أعلن رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، في خطابٍ متلفز بث من العاصمة السعودية الرياض في الرابع من نوفمبر 2017، استقالته، منوهاً إلى النفوذ الإيراني المتنامي في أرجاء المنطقة، ومدعياً خوفه من أن يلقى ذات المصير كوالده، رفيق الحريري، الذي تم اغتياله، في حال بقائه في السلطة.
فبعد 11 شهراً من تشكيل الحكومة، التي خرجت للعلن نتيجةً اتفاقٍ، تم بشكلٍ أساسي بين الحريري والعماد ميشال عون، السياسي المسيحي وحليف التنظيم العسكري، حزب الله، لإنهاء عامين ونصف من الجمود السياسي، سحب الحريري الزناد في وجه الائتلاف الذي كافح لإقناع الشعب اللبناني أو إيجاد حلٍ لأيٍ من المشاكل المزمنة التي ابتليت بها سياسة البلاد منذ إنتهاء الحرب الأهلية عام 1989.
وقال الحريري في خطاب استقالته “لدى [إيران] رغبة جامحة في تدمير العالم العربي، وتفاخر بسيطرتها على القرارات في جميع العواصم العربية. حزب الله فرض أمر واقع في لبنان بقوة السلاح، حيث تسبب تدخل حزب الله لنا بمشكلات مع محيطنا العربي.”
وكان الحريري قد استضاف علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الايراني للشؤون الدولية، قبل يومين من استقالته.
وبعد دقائق من خطاب الحريري، أفادت قناة العربية إحباط محاولة اغتيالٍ للحريري “قبل أيامٍ قليلة” من قبل قوات الأمن الداخلي اللبنانية. غير أن قوى الأمن الداخلي أصدرت بياناً نفت فيه دورها المزعوم في إحباط المحاولة وقالت إنها لا تملك أي معلوماتٍ عن هذه المسألة، كما حذا الجيش والأمن العام حذوهما. وقبل اغتيال والده في عام 2005، إدّعت أجهزة الأمن أيضاً عدم امتلاكها أي معلوماتٍ عن محاولةٍ محتملة لسلبه حياته. إلا أن الحريري لربما استخدم هذا العذر للتغطية على ما يبدو اليوم نفوذٌ سعودي على قراره بالتنحى.
إلا أن وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، ثامر السبهان، قال أن حراس الحريري أكدوا أن هناك مؤامرة لاغتياله. كما نفى في مقابلة مع قناة إل بي سي اللبنانية، أن السعودية ضغطت على الحريري للاستقالة.
فقد كان خطاب الحريري، وفي تناقضٍ للخطاب الذي تبناه في السنوات القليلة الماضية، مناهضاً لحزب الله بشدة، مستذكراً أحداث عام 2008، عندما بسط حزب الله سيطرته على أجزاء كبيرة من بيروت الغربية بعد أن اتجهت الحكومة اللبنانية إلى إغلاق شبكة اتصالات حزب الله. في الواقع، بدا الخطاب أقرب إلى نبرة التغريدات المحتدة التي ينشرها السبهان، الناقد الصريح لإيران. ومباشرةً بعد خطاب الحريري، غرّد السبهان “إن أيدي الغدر والعدوان يجب أن تبتر.”
جاء أول فعلٍ إيراني من مستشار وزير الخارجية الإيراني، حسين شيخ الإسلام، الذي إتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي بالضغط على الحريري للاستقالة. وأضاف أن “استقالة الحريري جاءت بترتيب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان من أجل توتير الوضع في لبنان والمنطقة.”
وفي خطابٍ متلفزٍ منتظر في الخامس من نوفمبر 2017، أدلى الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، بتصريحٍ مماثل، إذ قال “الاستقالة لم تكن نيته أو رغبته أو قراره.” كما شكك أيضاً بالخطاب الذي استخدمه الحريري وحول إمكانية عودته من السعودية، مشيراً إلى إحتمالية فرض الإقامة الجبرية عليه. بيد أنه دعا إلى التحلي بالهدوء، وسط مخاوف من إندلاع أعمال عنفٍ في لبنان في أعقاب إعلان الاستقالة.
أزمة سياسية جديدة
كتب مراسل صحيفة الغارديان في الشرق الأوسط، مارتن تشولوف، الآتي: “قبل استقالة الحريري، قال مسؤولون كبار من إدارة باراك اوباما أن سلسلة من الرسائل المنسقة في واشنطن والرياض تبنى للمواجهة العسكرية مع ايران. ومن المرجح أن يضاف اعلان السبت إلى هذه المخاوف ويزيد المخاوف من اشتباكٍ بين حزب الله واسرائيل التي خاضت حرباً مدمرة في عام 2006.”
في الواقع، تتزايد المخاوف في لبنان من مثل هذه المواجهة. ويعتقد العديد من المراقبين أن “محور المقاومة،” الذي يضم حزب الله، والرئيس السوري بشار الأسد، والإيرانيين (بشكلٍ أساسي الحرس الثوري الإيراني صاحب النفوذ)، يُنظر إليهم نظرة المنتصر في الحرب في سوريا إلى جانب طردهم مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية من العراق، حيث بات تركيزهم اليوم يعود نحو لبنان واسرائيل.
ففي السابق، ومع استمرار القتال في سوريا، تمثلت أولوية حزب الله بمساندة نظام الأسد، الذي سهل نقل الأسلحة الإيرانية إلى أيدي حزب الله. وبما أن مستقبل الأسد بات مضموناً على ما يبدو، وذلك بفضل الدعم الروسي والإيراني، عاد مقاتلوا حزب الله إلى ديارهم في لبنان، وبات بمقدور القيادة إعادة التركيز على المعارك اللبنانية الداخلية.
فقد كتب دانيال شابيرو، الذي شغل منصب السفير الأمريكي لدى اسرائيل منذ عام 2011 إلى عام 2017 وأحد مستشاري مجلس الأمن القومي في إدارة أوباما، لصحفية هآرتس الاسرائيلية، أن رحيل الحريري يبشر بآخر تصعيد للتوترات بين السعودية وإيران في المنطقة، مع ما يترتب على ذلك من آثار كبيرة على إسرائيل.
ومع القيادة السعودية الجديدة نسبياً التي يجسدها الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الحريصان على مقارعة إيران من اليمن إلى سوريا إلى لبنان، يبدو أن خطوة الحريري تدعم تأكيد شابيرو بأن “السعوديين يحاولون خلق السياق لوسائل منافسة مختلفة مع إيران في لبنان: وعلى رأسها حرب إسرائيلية ضد حزب الله.”
وخلال العام الماضي، استغلت إسرائيل كل فرصةٍ رسمية وإعلامية ممكنة لإرسال الرسالة التالية: مع حشد حزب الله قوةً وخبرةً وأسلحةً غير مسبوقة، فإن الحرب مع إسرائيل ليست إلا مسألة وقت، مما سيحدث أضراراً واسعة النطاق على البلاد تتخطى بكثير ما حصل عام 2006.
ويرى الكثيرون، ومن ضمنهم حُماته السعوديون، أن الحريري، الذي تقاسم الحكومة مع حزب الله، يمنح الحزب العسكري الغطاء الشرعي. وعلاوة على ذلك، وفي الوقت الذي كان فيه الحريري مشغولاً بالحضور السياسي اليومي، كان حزب الله يشدد من قبضته على البلاد.
وبالتالي، من خلال سحب الحريري من منصبه، قد يأمل السعوديون في ضمان أن يتحمل حزب الله اللوم والمسؤولية عن التحديات التي يعيشها لبنان، بدءاً من الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية الملحة، وصولاً إلى رعاية اللاجئين السوريين والتخلص من القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تفاقم التوترات في البلاد، إلا أنه سيصرف أيضاً معسكر الحريري عن حزب الله.
ومع ذلك، وفي حين أشارت التقارير إلى تنامي العلاقات بين تل أبيب والرياض وأبوظبي، فإنه من غير المحتمل أن تتجه إسرائيل إلى الحرب بناءً على طلب السعودية. وفي الوقت نفسه، يبدو أن حزب الله، الذي تعرض لغاراتٍ جوية إسرائيلية عدة مراتٍ في سوريا، لا يبدو مولعاً بالدخول في مواجهةٍ أخرى على أرضه، الأمر الذي سيؤدي بالتأكيد إلى تفاقم المشاعر العامة السلبية تجاه الحزب.
وفي 8 نوفمبر 2017، وبعد أيامٍ قليلة من اجتماعه بالحريري في العاصمة اللبنانية، ظهر ولايتي في مدينة حلب السورية، التي أخرج الجيش السوري المتمردين منها بعد حصارٍ العام الماضي بمساعدة من طهران. ونقلت إحدى وسائل الإعلام التابعة لحزب الله قوله أن “خط المقاومة يمتد من طهران ويمر عبر بغداد ودمشق وبيروت، للوصول إلى فلسطين.”
ويبدو أن المشكلة، في جوهرها، تتمثل بالتأثير الإيراني المتضخم على العديد من المدن العربية الرئيسية، الأمر الذي لم يعد بإمكان السعوديين تحمله. وإلى الآن، المعلومات عن مكان تواجد الحريري شحيحة، إلا أن الخطاب السعودي ضد إيران تسارع بشكلٍ كبير منذ أن أطلق الحوثيون المدعومون من إيران، صاروخاً على مطار الرياض في 4 نوفمبر 2017.
وفي ضوء التغيرات الجيوسياسية الأخيرة، ربما اختار السعوديون بيروت كساحةٍ جديدة لمعركة مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. ففي النهاية، حزب الله هو قصة نجاح الحرس الثوري الإيراني، الذي يجري اليوم أيضاً محاكاته في اليمن والعراق.