بعد أن دخل جمال خاشقجي إلى القنصلية السعودية في 2 أكتوبر 2018 واختفى، استمرت أسابيع من التغطية الإعلامية والمشاحنات الجيوسياسية والتكهنات حول ما إذا كان خاشقجي قد قُتل، وكيف قُتل، في الدقائق والساعات التي أعقبت دخوله.
تمثل محور هذه القضية في كشف الأوراق بين الحكومة التركية، التي أخذت زمام المبادرة في المطالبة بإجاباتٍ من الرياض، وتلك في المملكة العربية السعودية، التي استخدمت مزيجاً من الأكاذيب والعوائق والتحريفات لإخفاء الحقيقة حول مصير خاشقجي..
ولقرونٍ عديدة، تنافست المملكة العربية السعودية وتركيا على النفوذ الإقليمي، الذي تمثل في السابق في المجال الديني بوجود العثمانيين، وفيما بعد بوصاية آل سعود على مكة والمدينة – أقدس الأماكن في الإسلام. وفي وقتٍ لاحق، شهد المشهد الجيوسياسي في القرن العشرين سقوط الإمبراطورية العثمانية، والهيمنة الاقتصادية للبترودولار، وتأثير الولايات المتحدة الأمريكية على الحرب الباردة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، مما وضع الأسس لمنافسةٍ جديدة بين هذين البلدين.
وخلال فترةٍ طويلة من النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، كانت هذه المنافسة تدور بالمقام الأول حول الاستثمار الأجنبي أو الدعم السياسي- أي كسب الدعم الأمريكي في المصادمات الإقليمية مثل التهديدات من سوريا (لتركيا) أو من العراق (للمملكة العربية السعودية). ولكن في العقد الأول من القرن العشرين، اشتعلت هذه المنافسة بالفعل. ومع وجود حكومةٍ إسلامية في السلطة في تركيا، أصبحت أنقرة والرياض، فجأة، تخوضان مزاحمةً في فضاءٍ ديني مماثل، وتحاول كلٌ منهما نشر نسختها الخاصة من الإسلام السني السياسي: الوهابية السعودية الأصولية أو حنين حزب العدالة والتنمية للإسلام ذو الجذور العثمانية. زمع عدم وجود مهيمن سياسي واضح في الشرق الأوسط، تزاحمت كل من أنقرة والرياض (بالإضافة إلى طهران) على هذه الهيمنة. سعت تركيا إلى إقامة صداقاتٍ سياسية مع الأحزاب الإسلامية مثل الإخوان المسلمين وحماس، في حين استخدمت السعودية نفوذها الاقتصادي للحصول على شراكاتٍ جديدة، لا سيما مع حكومات مثل مصر. ومع عدم وجود “منتصرٍ” واضح، تستمر المنافسة على الهيمنة الإقليمية حتى يومنا هذا.
إذاً، كيف استغل كلا البلدين قضية خاشقجي، وما الذي يعنيه هذا بالنسبة لعلاقتهما؟
كابوس العلاقات العامة
منذ نشر التقارير الأولية عن اختفاء خاشقجي، حاول السعوديون الحفاظ على رقابةٍ صارمة على الرواية الإعلامية المحيطة بمصيره، حيث قاموا بذلك من خلال إبعاد وسائل الإعلام المتطفلة وفي الوقت نفسه محاولة إعطاء معلوماتٍ كافية فقط للحفاظ على وهم البراءة والتعاون.
وبعد أيامٍ من دق نواقيس الخطر، قام القنصل السعودي بدعوة فريقٍ من وكالة أنباء رويترز للقيام بجولةٍ مطوّلة في جميع أرجاء مبنى القنصلية. كانت أبواب الخزائن مفتوحةً على مصراعيها، وبتكلّفٍ مثيرٍ للضحك، أمعنّ القنصل السعودي بالنظر خلف الأبواب ليؤكد أن خاشقجي لم يكن مختبئاً داخل المبنى.
فقد سعى السعوديون جاهدين للحصول على صورةٍ جديدة والحفاظ عليها، صورة بعيدة كل البعد عن الصورة النمطية البالية (الحقيقية في الغالب) لـ”نظامٍ شرقي أوسطي مُعذّب.” فهذه الحكومة السعودية مدركة تماماً لقوة ما تراه العين والعلاقات العامة، فقد بدأ حاكمها الفعلي، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان (مبس)، الذي يشرف على سير الأعمال اليومية للمملكة، جولةً لمدة أسبوعين في الولايات المتحدة في عام 2017 كجزءٍ من حملة علاقاتٍ عامة أوسع. فمع ظهوره مع مجموعة من المشاهير وقادة الأعمال الأمريكيين، حيث كان غالباً ما يرتدي قبعة البيسبول وبنطال الجينز بدلاً من الثوب التقليدي السعودي، كان محمد بن سلمان لا يحاول فحسب كسب ود قادتهم، بل الأمريكيين أنفسهم أيضاً.
المكان والزمان المناسبين؟
على الرغم من أن جريمة قتل خاشقجي كانت على ما يبدو جريمةً غير مخططٍ لها- إذ أن الصحفي السعودي كان يسعى للحصول على أوراقٍ ثبوتية للزواج عندما اغتنم المسؤولون السعوديون الفرصة للايقاع به بالفخ- إلا أنه من نواحٍ عديدة، كان التوقيت مثالياً.
فمن ناحية التحالفات الدولية، تركيا في أضعف حالاتها منذ عقود. فبعد عدة سنواتٍ من انتهاكات حقوق الإنسان التي حظيت بتغطيةٍ إعلامية واسعة، بات ينظر إلى الرئيس أردوغان على أنه حليفٌ ضروري، بالرغم من كونه غير مرغوب به، من قبل تحالفاتٍ غربية مثل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. فعلاقات تركيا مع كلٍ من الولايات المتحدة وأوروبا متوترة.
ومن ناحيةٍ أخرى، تتمتع المملكة العربية السعودية بفترة وردية من العلاقات الوثيقة – السياسية والاقتصادية والأيديولوجية – مع الولايات المتحدة. فبعد ما يقرب من عقدٍ من العلاقات الحذرة مع إدارة أوباما التي بدت حريصة على إبرام الصفقة النووية مع عدو السعودية اللدود، إيران، يبدو أن الرياض وإدارة ترامب أصدقاء مقربون.
وعلى الرغم من أن تركيا تعتبر لاعباً إقليمياً رئيسياً، إلا أنها بعيدة كل البعد عن كونها قوة عالمية. وبقدر خطورة هذه العملية السعودية، كان هناك بالتأكيد بعض الاعتبارات من جانب السعوديين أنه في أسوأ السيناريوهات، وفي حال تم اكتشاف جريمة القتل، سيكون لدى تركيا وسائل محدودة فقط للرد على الاغتيال السعودي البشع. فالرياض ترأس تحالفاً من الدول العربية تم تشكيله على أساس المعارضة المشتركة لإيران وقطر (حليفة تركيا)، والتعاون في الحرب في اليمن، والكراهية الشديدة للحركات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين التي تحميها تركيا. وبالتالي، عند إجراء حساباتهم، كانت السعودية تدرك بالتأكيد أنها ستكون، في المنطقة على الأقل، بمعزلٍ كبير عن الغضب التركي. ومع ذلك، قللت الرياض إلى حدٍ كبير من التداعيات الدولية لجريمة قتل خاشقجي، وهو كاتب عمودٍ معروف لصحيفة واشنطن بوست.
تسريبات قاتلة
منذ اليوم الأول لاختفاء خاشقجي، انتقدت الحكومة التركية مصيره وطاردت من يقفون وراء مقتله. بدأت الشائعات بامتلاك الأتراك تسجيلاتٍ صوتية ومرئية لمقتل خاشقجي تنتشر بعد وقتٍ قصير من جذب اختفائه الانتباه الدولي. ولبعض الوقت، لم يكن هناك أي دلائل على وجود هذه التسجيلات، التي أشارت إليها مجموعة من وسائل الإعلام، والتي تصدر ذكرها العناوين الدولية. وفي نهاية الأمر، تم الكشف عن أنه بالرغم من كونهم يمتلكون “الدليل الدامغ” منذ بداية البحث عن قاتليه، إلا أنه بعد أسابيع فقط من وفاة خاشقجي، شارك الأتراك أخيراً التسجيلات التي تم تسجيلها سراً من داخل القنصلية.
وفي حين كان الأمر يبدو بدايةً أن هذه المماطلة تهدف إلى حماية أنفسهم من الغضب الدولي لمراقبتهم السرية للسعوديين، ومخالفتهم الأعراف الدولية بانتهاكهم حرمة القنصلية، إلا أنه بدا واضحاً مع مرور الوقت أن تركيا تلعب لعبةً أكثر ذكاءً.
فقد كانت وكالات الاستخبارات التركية غارقةً في إيصال التسريبات إلى وسائل إعلامٍ أجنبية ومحلية على نطاقٍ غير اعتيادي في ظل عصر حملة التطهير وتنامي الاستبداد في تركيا. الاستنتاج الواضح أن هذه التسريبات كانت تتم بموافقة الدولة، أو لنقل خاضعة لسيطرتها، لضمان تدفقٍ مستمر للمعلومات مما سيجبر السعوديين على الاعتراف بدورهم أو التوصل إلى حلٍ وسط يرضي أنقرة.
وبحجب عرض التسجيلات ولكن في الوقت نفسه تسريب محتواها، حافظت تركيا على ضغطٍ ثابتٍ ومتقطع على المملكة العربية السعودية. ومع الخوف المستمر من عرض أنقرة التسجيلات وتخريب محاولات الرياض إنكار أو إخفاء تورطهم بالعملية، باتت المملكة العربية السعودية في مأزقٍ كبير أمام العلن. وبعد أن أجبرت مراراً وتكراراً على تقديم تفسيراتٍ معقولة والتي كانت تنسفها فيما بعد التسريبات التركية اللاحقة، تعرضت سمعة ومصداقية المملكة العربية السعودية للضرر. وبالنسبة للسعودية، المملكة المهووسة حالياً بصورتها الدولية، لا بد أن هذه بالتأكيد تعتبر تجربةٌ مريرة على نحوٍ خاص على يد أحد منافسيها.
الأضواء العالمية
بعد أن أصبح من الواضح أن هناك القليل من الحماس الدولي لإجراء تحقيقٍ ورفع القضية إلى المحاكم التركية، تحركت أنقرة للمطالبة بتحقيقٍ دولي كامل. لا تحقق المحاكم الدولية نجاحاً كبيراً في تنفيذ القرارات أو العقوبات الملزمة قانوناً؛ بيد أن المملكة العربية السعودية قد لعبت دوراً بارزاً في منظمات حقوق الإنسان متعددة الأطراف في السنوات الأخيرة، وبالتالي فإن كشف وإعادة النظر بالعمل الإجرامي السعودي على الساحة الدولية طوال فترة إجراءات المحكمة الطويلة، سيكون مؤلماً للغاية بالنسبة لصورة الرياض الواعية الجديدة.
ولعل الأهم من ذلك بالنسبة لتركيا، أن هذه القضية برمتها كانت الفرصة المثالية لتلميع صورتها العامة. ففي إحدى المرات القليلة التي تقف فيها أنقرة على الجانب الصحيح من الرأي العام الدولي بعد سنواتٍ من عمليات التطهير (المستمرة)، وقمع الأقليات والهجمات على حقوق الإنسان والأعمدة الديمقراطية، سارعت أنقرة إلى إعلان نفسها البطل الحقيقي للعدالة في قضية خاشقجي. فقد انتقد كبار السياسيين الأتراك مراراً اغتيال الصحفي السعودي، على الرغم من سجلهم البائس في احترام حرية التعبير وسجن الصحفيين. كانت هذه الهجمات الخطابية ضد المملكة العربية السعودية محدودة الأفق بشكلٍ لا يُصدق بالنظر إلى سجل تركيا الخاص تجاه الصحفيين، إلا أن الأداء كان بمثابة محاضرة خبيرٍ في العلاقات العامة- حتى أن الرئيس أردوغان كتب مقالاً افتتاحياً لصحيفة واشنطن بوست، الصحيفة التي كان يعمل بها خاشقجي، لينقل غضبه لجمهور الولايات المتحدة الأمريكية.
المستقبل السعودي التركي
لم تبدِ تركيا أي نيةٍ في هذه الملحمة للتخلي عن مواصلة الضغط على السعودية.
في ظل إدراك أنقرة أن التحقيق الدولي سيُلقي بأكبر ثقلٍ ويحمل أكبرقدرٍ من الشرعية، وبعيداً عن هذه التوترات الثنائية، دعمت أنقرة في نهاية المطاف الدعوات لإجراء تحقيقٍ دولي. ويبدو أن هذه خطوة إستراتيجية من جانب تركيا لمواصلة الضغط على الرياض. وفي حين أن التحقيق الدولي قد لا يُثمر أي تفاصيل إضافية عما تم تسريبه بالفعل أو نشره للعامة، إلا أن نتائج التحقيق، التي من المؤكد أنها ستوجه أصابع الاتهام إلى قادة سعوديين، سيتم تضخيمها بسبب طابعها المستقل. هذه المناورة الاستراتيجية ما هي إلا دليلٌ قوي على استغلال تركيا الدبلوماسي الشامل لهذه الأزمة.
كشفت قضية خاشقجي عن التوترات الجيوسياسية المشتعلة بالفعل بين تركيا والمملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من أن جريمة قتل جمال خاشقجي الواضحة لم تكن ذات أهمية سياسية جغرافية بحد ذاتها، إلا أن تركيا استغلتها على أكمل وجه كفرصةٍ مثالية للنيل من منافسٍ إقليمي. تم تنفيذ هذا الإنتصار بعناية، مما أجبر السعوديين على خوض غمار شهرٍ شاق من الاهتمام السام غير المرغوب فيه في عناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، لم تكن هذه الضربة الجارحة قاتلةً بأي حالٍ من الأحوال، فبينما كانت الإدانة الدولية سريعةً وصارمة، إلا أنها لم تسبب تأثيراً فعلياً يُذكر على الغالبية العظمى من تحالفات المملكة العربية السعودية الطويلة الأجل والشراكات التجارية (للأسلحة). وعلى نحوٍ مماثل، بينما تتمتع تركيا بالاسترخاء في ظل الوهج الإيجابي من الدعم الدولي لإنتقادها اللاذع العلني للمملكة العربية السعودية لاغتيالها خاشقجي، إلا أن هذا لن يدوم للأبد.