مرةً أخرى، أظهر اعتقال ثمانية سياسيين ونشطاء يساريين في يونيو 2019 أن الدولة المصرية لن تسمح بأي حشدٍ للمعارضة ضد حكمها القمعي المتزايد.
فقد تمت الموافقة على التعديلات الدستورية، التي منحت الرئيس عبد الفتاح السيسي سلطاتٍ واسعة على القضاء فضلاً عن السماح له بالبقاء في منصبه حتى عام 2030، في استفتاءٍ أجريّ في أبريل. كما أجبرت أحزاب المعارضة العلمانية على إعادة التفكير في دورها- المهمش إلى حدٍ كبير- على الصعيد السياسي، فقد دعا تكتل 25-30، الذي يتكون من 16 برلماني مستقل لا يصادقون فحسب على قرارات النظام، الحركة المدنية الديمقراطية الليبرالية للانضمام إليهم وتشكيل جبهة واحدة. “نحن عند مفترق طرق،” قال النائب أحمد الطنطاوي في وثيقةٍ أرسلت إلى الأحزاب، فإما “إحياء وإنقاذ المسار السياسي” أو يكون ذلك سبباً في “حالة إحباط تدفع الناس للإنصراف والبحث عن مساراتٍ أخرى للتغيير.” كما حثّ المعارضة على الاتحاد والدفع من أجل “المسار السياسي الصحيح” لأن “الأمة لا تستطيع تحمل تكاليف المسارات الأخرى.”
وقال ممدوح حبشي، عضو حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، لفَنَك: “تلقى رئيس حزبنا وعدة نواب مكالماتٍ هاتفية من الأمن القومي يحذرونهم من التجمع”. ومع ذلك، وافق أعضاء حزب التحالف الشعبي الاشتراكي على المضي قدماً. وقال حبشي “لقد عقدنا اجتماعاً في 19 يونيو مع أحزاب الحركة المدنية الديمقراطية وقررنا الاستمرار.” وفي 24 يونيو، عقد اجتماعٌ لمتابعة آخر التطورات والذي جمع سياسيين وناشطين والعديد من النواب وقرروا تشكيل “تحالف الأمل،” بهدف الترشح في الانتخابات البرلمانية المقررة لعام 2020. “هذا هو الأمل في إمكانية إحداث التغيير سلمياً. جميع المصريين تقريباً فقدوا هذا الأمل،” بحسب تعبير حبشي.
وبعد ساعاتٍ قليلة من الاجتماع، وفي الساعات الأولى من يوم 25 يونيو، تم اعتقال ثلاثة من المشاركين: زياد العليمي، محام وعضو في الحزب الديمقراطي الاجتماعي المصري، وهشام فؤاد، صحفي وعضو في حركة الإشتراكيين الثوريين، وحسام مؤنس، عضو حزب الكرامة الشعبي الناصري.
كما تم القبض على رجل الأعمال وصاحب سلسلة مكتبة ألف عمر الشنيطي وأربعة نشطاء آخرين أقل شهرة. وقال المحامي مالك عدلي لـفَنَك، أنه لمدة يومين كان من من غير المعلوم مكان احتجاز المعتقلين، إلى أن تم احتجازهم في سجن طرة الشهير في القاهرة. تشمل الاتهامات نشر أخبار كاذبة و”الانضمام إلى منظمة إرهابية لتحقيق أهدافها” – وهي تهمٌ غامضة يتم توجيهها عادةً إلى المعتقلين السياسيين.
تمثل موجة الاعتقالات الفصل التالي في سلسلةٍ من التدابير القمعية التي اتخذتها دولةٌ ترفض التسامح بشكلٍ متزايد مع أي روايةٍ أخرى غير رواياتها. ففي مايو 2018، تم اعتقال العديد من الناشطين البارزين والمدونين والسياسيين، إلى أن تم الإفراج المشروط عن أحدهم، المدون وائل عباس، في ديسمبر 2018، إلا أنه يتعين عليه تقديم تقرير إلى قسم الشرطة المحلي مرتين في الأسبوع.
في أغسطس من ذلك العام، تم اعتقال سبعة أشخاص آخرين، من بينهم زعيم حزب الكرامة، والدبلوماسي السابق معصوم مرزوق، الذي كان قد دعا إلى إجراء استفتاءٍ على القيادة السياسية والدعوة للاحتجاج في ميدان التحرير. لم يُفرج عنه من السجن إلا في مايو 2019. يعتقد الكثيرون أن الاعتقالات كانت محاولة لإسكات المعارضة المحتملة للتغييرات الدستورية. ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، يبدو أن لدى السلطات سبباً جديداً لقمع المعارضة.
بيد أنه يبدو أن قبضة السيسي الحديدية على البلاد أمرٌ واقع، فهو يتمتع بدعم الأجهزة الأمنية التي تسيطر على وسائل الإعلام؛ كما أن كامل البرلمان تقريباً يقف في صفه؛ ومنذ التعديلات الدستورية، يسيطر بحكم الأمر الواقع على القضاء. من الصعب تخيل كيف سيشكل العدد القليل المتبقي من السياسيين والناشطين المعارضين تهديداً للنظام، إذ أوضح لنا حبشي في هذا الصدد بقوله “يجب أن يكون الجميع على نفس الخط،” وأضاف “[في النهاية]، هدف كل ديكتاتورية هو منع أي نقاش.”
فقد كان ذلك واضحاً خلال الانتخابات الرئاسية في عام 2018، حتى أن المنافسين المحتملين المقربين من النظام، مثل الجنرال سامي عنان والوزير السابق في عهد مبارك أحمد شفيق، مُنعوا من الترشح باستخدام أساليب الترهيب أو الاعتقال. وفي حين أن السيسي كان يمكن أن يضمن الفوز حتى مع خوض المرشحين الآخرين للانتخابات، إلا أنه يبدو أن الدولة اعتبرت أن أي نوعٍ من النقاش السياسي الذي كان يمكن أن يخرج من سباقٍ رئاسي حقيقي ينطوي على مخاطرة كبيرة. بدلاً من ذلك، اختارت عرضاً فردياً بمرشح معارضة من أشد مؤيدي السيسي الذي لم يشكل تهديداً كبيراً.
حتى وإن كانت المعارضة تنبثق من شخصياتٍ من عهد مبارك، التي يميل النظام الحالي بشكلٍ عام إلى تفضيلها بشكلٍ أكبر من جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، كما يُطلقون عليها، إلا أن الدولة ملتزمة بسياسة عدم التسامح بالمطلق. ففي سبتمبر 2018، قُبض على ابنيّ مبارك، كرد فعلٍ واضح على ظهورهما المتزايد على الساحة الشعبية وتغريداتهما السياسية. وفي يوليو 2019، تم إلقاء القبض على مالك صفحة “آسفين يا ريس،” التي تضم منشوراتٍ تشيد بالرئيس السابق، بتهمة نشر أخبار كاذبة.
هناك الكثير لتتم مناقشته في مصر، فقد مرت البلاد بأزمةٍ اقتصادية حادة وإصلاحاتٍ اقتصادية تالية كجزءٍ من صفقة قرض لصندوق النقد الدولي. تهدف الإصلاحات إلى حل القضايا على مستوى الاقتصاد الكلي، ولكن مستويات الفقر آخذة في الارتفاع، إذ أن حوالي 60% من المصريين إما فقراء أو معرضون لخطر الفقر، كما أن معدلات عدم المساواة آخذةٌ في التزايد، بحسب أرقام البنك الدولي. وعلاوةً على ذلك، تستمر أسعار الوقود والكهرباء في الارتفاع بشكلٍ دوري، مما يزيد العبء على الأسر التي تعاني بالفعل من ضغوطات. كما سيواصل ارتفاع معدلات الإنجاب زيادة الضغوطات على سوق العمل وأنظمة التعليم والرعاية الصحية في المستقبل المنظور.
ومن الواضح أن الدولة تخشى تجدد الاضطرابات الاجتماعية، إذ يتم حظر مئات المواقع التي تنتقد الحكومة بطريقةٍ أو بأخرى في مصر. وفي أي حدثٍ ينطوي على درجة عالية من الخطورة، سواء كانت مباراة لكرة القدم في الدوري المصري أو ذكرى ثورة 25 يناير 2011 أو وفاة الرئيس السابق محمد مرسي في 17 يونيو 2019، قامت الشرطة بتعزيز الأمن حول ميدان التحرير وإجبار جميع مقاهي وسط البلد على إغلاق أبوابها. بل إن التغطية الإعلامية لوفاة مرسي كانت تخضع لسيطرةٍ مُحكمة من قِبل الدولة، التي وزعت مقالاتٍ محددة ونصوص النشرات التلفزيونية التي لم تشر إلى تولي مرسي للرئاسة. وعلى صعيدٍ متصل، منح قانون الصحافة الجديد الذي تم التصديق عليه في وقتٍ سابق من هذا العام الهيئات التنظيمية سلطةً واسعة النطاق على وسائل الإعلام ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين تم تصنيف وجود أكثر من 5000 متابع على صفحاتهم باعتبارهم وسائل إعلامية، مما يعرض المستخدمين الأفراد لخطر الملاحقة القضائية لانتهاك معايير وسائل الإعلام.
وكما يقول حبشي، “هذا النوع من النظام غير مستدام، سيؤدي إلى الانفجار،” وتابع القول “يرى الناس أن الانتخابات مزورة؛ يتركهم هذا دون أمل. إننا نعتبر أنفسنا [أحزاب المعارضة العلمانية] حماةً للسلام، أكثر من النظام.”
كما أعرب محمد أنور السادات، النائب السابق والمشارك في تحالف الأمل، عن مخاوف مماثلة، إذ قال “لا أرى أي سياسة.” وأضاف “إذا ما كانوا حكماء، فيجب عليهم الانفتاح وإفساح المجال [للمعارضة لممارسة السياسة والتعبير عن آرائهم].”
ومع ذلك، يقبع السخط الشعبي تحت السطح، فعلى سبيل المثال عندما تسبب حادث القطار في وسط القاهرة في مقتل 25 شخصاً في مارس 2019، سرعان ما بدأ وسم “راجعين التحرير” بالإنتشار كالنار في الهشيم على تويتر. وعلاوةً على ذلك، تطلب الأمر حملةً دعائية شاملة وشراء واسع النطاق للأصوات للوصول إلى نسبة إقبال بلغت 44% فقط (وهي نسبة عالية غير واقعية بحد ذاتها) في الاستفتاء على الدستور. وعلى الرغم من العقوبات الشديدة على الاحتجاج غير القانوني، خرج بعض الناس إلى الشوارع للاحتجاج على ارتفاع أسعار تذاكر المترو في عام 2018، ومرةً أخرى بعد تحطم القطار في وقتٍ سابق من هذا العام.
تركز الحكومة على نقطةٍ أساسية واحدة، ألا وهي أنها تجلب الاستقرار والأمن، وهو أمرٌ نجحت فيه نسبياً مقارنة بالسنوات العنيفة أثناء الثورة وبعدها مباشرة، “مكافحة الإرهاب حق من حقوق الإنسان،” كُتب على لافتة رفعت بجوار شارعٍ رئيسي في القاهرة. وبالنسبة للعديد من المصريين، فإن الوضع الأمني الذي شهد تحسناً هو في الواقع سبب دعمهم للسيسي، بعد أن فقدوا الأمل في أن الإسلاميين وأحزاب المعارضة العلمانية أو حتى انتفاضةً شعبية جديدة يمكن أن تغير الأمور للأفضل. ومع ذلك، ازدادت هجمات تنظيم الدولة الإسلامية في شمال سيناء في النصف الأول من عام 2019، على الرغم من الهجوم العسكري الكبير الذي شُنّ العام الماضي.
وفي هذا السياق أشارت الإيكونوميست إلى أن انهيار مصر ليس سيناريو خيالي، وستكون عواقبه كارثية. ومع ذلك، تثير المجلة شكوكاً جدية حول ما إذا كان السيسي، مع سياسته المتمثلة في زيادة القمع السياسي، هو الشخص المناسب لتجنب مثل هذا الانهيار.