وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أسلمة تركيا، أردوغان يُعيد تشكيل أتاتورك

Turkey- AK party
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أثناء حديثه في اجتماعٍ مع رؤساء المحافظات التابعين لحزب العدالة والتنمية في أنقرة، 17 نوفمبر 2017. Photo AFP

المقدمة

لطالما كانت تركيا معقلاً للعلمانية في الشرق الأوسط معظم القرن العشرين. ومع ذلك، وبعد 16 عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية في ظل الرئيس رجب طيب أردوغان، باتت الإتهامات بالأسلمة منتشرةً على نطاقٍ واسع.

ففي أوائل العقد الأول من القرن الحالي، تمت الإشادة بحزب العدالة والتنمية لتحرره الديني، إلا أن الحكومة سعت بنشاطٍ في السنوات الأخيرة، إلى تشجيع الدين، مما سحق الحريات وأثار الغضب في الداخل والخارج.

ففي ظل حكم أردوغان، فعلت أنقرة الكثير لتشجيع مجتمعٍ أكثر تديناً وتحفظاً. وتعتبر الضرائب المفروضة على الكحول والسجائر من بين أعلى المعدلات في العالم، مما يدفع البعض إلى صنع مشروباتهم الكحولية بأنفسهم، كما أن التعليم الديني الإلزامي أكثر انتشاراً في المدارس، والخطاب الرسمي محمّلٌ برسائل تمجد “الأخلاق الوطنية.”

فقد كانت الهيئة الدينية في البلاد المتهم الرئيسي لبعض أكثر اتهامات الاسلمة تطرفاً. ففي وقتٍ سابقٍ من العام 2018، قالت رئاسة الشؤون الدينية التركية، المعروفة بإسم ديانت، أنه بموجب القانون الإسلامي يمكن للفتاة التي تبلغ من العمر تسع سنواتٍ فأكثر الزواج. ويحظر القانون التركي الزواج دون سن 16 سنة، حيث ذكرت الهيئة الدينية لاحقاً أنها تعارض زواج الأطفال. ومع ذلك، فإن هذا الجدل هو الأحدث في سلسلة تصريحاتٍ لرئاسة الشؤون التركية، بما في ذلك الأحكام ذات المواقف المثيرة للجدل حول سفاح القربى وحتى تناول الطعام باليد اليسرى.

وعلى الرغم من القيود القانونية، إلا أن زواج الأطفال منتشرٌ على نطاقٍ واسع في المناطق الريفية المحافظة اجتماعياً والتي تدعم حزب العدالة والتنمية، حيث أغضبت حالات زواج الأطفال العلمانيين، الذين يشعر الكثير منهم بأن الأساس العلماني في تركيا الحديثة يتعرض لهجومٍ متزايد من الإسلام السياسي. فهم يخشون أن تمنح البلاد الأولوية لمثل هذه الأحكام، المستندة بشكلٍ فضفاض إلى قواعد قرآنية، على حكم القانون. وبعد مرور حوالي 16 عاماً على وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، أصبحت علاقة تركيا بالإسلام ساحة معركةٍ متزايدة الأهمية.

تغيير المشهد

تم حفر هذه الأسلمة ببطءٍ ولكن بثبات في مشهد البلاد، حرفياً ومجازياً. فقد تضمنت الطفرة العمرانية التي شهدتها تركيا في فترة ما بعد عام 2000 تشييد الحكومة 17 ألف مسجدٍ جديد، مما جعل المآذن سمةً أكثر شيوعاً في أفق البلاد.

بل إن اسطنبول، التي تعد تقدميةً إلى حدٍ كبير، لم تنجو من هذا التغيير. ففي عام 2016، تم افتتاح مسجدٍ يمتد على أكثر من 150 ألف متر مكعب على تلةٍ فوق المدينة. وبضمه أكبر مأذنةٍ في العالم، والتي يمكن رؤيتها من معظم أنحاء المدينة، دفع ذلك بزعيم الحزب المعارض الرئيسي، كمال كليجدار أوغلو، إلى وصفه باعتباره خطوةً أخرى نحو تحول تركيا إلى جمهوريةٍ إسلامية.

وفي حين أن غالبية سكان تركيا من المسلمين السُنّة فضلاً عن كون البلاد مقراً للسلطة الإسلامية لمئات السنين في ظل حكم الإمبراطورية العثمانية، كانت العلاقة التركية الرسمية بالإسلام، منذ تأسيس الجمهورية العلمانية في عام 1923، محصورة إلى حدٍ كبير.

ومع ذلك، في الوقت الذي تشهد فيها البلاد مثل هذا التغيير الكبير، شعر بعض السياسيين من حزب العدالة والتنمية بالشجاعة لمهاجمة الأسس العلمانية للجمهورية، فيما كان يعتبره العديدون جريمةً كبرى قبل بضع سنوات. في الواقع، تم سجن أردوغان نفسه في إحدى المرات لإلقائه أبيات شعرٍ إسلامية علناً.

ومنذ عام 1937، أدرجت العلمانية في دستور تركيا. ولكن في أبريل 2016، أعلن رئيس البرلمان التركي التابع لحزب العدالة والتنمية أن الدستور الجديد يجب أن يكون “دستوراً دينياً.” وشجع على حذف كلمة العلمانية من الدستور، وطالب بإدراج كلمة الله. وفي حين أن الاستفتاء النهائي لم يؤيد هذا الاقتراح، إلا أن مثل هذا التصريح من سياسي بارز هو بلا شك دلالة على ما سيحصل في الأيام القادمة.

الوعظ من خلال السبورة

إن تأثير الفكر الإسلامي على الدولة وأجهزتها هو قضية مثيرةٌ للمشاعر، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتعليم. ففي عام 2017، أعادت أنقرة كتابة المنهج الدراسي في البلاد، مما حوله من منهجٍ جمهوري قوي إلى منهجٍ إسلامي. فقد تمت إزالة الدروس المتعلقة بمؤسسي الجمهورية التركية، وتم بسخاء توسيع فرص دراسة المواضيع العثمانية والعربية والقرآنية، وبشكلٍ مثيرٍ للقلق، لم يعد التطور يُدرَس لجميع الطلاب.

ومن وجهة نظر الحكومة، كان كل هذا مبرراً في سعيها إلى “حماية القيم الوطنية” عن طريق تدريس “التعليم الوطني والأخلاقي.”

ففي عام 2014، أدى تغييرٌ في القواعد على إجبار حوالي 40 ألفاً من الطلاب في تركيا على ارتياد مدارس الأئمة والخطباء، مما أثار غضب الكثيرين، خاصة بين السكان الذين يميلون إلى العلمانية والذين استنكروا محاولات أردوغان هندسة “جيلٍ متدين.” وعليه، تزايد الالتحاق بهذه المدارس الدينية، التي كانت مصممة أصلاً لتعليم الأئمة، من 63 ألفاً إلى أكثر من مليون طالب منذ عام 2002، مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.

شكلت هذه المدارس حجر أساسٍ لهيمنة حزب العدالة والتنمية، ليس في السياسة فحسب ولكن أيضاً في الشرطة والقضاء والأعمال التجارية والجيش. فقد ارتاد أدروغان بنفسه مدارس الأئمة والخطباء، تماماً كحال العديد من الأعضاء البارزين في حزب العدالة والتنمية ورمزه “تركيا الجديدة.” ففي السابق، موّلت حركة الخدمة التابعة لرجل الدين فتح الله غولن العديد من هذه المدارس خلال فترة ما قبل حزب العدالة والتنمية، وكان يتباهى باستخدامها لإنشاء جيلٍ يمكنه إسقاط حكام الجمهورية التركية.

وتمثل الإعتقالات الضخمة التي جرت في جميع أرجاء القطاع العام في أعقاب محاولة الانقلاب المزعومة لأتباع حركة غولن عام 2016 دليلاً على مدى نجاح هذه المدارس. ويتطلع أردوغان اليوم إلى أسلمةٍ أوسع لمدارس تركيا لترسيخ إرثه، مما يعني تحويل البلاد من القاعدة إلى القمة.

الأكثر تعرضاً للظلم

وبالتأكيد، كان للجدل المرتبط بالأسلمة بُعدٌ متعلقٌ بنوع الجنس. ففي حين جلب حزب العدالة والتنمية تحريراً من الضوابط للنساء اللواتي يرتدين الحجاب، إلا أنه في السنوات الأخيرة شرعت الحكومة بوضع نموذجٍ مزعج لمكانة المرأة في المجتمع.

ففي عام 2014، ذكر أردوغان بفخر أن “النساء يجب أن يعرفن مكانهن،” وأن “المساواة بين الجنسين ضد الطبيعة البشرية،” في حين أن رئيس وزرائه شعر بالغبطة علناً بسبب قوله إنه لا يتوجب على النساء الضحك في الأماكن العامة.

فالإعتداء على النساء، وبخاصة داخل منازلهن، أمرٌ شائعٌ في تركيا، إلا أنه مؤخراً ارتفعت وتيرة الإعتداءات في الأماكن العامة على النساء اللواتي يعتبرن “غير ملتزماتٍ بالدين الإسلامي.” فخلال شهر رمضان من عام 2017، تعرضت طالبة لاعتداءٍ جسدي في حافلةٍ في اسطنبول، على يد رجلٍ شعر بالغضب بسبب السروال القصير الذي كانت ترتديه خلال الشهر الفضيل.

وعلى صعيدٍ آخر، لا يقتصر تقارب تركيا من الفكر الإسلامي على القضايا الداخلية، فقد كان أردوغان أحد الداعمين الرئيسيين للإخوان المسلمين منذ وصول الرئيس المصري محمد مرسي إلى الحكم في عام 2012. كما طورت أنقرة علاقاتٍ مثيرة للجدل مع جماعاتٍ إسلامية مسلحة داخل سوريا، وكانت الصوت الدولي الأعلى في القضية الفلسطينية، حيث قام زعيم حماس بعدة رحلاتٍ إلى العاصمة التركية.

ولوحظ هذا التغيير بحذرٍ في الخارج، إذ وصف تقريرٌ للحكومة الألمانية تم تسريبه عام 2016 كيف أن “أسلمة سياسة أنقرة الداخلية والخارجية منذ عام 2011 حولت البلاد إلى معقلٍ للجماعات الإسلامية في المنطقة.” وفي حين أن الجمهوريين في تركيا كانوا سيبتعدون كل البعد عن أي روابط دولية عامة كهذه، إلا أن أردوغان احتضنهم، معلناً للعالم التوجه الجديد لتركيا، الذي لطالما سعى لتحقيقه.

Advertisement
Fanack Water Palestine