وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التواجد التركي في شمال سوريا: أخٌ مُحب يتصرف بما فيه مصلحته

Syria- Turkish military syria
مقاتلون سوريون مدعومون من تركيا أثناء تدربهم في أحد المخيمات في ريف حلب، شمال سوريا، في 16 ديسمبر 2018. Photo AFP

أين تنتهي إعادة إعمار الحياة اليومية وبدء “تتريك” المجتمع السوري؟ يبدو أن هذا هو السؤال المحوري عند تقييم ما تقوم به الدولة التركية في مناطق شمال سوريا الخاضعة لسيطرتها. من الأمثلة الملموسة على ذلك: لا يمكن لأحدٍ أن يعترض على إعادة فتح مستشفى في بلدة جرابلس، ولكن ما الذي تفعله صور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على جدرانه؟

لا يتعلق الأمر فحسب بالجيش التركي وغيرها من القوات المسلحة المنتمية له والتي باتت تُهيمن على العديد من المناطق في شمال سوريا، بل إن الشركات التركية والدولة التركية وضعت لها موطىء قدمٍ هناك أيضاً. بدأ الأمر برمته مع أول عملية عابرة للحدود للجيش التركي في صيف عام 2016، عندما تمت استعادة السيطرة على بلدة جرابلس الحدودية من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش.” ومنذ ذلك الحين، وسعّت تركيا نفوذها غرباً، إذ كانت عفرين آخر احتلالٍ لها في أوائل عام 2018، في الجانب الشمالي الغربي من سوريا، الذي احتلته تركيا ووكلائها منذ ذلك الحين.

حتى الآن، ظلت تركيا على الجانب الغربي من نهر الفرات، بينما يحكم الجانب الشرقي وحدات حماية الشعب الكردية وذراعها السياسية حزب الإتحاد الديمقراطي، بدعمٍ من الولايات المتحدة الأمريكية في ظل جهودها المستمرة لتحييد داعش. بيد أن أردوغان صعد في الآونة الأخيرة من خطابه، معلناً عن عمليةٍ شرق النهر “خلال أيام.” وبسبب الوجود الأمريكي شرق الفرات، فإن شن عمليةٍ واسعة النطاق أمرٌ مستحيل، كما توّضح الصحفية أمبرين زمان. ومع ذلك، فمن المحتمل أن يتم إتخاذ إجراءاتٍ على نطاقٍ أضيق عبر الحدود، لربما في المدن التي لا يتواجد فيها الجيش الأمريكي مثل تل أبيض وراس العين. يدفعنا هذا إلى طرح سؤالٍ حول ما إذا كانت تركيا تسعى إلى “تتريك” المناطق الحدودية، وإذا كان الأمر كذلك، فإن السؤال الأكثر إلحاحاُ هو إلى أي مدى.

الإنترنت ومكاتب البريد

شرعت شركات المقاولات التركية في إعادة إعمار المنازل المدمرة وغيرها من المباني، كما وضعت شركات الإنترنت أبراجها في المدن لتوفير خدمات الإنترنت، في حين بدأ المعلمون من تركيا باستلام وظائفهم في المدارس السورية. وفي بعض المدن، تتبع الساعات التوقيت التركي، إذ أصبح المقيمين هناك متأخرون بساعة عن أقرانهم السوريين.

لم تلتزم تركيا السرية فيما يتعلق بأنشطتها في المناطق الخاضعة لسيطرتها، حيث اصطحبت مجموعاتٍ من الصحفيين الدوليين خلف الحدود للتباهي بجهودها في إعادة إعمار المنازل والأحياء المدمرة، وإعادة فتح المدارس والمستشفيات وتقديم الخدمات بعلاماتٍ تجارية تركية، مثل الإنترنت ومكاتب البريد. وأظهر أحد التقارير الصادرة عن فرانس 24 مدرسةً في سوريا تم تكريسها لضحايا محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في يوليو 2016. كما تساهم الصحف التركية، وخاصة تلك التي تمتلك مواقع إلكترونية باللغة الإنجليزية، في الصورة التي يريد أردوغان أن يرسمها للوجود التركي على الأراضي السورية: صورة الأخ الأكبر المُحب الذي يُساعد الناس بإيثارٍ وبلا كلل على الوقوف على أقدامهم مجدداً.

Syria- Turkish military syria
المصدر: Wikipedia, CSS Analyses in Security Policy, liveuaemap.com, TRT World. @Fanack.com

وفي حين أن قلة من الناس يعربون عن معارضتهم لأهمية تمكن الأطفال من العودة إلى المدارس، وعمل المستشفيات، وتدريب الشرطة، فإن السؤال المطروح هو ما مدى إيثار تركيا حقاً، وما هي مصالحها بالمنطقة؟

مصلحتها أولاً وقبل كل شيء عسكرية بحتة، إذ أن هناك قوة عسكرية أخرى في سوريا، وليس من قبيل المصادفة أن هذه القوة هي العدو اللدود لتركيا: حزب الإتحاد الديمقراطي وجناحها العسكري وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة. فهم يتبعون فِكر وقائد حزب العمال الكردستاني، الحركة الكردية المسلحة التي كانت في حالةٍ حرب مع الدولة التركية منذ عام 1984. وترى تركيا أن وجود “مقاتلي أوجلان” على طول حدودها أمرٌ غير مقبول. كما تدعي أن وجود داعش في المنطقة الحدودية كان إشكالياً، بالرغم أن هذا أمرٌ مشكوكٌ فيه. فعندما عبرت تركيا الحدود السورية للمرة الأولى في صيف عام 2016، كان تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مُنهكاً بالفعل. فقد كانت تدرك تركيا تماماً أن داعش الضعيفة لم يعد بإمكانها السيطرة على التوسع الإضافي لحزب الإتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة. وبالتالي، تولت تركيا هذه المهمة.

كانت هذه مجرد خطوةٍ تكتيكية، فمن خلال الاستثمار في المنطقة إدارياً وتجارياً، تخدم تركيا هدفاً استراتيجياً أطول أجلاً: تعزيز نفوذ البلاد في المنطقة وفي سوريا تحديداً، كقوةٍ تعمل ضد الرئيس السوري بشار الأسد، الذي تريد تركيا رؤيته خارج نطاق السلطة منذ بداية الانتفاضة في عام 2011. هذه الرغبة التوسعية مستوحاة من الأراضي الشاسعة التي كانت تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية آنذاك، العَظَمَة التي يحرص أردوغان على إحيائها. ففي نهاية المطاف، يُساهم الاعتماد التجاري والثقافي على تركيا في تعزيز هذا الهدف.

وأخيراً وليس آخراً، تأمل تركيا أن تساعد عودة الحياة إلى طبيعتها، في بعض أجزاء البلاد الذي مزقته الحرب على الأقل، على إقناع أكثر من ثلاثة ملايين لاجىء سوري بالعودة إلى ديارهم. إن مدينة مثل جرابلس، التي يوجد بها مدارس عاملة ومستشفيات وإنترنت وكهرباء، تتمتع بالجاذبية بالفعل، في حال كانت الأرقام الرسمية صحيحة: فقد نما عدد السكان من 5000 نسمة في ظل حكم داعش إلى ما لا يقل عن 140 ألف نسمة اليوم، وهو عددٌ يشمل كلا العائدين من تركيا والنازحين داخلياً من السوريين.

مستعمرٌ سابق

في هذه الأثناء، لا يزال من غير الواضح إلى حدٍ كبير إلى إي مدى تسعى تركيا في جهودها لإعادة تكوين أجزاء من شمال سوريا على شاكلتها.

يعتبر التعليم من الأمثلة المثيرة للاهتمام. فقد قدمت تركيا الكتب المدرسية والمعلمين الذين يتحدثون العربية. كما يُمكن اعتبار حقيقة أن الأطفال الآن يتعلمون اللغة التركية بدلاً من الفرنسية، كما كان يحصل بالعادة في جميع المدارس السورية، منطقيةً أيضاً، كما يوضح هذا المقال الذي نشرته فرانس 24. أليس من المفيد أكثر معرفة لغة الجار الشمالي المؤثر حالياً من تعلّم لغة المستعمر السابق؟ ومع ذلك، يطرح هذا أسئلةً أخرى. ماذا عن اللغات المحلية في المناهج الدراسية، مثل الآرامية والكردية؟ وما مدى تأثير الدولة التركية على محتوى الكتب المدرسية التي زودتها بها؟ بمعنى آخر، ما الذي يتعلمه الأطفال في ظل الحكم التركي في سوريا؟

تُظهر إجراءات تركيا تناقضاً مثيراً للاهتمام في سياساتها في سوريا. ففي نهاية المطاف، منذ بداية الحرب السورية وخاصة منذ أن بدأ الأكراد ببناء مناطق الحكم الذاتي في شمال سوريا، حذرت تركيا من تفكك جارتها الجنوبية، وضرورة احترام الوحدة السورية في جميع الأوقات. إن مخاوف تركيا من الحكم الذاتي للأكراد في سوريا ما بعد الحرب، والذي يمكن أن يُشجع الحركة الكردية في الداخل، ضاربة الجذور، ذلك أنها تقوض قوة الدولة. وعلى ما يبدو، لا يعتبر “تتريك” أجزاء من سوريا مسماراً في نعش سوريا.