وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الدول تأتي وتزول: ما هو الإرث الذي ستتركه إسرائيل في المستقبل؟

من دون المساءلة، فإن إرث إسرائيل قد يكون في نهاية المطاف فرصة ضائعة لتحقيق المصالحة والأمن الدائم.

 إسرائيل في المستقبل
شن الجيش الإسرائيلي غارة جوية على مسجد القسام ومحيطه في مخيم النصيرات للاجئين مما تسبب في دمار كبير بالمسجد وبالقرب من المباني في مدينة غزة، غزة في 27 نوفمبر 2024. علي جاد الله / الأناضول عبر وكالة فرانس برس

نيقولاوس فان دام

في صيف عام 1964، قبل ستين عامًا من الآن، كنت طالبًا أتنقل بالتوصيل المجاني مع دبلوماسي جزائري من بيروت إلى دمشق. بينما كان يقود سيارته الرياضية ذات اللّون الأزرق الداكن، رفع صوته فجأة وقال: “إسرائيل تشكل ورمًا خبيثًا في قلب الأمة العربية!” الآن وبعد مرور الزمن، أصبحتُ على يقينٍ أن هذا التصريح كان مبرَّرًا تمامًا من المنظور العربي، وأن هذا الشعور لم يضعف بل أصبح أقوى مع مرور الزمن.

وبعد أسبوع من ذلك، كنت أتجول في البلدة القديمة في القدس الشرقية العربية، التي لم تكن آنذاك تحت الاحتلال الإسرائيلي. هناك أعطاني فلسطيني مسيحي منشورًا نصّ فيه ما يلي :

– “إذا كنت معاديًا للسامية لأنني أعارض احتلال وطني من قبل اليهود الصهاينة؛

– إذا كنت معاديًا للسامية لأنني أقاوم طرد شعبي من فلسطين على يد اليهود الصهاينة؛

– إذا كنت معاديًا للسامية لأنني أعارض تدمير قُرانا الفلسطينية على يد اليهود الصهاينة؛

– إذا كنت معاديًا للسامية لأنني ضد استيلاء اليهود الصهاينة على أراضينا وممتلكاتنا؛

– إذا كنت معاديًا للسامية لأنني أعارض قتل الفلسطينيين على يد اليهود الصهاينة؛

– إذا كنت معاديًا للسامية لأنني أرفض اغتصاب النساء الفلسطينيات على يد اليهود الصهاينة؛

(وتبع ذلك قائمة أخرى من الجرائم التي يمكن تصنيفها كجرائم حرب إسرائيلية)؛

– إذن، أنا معادٍ للسامية، وأفخر بذلك.”

حدث ذلك في عام 1964، بعد ستة عشر عامًا من تأسيس دولة إسرائيل. كانت عمليات التطهير العرقي للفلسطينيين من أجزاء كبيرة من فلسطين، وما صاحبها من جرائم حرب إسرائيلية، لا تزال حاضرة في الذاكرة. وخلال العقود الستة الماضية، شهدنا العديد من حالات التطهير العرقي الجديدة. في الوقت عينه، أصبحت أسطوانة اتهامات “معاداة السامية” الإسرائيلية الصهيونية مشروخة لدرجة فائقة، وفقدت إلى حد كبير جوهرها. وغالبًا ما تُستخدم هذه الاتهامات كوسيلة للابتزاز لعرقلة أي انتقاد مبرَّر لإسرائيل. لن أُفاجأ إذا كانت هذه الصورة من الابتزاز تشجع على معاداة السامية في النهاية بدلًا من منعه. وبينما لا يزال الكثيرون يتأثرون بهذا النهج الصهيوني، يبدو أن رد فعل عكسي في المستقبل ليس مستبعدًا على الإطلاق.

لقد مرت عقود واندلعت حروب جديدة، شنت خلالها إسرائيل هجمات على جيرانها الأقرباء وأعدائها البعيدين: غزة، الضفة الغربية، سوريا، لبنان، الأردن، العراق، مصر، السودان، تونس، وإيران، واليمن. حيث أصبحت بعض هذه الدول هدفًا متكررًا لدرجة أن الهجمات الإسرائيلية لم تعد خبرًا مثيرًا.

تُبرر إسرائيل هذه الهجمات غالبًا بحجة “حقها في الدفاع عن النفس” وادعائها الشعور بالتهديد. ولكن الواقع هو أن إسرائيل هي التي خلقت هذا التهديد – إن وجد أصلًا – من خلال جرائمها الحربية الغير الإنسانية. ومع ذلك، فإنها لا تتحمل أي مسؤولية تجاه هذا العنف. إن إسرائيل تلقي اللّوم باستمرارٍ على الفلسطينيين والعرب الآخرين وإيران. ويتم ترديد هذه الرواية دون تمحيص وتدعمها العديد من الدول الغربية والمتعاطفين المتحمسين مع إسرائيل. وفي واقع الأمر، تتمتع إسرائيل بتفوقٍ عسكريّ وتقنيّ ساحق في المنطقة، ولذلك، فهي تشكل تهديدًا أكبر بكثير للآخرين مما يشكله الآخرون لها.

والحجة الدعائية الأخرى لإسرائيل هي “حقها في الوجود”. أي شخص يشكك في هذا الحق يُتهم تلقائيًا بمعاداة السامية. ولكن في الواقع، الدول لا تمتلك حقًا أبديًا في الوجود؛ فهي تأتي وتزول. هذا هو درس التاريخ. الإمبراطورية الرومانية، وإمبراطوريتا الأمويين والعباسيين، والإمبراطورية المغولية، والدولة العثمانية، و”الرايخ الثالث”، والاتحاد السوفيتي—جميعها اختفت أو استُبدلت بكيانات أخرى.

من التطورات الأحدث الحدود الجديدة التي فرضتها إسرائيل من جانب واحد وغير المعترف بها، والتي تشكلت من خلال ضم القدس الشرقية ومرتفعات الجولان، بالإضافة إلى الضم الفعلي للضفة الغربية. ولا يمكن استبعاد المزيد من عمليات الضم غير القانونية من قبل إسرائيل في المستقبل. ومع ذلك، فإنّ تاريخ الشرق الأوسط (وأجزاء أخرى من العالم) يُظهر أن من يسعون إلى تحقيق أهداف تفوق ما هو واقعي قد ينتهون في النهاية بحصولهم على أقل مما كانوا يتوقعونه—أو لا شيء على الإطلاق.

مع الأخذ بعين الاعتبار التجاوزات الإسرائيلية وجرائم الحرب، يبدو من المحتمل – بل وربما حتمي – أن تواجه إسرائيل مصيرًا مماثلًا للدول السابقة. السؤال ليس ما إذا كان هذا سيحدث، بل متى وبأي شكل؟ هل سيكون في القرن الثاني والعشرين أو بعده؟ لن أكون موجودًا لأشهد ذلك، وكذلك أحفادي.

بحسب المعايير الحديثة، من يمتلك حق الوجود هم الشعوب، وليس الدول. ومع ذلك، فقد شهد التاريخ العديد من الإبادات الجماعية – الجرائم التي استهدفت شعوبًا بأكملها – مثل ما حدث ضد الأرمن، واليهود (والغجر)، وفي كمبوديا على يد الخمير الحمر، وفي رواندا ضد التوتسي، وفي البوسنة ضد المسلمين البوسنيين، وضد الإيزيديين على يد تنظيم الدولة الإسلامية، وضد السكان الأصليين في الأمريكتين على يد المستعمرين الأوروبيين، وضد الأويغور والروهينغيا، وفي الكونغو تحت حكم الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، وضد مجموعات أخرى. ولحسن الحظ، لم ينجح المجرمون في القضاء على هذه الشعوب بشكل كامل، لكن بعض تلك الشعوب لم يتبقَ منها سوى القليل.

في الوقت الحاضر، تحدث مجزرة جماعية أو إبادة جماعية جديدة، هذه المرة تُنفَّذ من قِبل الإسرائيليين اليهود ضد الفلسطينيين. لقد أصبح أحفاد ضحايا المحرقة اليهودية السابقة هم الجناة الآن، مما حول بعض اليهود المتورطين إلى “شعب الجلاد”. المدهش في هذه الإبادة الجديدة هو أنها تحظى بدعم العديد من الدول الغربية وأطراف أخرى متعاطفة مع إسرائيل، في حين أن جرائمها تُشاهد وتُتابع يوميًا عبر وسائل الإعلام. كان شعار “لن يتكرر ذلك أبدًا” الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية يجب أن يتحول إلى “لا يتكرر ذلك الآن!”، لكن القليل فقط من المؤثرين على إسرائيل يرغبون في اتخاذ أي إجراء لوقف ذلك.

عادة ما يأتي الإدراك بأنهم “على الجانب الخطأ من التاريخ” متأخرًا، بعد أن يصبح الأوان قد فات، وبعد أن تكون عمليات الإبادة والاستئصال والتدمير قد وقعت وأصبحت غير قابلة للتراجع.

كيف يمكن للفلسطينيين وجيرانهم العرب أن يغفروا لإسرائيل كل ما ارتكبته بحقهم؟

ماذا يمكننا أن نتوقع للمستقبل؟ بالنظر إلى السلوك الإسرائيلي العنيف الحالي، فمن المرجح ألا يكون هناك شيء سوى المزيد من الحروب، حتى تصبح المنطقة بأكملها في حالة دمار أكبر، أو حتى تختفي إسرائيل على المدى الطويل. السلام الحقيقي أصبح مستحيلًا بسبب أفعال إسرائيل نفسها. فلا تترك إسرائيل أي فرصة إلا وتقوم بإحباط أي إمكانية لتحقيق السلام، ويتم دعمها بشكل صريح أو ضمني من قبل العديد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

كلما ارتكبت إسرائيل المزيد من العنف وجرائم الحرب، قلّ شعورها بالأمان في المستقبل. إنها هروب إسرائيلي عبثي وخطير إلى الأمام. يبدو أن العديد من السياسيين ومؤيدي إسرائيل أغبياء للغاية لدرجة أنهم لا يريدون فهم ذلك.

السؤال هو: ما الذي يمكن أن تفعله إسرائيل بأفضل طريقة ممكنة بين الآن ولحظة توقفها عن الوجود بشكلها الحالي؟ ما الذي تفضل أن يكون ارثها المستقبلي؟ لدى المصريين الأهرامات والفراعنة. لدى البابليين الكتابة المسمارية، علم الفلك والرياضيات، وقانون حمورابي. لدى العرب في الاندلس قصر الحمراء، التسامح الديني والثقافي، والعديد من الآثار الأخرى لحضاراتهم التي استمرت ثمانية قرون هناك. لدى الألمان فلاسفة ومثقفون وعلماء وموسيقيون وكتاب عظماء، بينما كان للنازيين الألمان المحرقة والحرب العالمية الثانية وجرائم الحرب وتدميرأوروبا.

لليهود الوصايا العشر (الموجهة بشكل رئيس لأنفسهم)؛ ولديهم فلاسفة عظماء مثل موسى بن ميمون وسبينوزا وبوبر، بالإضافة إلى مثقفين وعلماء مثل ماركس وأينشتاين، وموسيقيين مشهورين. ولكن ما هو الإرث الذي ستتركه إسرائيل في الشرق الأوسط؟ القتل الجماعي بمساعدة الذكاء الاصطناعي والعديد من جرائم الحرب الأخرى والتجسس عالي التقنية والقوة النووية الأولى في المنطقة؟

إسرائيل تختار حاليًا الحرب فقط، في حين أن لديها خيارات واضحة لتحقيق السلام؛ لكنها ترفضها. وهذا الرفض لا يجلب سوى المزيد من مشاعر الانتقام والكراهية. فقط الأشخاص الأغبياء أو الذين يفتقرون إلى المسؤولية يختارون الحرب عندما يكون لديهم خيار السلام.

الغطرسة الإسرائيلية تسبق السقوط؛ ولهذا السبب ستستمر الحروب على المدى الطويل، حيث يبدو أن الحكام الإسرائيليين – على الأقل كما يظهر – لا يكترثون إذا جروا الكثير من الآخرين معهم إلى الهاوية. إنها “إسرائيل فوق الجميع “. ستكون من الأفضل لإسرائيل أن تفكر في إرث مستقبلي أحسن.

الطريقة الرئيسة لمنع استمرار الحروب التي لا نهاية لها هي إجبار إسرائيل على السلام، لصالحها ولصالح أعدائها. أولئك الذين يرفضون التعاون لتحقيق ذلك يتحملون مسؤولية مشتركة عن المستقبل المشؤوم لإسرائيل وللمنطقة بأسرها. ولكن بما أنهم غير مستعدين لذلك، ستستمر الحرب في الوقت الحالي، بكل ما يترتب عليها من عواقب.