلين في تركيا، بينما تزودهم أجهزة الاستخبارات بالأسلحة، وكانت تركيا بمثابة منطقةٍ للراحة والاستجمام للمقاتلين المتمردين المرهقين من الحرب وأسرهم.

كما كانت أنقرة منتقدةً صريحة لنظام الأسد ومؤيديه، لتكتسب سمعةً بكونها حامي حمى الثورة السورية على المسرح العالمي ومأوى للاجئين منها. كان هذا بمثابة عامل توازنٍ رئيسي للمخاوف خلال العقد الماضي في ظل تراجع سجل حقوق الإنسان في تركيا وتزايد السلطوية، مما سمح لها بالاحتفاظ بمكانة أخلاقية رفيعة نوعاً ما في المنطقة.

ومع ذلك، لطالما كانت أولوية أنقرة في الدرجة الأولى هي مخاوفها الأمنية والجيوسياسية، بل استخدمت أيضاً تدفق اللاجئين السوريين كورقة مساومةٍ مع الاتحاد الأوروبي للحصول على المزيد من الأموال وحتى إمكانية الانضمام إلى الاتحاد. في الواقع، وعلى الرغم من دعمه الطويل الأمد للمتمردين السوريين، أقر أردوغان في أوائل عام 2019 بأن وكالات الاستخبارات التركية والسورية حافظت على علاقاتهما، لربما كانت خطوةً عملية إلا أنها تحمل في جوهرها مصلحةً ذاتية. وطوال جلبة الحرب، أبقيت تركيا تركيزها صوب تهديد المقاتيلن الأكراد، الذين يمكن القول أنهم أولويتها القصوى. المخاوف من انسحاب القوات الأمريكية، وترك الأكراد في سوريا عرضةً للهجوم، يعزز هذا فحسب.

عدو عدوي

في حين أن روسيا وتركيا قد خلقتا وحافظتا على استقرار الوضع الراهن نسبياً فيما يتعلق بمصالحهما المتضاربة، إلا أن مصالحهما لا تجتمعان سوى بعدم إعاقة مصالح كلٍ منهما. ومع ذلك، في عام 2015، أسقطت تركيا طائرةً عسكرية روسية على الحدود السورية، مما أثار غضب موسكو وفرض عقوباتٍ اقتصادية مؤقتة.

وبغض النظر عن ذلك، فإن روسيا راضيةٌ إلى حدٍ كبير بالسماح لتركيا بالسيطرة، دون قيود، على شريحةٍ من شمال سوريا. وفي الوقت نفسه، أنهت تركيا دعمها الواضح بشدة للمتمردين الإسلاميين في محافظة إدلب، حيث أوقعتهم بفخ حربٍ لا يمكن الفوز بها، والتي يبدو أن مصيرها سينتهي بإعادة سيطرةٍ دامية على المحافظة من قبل الأسد وروسيا.

كانت اتفاقيات أستانا المفتاح لهذا. ساحةٌ للتفاوض خارج نطاق نفوذ الولايات المتحدة وتأثير القوى الغربية، حيث سمحت هذه الاتفاقيات لتركيا وروسيا بصياغة تقسيمٍ خاصٍ بهما للسلطة في شمال سوريا، وترسيم حدود مناطق تخفيض التصعيد التي تحدها نقاط مراقبةٍ تحصنها قوات كل بلد. منح ذلك أنقرة مناطق واضحة لبسط نفوذها في شمال غرب سوريا، بينما سمح ذلك لموسكو بالوقت نفسه برسم “خط وهمي” لتوسع المتمردين. فقد تمت السيطرة رسمياً على معقل سوريا الرئيسي للمقاومة العربية، بمواقع لقواتٍ تركية وروسية تحدد حدوده. وعلى نحوٍ منفصل، بدا أن الغزو التركي لمنطقة عفرين في شمال سوريا قد تم التفاوض عليه مسبقاً مع موسكو، حيث تم سحب القوات الروسية من المنطقة قبل بدء التوغل العسكري.

أما في شمال شرق سوريا، فهذه العلاقة أكثر تعقيداً. لطالما حافظت تركيا على رغبتها في إقامة منطقة آمنة مماثلة على طول الحدود – والتي فسرها الكثيرون على أنها تعني منطقة عسكرية عازلة ضد المسلحين الأكراد السوريين، الذين تزودهم الولايات المتحدة بالأسلحة، والمنفصلين عن حرب العصابات الكردية في تركيا. من جهتها، حافظت روسيا على موقفٍ محايد تجاه الأكراد السوريين، حيث دعمت دعوات الأسد بـ”إعادة توحيد” الحكم السوري، إلا أنهم في الوقت نفسه لم يهاجموا قواتهم. وعلاوةً على ذلك، من المرجح أن يكون التوغل العسكري التركي شرقا عبر نهر الفرات غير محبب من قبل موسكو، حيث أن ترسيخ النفوذ التركي في هذه المناطق (كما هو الحال في عفرين) سيجعل بالتأكيد إعادة السيطرة السورية أكثر صعوبة في المستقبل.

ألعاب مميتة

تتشارك كل من روسيا وتركيا بمصلحتهما في اختبار والتباهي بترسانتها العسكرية المصنعة محلياً في سوريا. وعلى الرغم من عدم وجود دليلٍ ملموس على أن روسيا وتركيا ساهمتا في إطالة أمد القتال، إلا أن كلاهما استخدم الصراع على نطاقٍ واسع للتفاخر بأسلحة كل منهما أمام عملاء دوليين محتملين.

فقد بلغ هذا ذروته، إلى جانب التعاون الذي دفعت به كلتا الدولتين لتعزيز مصالحهم في سوريا، بمحاولة تركيا، خلافاً لرغبات حلفاء أنقرة في حلف شمال الأطلسي، شراء نظامٍ صاروخي رئيسي مضاد للطائرات من روسيا، والذي قامت موسكو بنشره في سوريا.

يمكن القول أن مثل هذه الصفقة تحمل في طياتها سلبياتٍ أكثر من الإيجابيات بالنسبة لتركيا، إلا أنها ستميّز هذه الحقبة الجديدة للجيوسياسة الروسية التركية؛ حقبةٌ تضع فيها القوة العسكرية المُجددة والتحالفات الجيوسياسية الجديدة المصالح الذاتية فوق كل اعتبار.