على غرار دول الخليج الأخرى، كانت السياسة الخارجية لقطر تتماشى مع السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية حتى منتصف التسعينيات. وبعد وصوله إلى السلطة في عام 1995، سلك الأمير حمد بن خليفة آل ثاني، مساره الخاص بقطر، مما مثل نقطة تحولٍ في خطاب السياسة الخارجية للبلاد.
وفي ظل حمد، تبنت قطر “سياسة خارجية مفتوحة” تعتمد في الغالب على أدوات السُلطة الناعمة مثل وسائل الإعلام والدبلوماسية والاقتصاد والمساعدات الإنسانية والتبرعات السخية. فقد تمثلت استراتيجية الدوحة بالحفاظ على علاقاتٍ جيدة مع جميع جيرانها، بغض النظر عن سياساتها المتناقضة تجاه بعضها البعض، سيما إيران والمملكة العربية السعودية. بالإضافة إلى ذلك، هدفت إلى تشكيل تحالفاتٍ مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، والسلطات المتوسطة بما في ذلك روسيا وإيران وتركيا، في حين عملت على خلق سمتها الفريدة الخاصة بها.
وكانت اللبنة الأولى لهذه الاستراتيجية، التي كانت بمثابة تغيير رئيسي في اللعبة، تأسيس قناة الجزيرة، وهي شركة إعلامية مملوكة للدولة. دفع هذا بقطر إلى دائرة الأضواء الإقليمية والدولية، مما كفل للدولة الصغيرة سمعة باعتبارها لاعباً مؤثراً في السياسة في الشرق الأوسط. واستناداً إلى المبادىء المنصوص عليها في الدستور القطري، قدم حمد الدولة كممثلٍ للسلام والاستقرار في منطقة لم تعرف الكثير.
ومع ذلك، فإن ما رأى فيه حمد بأنه سياسة خارجية صفرية الأعداء، رأي فيه الآخرون عكس ذلك. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن قطر لها علاقات قوية وثابتة مع الغرب، إلا أنها حافظت على علاقات مع العديد من خصوم الغرب، بما في ذلك إيران وحزب الله وحماس والإخوان المسلمين. كما سمحت قطر لحركة طالبان الافغانية بإنشاء مكتبٍ سياسي داخل الدولة. ووفقاً لوثيقة مسربة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، تمتلك قطر اسوأ سجلٍ في جهود مكافحة الارهاب فى المنطقة. مبرر قطر لذلك هو أنها “مترددة في التصرف ضد الإرهابيين المعروفين خوفاً من ظهورها كدولةٍ متحالفةً مع الولايات المتحدة مما يُشجع على الانتقام ضدها.”
فقد اقترنت هذه العلاقات بأنشطتها المتعلقة بالوساطة في السلام والحفاظ على السلام، لتنتقل من مراقبٍ إلى وسيطٍ إقليمي في صراعات بدءاً من اليمن ووصولاً إلى إريتريا. وكان من بين الإنجازات الرئيسية لهذه السياسة الخارجية اتفاق الدوحة في مايو 2008 بشأن لبنان الذي وضع حداً للمأزق السياسي الذي دام 18 شهراً والذي شهد أسوأ أعمال عنفٍ منذ الحرب الأهلية 1975-1990، وإطلاق سراح خمسة ممرضات بلغاريات عام 2007 وطبيب فلسطيني محتجزين في ليبيا.
بيد أنه مع اندلاع ثورات الربيع العربي في عام 2011، مما تسبب في تحولٍ كبير في المشهد السياسي في المنطقة، تحولت السياسة الخارجية لدولة قطر أيضاً، من كونها وسيطاً توفيقياً، لتضطلع بدورٍ فعالٍ في الأحداث. فقد وضع الربيع العربي الحالة الراهنة التي تُفضل الملكيات الخليجية في موقفٍ غير مريح، حيث اضطروا إلى الانحياز إلى أحد الجوانب مع حلفائهم – الأنظمة الاستبدادية القديمة – أو مع الحركات الديمقراطية الشعبية. لتتحول من أرضٍ مجهولة وتُضاف إلى قائمة الفوضى في المنطقة. فقد تعارض قرار قطر، بالإجماع، بنصرة الثوار- بغض النظر عن خلفياتهم- بشكلٍ كبير مع حلفائها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.
ففي مصر، على سبيل المثال، دعمت الدوحة جماعة الإخوان المسلمين، لتقف بحزمٍ مع الرئيس محمد مرسي خلال فترة ولايته قصيرة الأجل. وفي أعقاب الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء عبد الفتاح السيسي في يونيو 2013، ظلت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين متوترة، وتعقدت بسبب انتقاد الدوحة المتواصل للرئيس العسكري المصري المدعوم من السعودية.
وفي تونس، دعمت قطر حزب النهضة الإسلامي، الذي ادعى النصر في الانتخابات الأولى بعد ثورة الياسمين، ووقفت مع الثوار ضد الرئيس بشار الأسد في سوريا. وبينما تحولت الثورة السورية إلى حرب أهلية كاملة، والتي شهدت استيلاء فصائل إسلامية متطرفة على أجزاء كبيرة في البلاد، اكتسبت قطر سمعة في دعم متطرفي القاعدة، مما أثر على مكانتها العالمية.
كما أن دعم الدوحة لحركة حماس الفلسطينية، التي تعتبر جماعةً تابعةً لجماعة الإخوان المسلمين وصنفت رسمياً كمجموعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وإسرائيل، أدى إلى توتر العديد من علاقات الدوحة إقليمياً ودولياً. فقد وفرت قطر ملاذاً آمناً ومقر إقامة وشريان حياة اقتصادي للحركة المحاصرة، وخاصة منذ الخصام الذي وقع بين مسؤولي الحركة والجهات الراعية السابقة لها (إيران والنظام السوري) بسبب دعمها للثورة السورية.
وعلاوة على ذلك، أثار دعم الدوحة لجماعة الإخوان المسلمين سخط نظرائها من دول مجلس التعاون الخليجي. وصل هذا الخلاف أوجه في مارس 2014، عندما سحبت الإمارات والسعودية والبحرين سفرائها من الدوحة. فقد اتهموا الدوحة بانتهاك الاتفاق الأمني الخليجي وانتهاك مبادىء “المصير الموحد،” وفقاً لبيانٍ مشترك صدر عن وكالة الانباء السعودية الرسمية. ونُقل عن وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، قوله أن الازمة الدبلوماسية ستستمر “ما لم تعدل الدوحة سياستها.”
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها المملكة العربية السعودية هذه الخطوة. ففي عام 2002، سحبت أيضاً سفيرها من الدوحة لمدة خمس سنوات، احتجاجاً على تغطية قناة الجزيرة، التي اتهمتها بتأييد الإسلام السياسي، ودعمها للإخوان المسلمين، وهي جماعة أدرجتها السعودية والإمارات العربية المتحدة على قائمة “المنظمات الإرهابية.”
وعلاوة على ذلك، واجهت قطر في أواخر أغسطس 2014 ضغطاً متزايداً لتنفيذ اتفاق الرياض، وهو اتفاقٌ تم التوصل إليه في وقت سابقٍ من ذلك العام، وافقت فيه قطر على إدخال عددٍ من التغييرات على سياساتها الخارجية والمحلية. وفي 6 سبتمبر، مُنحت قطر أسبوعاً إضافياً لبدء التنفيذ. امتثل تميم بن حمد آل ثاني، الذي أصبح أميراً في يونيو 2013 بعد تنازل والده، مُعلنا، بعد أسبوع من ذلك، أنه أبلغ سبعة من كبار أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المصرية بمغادرة البلاد في غضون سبعة أيام. كما توجه تميم إلى الرياض لطمأنة العاهل السعودي بأن الدوحة قد فعلت كل ما طلب منها القيام به لقطع العلاقات مع الجماعات الإسلامية.
وإلى جانب التخفيف من الهجمات على النظام المصري في بث قناة الجزيرة، بدا أن قطر قد التزمت بالمبادىء الرئيسية لاتفاق الرياض. وقال مايكل ستيفنز، مدير مكتب الدوحة التابع لمعهد الخدمات الملكية المتحدة لصحيفة الجارديان “أجبر القطريون على وضعٍ اضطروا فيه للتراجع. حاولوا بذل قصارى جهدهم للحفاظ على سياستهم الخارجية دون تدخلٍ من أطراف أخرى، ولكن اضطروا دوماً إلى تقديم نوعٍ من التنازلات.”
وجاء آخر تطورٌ في العلاقات بين قطر ونظرائها الخليجيين بعد يومين من قمة الرياض التي عقدت في الفترة ما بين 20-21 مايو 2017، وحضرها رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب و55 زعيماً آخر من العالم العربي والإسلامي. وفي 23 مايو 2017، حظرت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة العديد من المواقع الإلكترونية القطرية، بما في ذلك موقع قناة الجزيرة، بعد تصريحاتٍ زُعم أن أمير قطر قد أدلى بها، والتي انتقد فيها ترامب ووصف إيران بأنها قوة للاستقرار في المنطقة.
ادعت قطر أن وكالة أنبائها الرسمية التابعة للدولة قد تعرضت للاختراق، وأن التقرير الذي نُقل عن الأمير ملفق. لكن الرياض وأبو ظبي رفضتا هذا التفسير وأطلقتا حملةً لا هوادة فيها مرةً أخرى ضد قطر وسياستها الخارجية من خلال وكالات الأنباء الخاصة بها، قناة العربية وسكاي نيوز العربية، متهمةً الإمارة بدعم التطرف الديني والإرهاب.
وهذه ليست المرة الأولى التي تعارض فيها قطر جيرانها الخليجيين، سيما حول مدى دعمها لجماعة الإخوان المسلمين. ومع ذلك، يبدو أن هذه القضية قد خفت حدتها كثيراً من خلال دعوة ترامب لدول الخليج بذل المزيد من الجهود لمحاربة التطرف، وهي دعوة ستكافح الدوحة للوفاء بها إذا ما رفضت قطع العلاقات مع حماس والإخوان المسلمين.
فقد ورث تميم، الذي كان يبلغ من العمر 33 عاماً فقط عندما استلم زمام الأمور من والده، سلسلةً من العلاقات المتوترة مع مختلف القوى الإقليمية والدولية. ومع ذلك، عمل جاهداً لجشب التهم المترددة بدعم قطر للتطرف. وتحت قيادته، تراجعت الدوحة، إلى حدٍ ما، عن السياسة الدولية، كما أعيد تشكيل سياساتها الخارجية بعقلانية وفقاً للأولويات المتغيرة.
واليوم، تلعب قطر دوراً غاية في الأهمية في سوريا والعراق كمحاورٌ بين القوى الغربية والجماعات المختلفة التي لا يمكنها الانخراط بشكلٍ مباشر مع الحكومات الغربية أو الإقليمية