للتطرف جذورٌ ضاربة في تاريخ مصر، ففي عام 1981، اغتال متطرفون متدينون الرئيس أنور السادات. وفي عام 1997، قُتل عشرات السياح في الأقصر؛ وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تعرضت البلدات السياحية في شرم الشيخ ودهب في سيناء لهجمات تفجيرية.
ومع التقدم الإقليمي لما تطور فيما بعد وبات يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في السنوات المضطربة التي تلت الربيع العربي، ضرب التطرف العنيف مصر مرةً أخرى بقوة. وتشمل أسوأ الفظائع التي ارتكبتها الجماعة إسقاط طائرةٍ كان على متنها أكثر من 200 سائح روسي في سيناء في أكتوبر 2015، ومقتل أكثر من 100 مسيحي في عدة هجماتٍ على كنائس منفصلة، وهجومٍ على مسجدٍ صوفي في شمال سيناء في نوفمبر 2017 أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص. كما استهدفت جماعاتٌ أخرى، تتراوح ما بين جماعاتٍ تابعةٍ لتنظيم القاعدة إلى فروع للإخوان المسلمين، قوات الأمن بشكلٍ رئيسي، ولا سيما شن هجماتٍ كبيرة في الصحراء الغربية.
واعتمدت استراتيجية مصر لمكافحة هذه الجماعات في المقام الأول على شن حملة أمنية – تحديدًا على جماعة الإخوان المسلمين– وعملياتٍ عسكرية واسعة النطاق ضد داعش في شمال سيناء.
وفي الوقت نفسه، عملت الدولة على “تجديد الخطاب الديني.” فمنذ أن تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي منصبه في يونيو 2014، دعا مراراً وتكراراً إلى اعتماد نسخةٍ أكثر اعتدالاً للإسلام، على الرغم من التشكيك بجدوى ونهج منع التطرف ومكافحته.
يعتمد تجفيف منابع التطرف على ثلاثة أدوات، بحسب ما قاله زياد عقل، أحد كبار الباحثين في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، لفَنك، ألا وهي وزارة الأوقاف، ودار الإفتاء، والأزهر الشريف.
تهدف الوزارة إلى وقف انتشار الفكر المتطرف من خلال توحيد خطبة صلاة الجمعة في جميع مساجد البلاد. فقد تم إيقاف الأئمة الذين يخرجون عن نص هذه الخطب، حتى وإن كان هذا الخروج قد تم ظاهرياً بطرقٍ بريئة، مثل مدح لاعب كرة قدمٍ مصري ناجح كمثالٍ على العمل الجاد والمثابرة. وقال عقل إن الوزارة أغلقت أيضاً العديد من المساجد الصغيرة غير الرسمية التي يطلق عليها “الزاوية،” التي لم تملك السيطرة عليها والتي كانت مصدراً للفكر المتطرف.
وقال عقل إن دار الافتاء، وهي المؤسسة المسؤولة عن اصدار الفتاوى أو المراسيم الدينية، قد بدأت تدريجياً في إصدار فتاوى أكثر اعتدالاً والإعلان عن أن أشياء معينة، لم تكن موجودةً من قبل، مقبولة في الاسلام.
في حين يُركز الأزهر الشريف، أعلى مقامٍ للتعليم السُني، على الرسائل المضادة، ويقوم بدحض الروايات الدينية من جماعاتٍ مثل القاعدة وتنظيم داعش على أساس ديني- عقائدي. وفي عام 2015، أنشأ الأزهر “مرصداً لمكافحة التطرف،” والذي يتكون من مجموعة من الأساتذة والمسؤولين الذين يراقبون الإنترنت بحثاً عن رسائل متطرفة والرد عليها على أساسٍ لاهوتي.
وقال سيد زكريا، وهو أستاذ مساعد يعمل في المرصد لفَنَك: “نهدف إلى تقديم سردٍ مضاد للفكر المتطرف، خاصة في ضوء صعود داعش، من خلال تقديم الصورة الحقيقة والصحيحة عن الإسلام.”
وأوضح زكريا أن “سرد تلك الجماعات يعتمد على المفاهيم القديمة التي وضعوها قيد الممارسة،” مُضيفاً أن الأزهر يعمل على تطوير المزيد من المنصات للتفاعل مع جمهوره، مثل الاجتماعات في المساجد والجامعات والمراكز لمناقشة الفكر المتطرف. وتابع قوله، “يحاول الأزهر جاهداً توضيح أن الإسلام متنوع، وعدم اتباع عقيدةٍ واحدة، وإقامة علاقاتٍ جيدة مع الآخرين. الأمر فعّال، ولكن هناك عوامل أخرى تؤدي إلى التطرف، مثل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التعليم ليس جيد دائماً في المدارس الحكومية،” مضيفاً أن المسؤولين يطورون مناهج جديدة.
ويعتبر الدين جزءاً هاماً من المنهج الدراسي في النظام التعليمي في مصر، على الرغم من أنه بعيد كل البعد عن أعين الأزهر وحتى وزارة التربية والتعليم. ففي مارس 2018، تم الإعلان عن خطةٍ لإصدار كتبٍ مدرسية جديدة لتعليم الأخلاق والتسامح في محاولةٍ لمكافحة التطرف الديني. ومع ذلك، أثار هذا الإعلان ردود أفعال غاضبة من الدعاة السلفيين.
إن التطرف عملية معقدة للغاية لا تنطوي فحسب على عوامل دينية- أيديولوجية. وبحسب عقل، فإن حظر جماعة الإخوان المسلمين، المتجذرة في المجتمع المصري، قد أدى إلى إنشاء جماعاتٍ جديدة. ومن الأمثلة على ذلك حركة “حسم” و”لواء الثورة،” اللتان استهدفتا في كثيرٍ من الأحيان أفراد الأمن. وقال عقل: “يقوم الإخوان المسلمون بتأجيج التطرف كرد فعلٍ على عنف الدولة [مثل فض اعتصام رابعة في عام 2013 الذي أودى بحياة حوالي 1000 متظاهر مؤيد للإخوان المسلمين] وحظر الجماعة.”
ومن جهته، أجرى عالم الاجتماع سعد الدين إبراهيم أبحاثًا مكثفة حول عمليات التطرف، وخلص إلى أن الجهادي النموذجي هو شابٌ من خلفية الطبقة العاملة أو الطبقة الوسطى الدنيا، الذي حاول إكمال تعليمه العالي إلا أنه فشل في تسلق السلم الاجتماعي بسبب التخبط الاقتصادي، والمحسوبية، والفساد، مما تركه يشعر بخيبة أمل.
ويمكن أن تسهم السجون المصرية، التي تشتهر بالمعاملة السيئة وحتى تعذيب السجناء، في التطرف. ووفقاً لما أفاده موقع بزفيد في نوفمبر 2017 أن جماعة الإخوان المسلمين وداعش “يتقاتلون فيما بينهم لضم المجندين الجدد” داخل سجن طرة الشهير في القاهرة.
كما شدد اتش إيه هيلر، الخبير بالشؤون المصرية لدى المجلس الأطلسي في الولايات المتحدة، على أن هناك مسارات مختلفة تؤدي إلى التطرف، والتي قد تكون مرتبطة جزئياً بالأيديولوجية. فقد قال هيلر، “لنكن واضحين، أولئك الذين يهاجمون المسجد في شمال سيناء لم يكن الفقر دافعهم، ففي حين أنهم لربما يعانون من المظالم، إلا أنه كان لديهم كراهية أيديولوجية عميقة للمسلمين الذين يمارسون الصوفية.”
ولكن حتى عند النظر فحسب إلى البعد الأيديولوجي للتطرف، فإن مصر تواجه مشكلة. وكما يقول هيلر “الأشخاص الذين تأثروا بالسرد المتطرف يرون في الأزهر جزءاً من المشكلة.” وأضاف “تأتِ المصداقية من انتقاد الدولة أيضاً، وقول الحقيقة للسلطة، إلا أن هذا الحيز غير موجود فعلياً.”
وأضاف عقل: “لا تتمتع هذه المؤسسات بالمصداقية بين الحركات الإسلامية لأنها ترى أنها مسيّسة.” وترى جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية أن الأزهر هو الهيئة الدينية للدولة، وأن رجال الأزهر مسؤولين في الدولة بدلاً من كونهم علماء دين، وفقاً لعقل.
وهو يعتقد أن مفتاح التغيير يكمن في “تمكين المجتمع المدني،” مع وجود جهاتٍ فاعلة قوية غير تابعة للدولة على أرض الواقع يمكنها سد الفجوة بين هذه المؤسسات والشعب. كما ينادي باتباع نهجٍ شامل ومتعدد القطاعات لـ”الأمن البشري،” ولكنه يدرك أن المناخ السياسي الحالي يشكل تحدياً. وبحسب قوله “لا يرحب النظام بالمنظمات الاجتماعية، حيث [ينظر] بعين الريبة لأي شكلٍ من أشكال الحشد. كما يعتمد على مقاربة أمنية قاسية.”
بينما أقرّ زكريا بأن هناك أناساً يملكون ثقةً أكبر بالجماعات المتطرفة من ثقتهم بالأزهر، إلا أنه يعتقد أن نهج المؤسسة سيؤتِ ثماره. “نحن نثقف الطلاب حول جميع المدارس الفكرية، حتى تلك التي يتم إتباعها خارج مصر مثل الشيعة، وأن يكونوا منفتحين على الجميع، على النقيض من المتطرفين الذين يتبعون خطاً واحداً ويعتبرون أي شخصٍ آخر غير مؤمن.”
بيد أنه دون فتح مجالٍ للحوار والنقد، قد يظل من الصعب على هيئات الدولة التي تحارب الفكر المتطرف الوصول إلى أولئك سريعي التأثر بالتطرف.